الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إشرافه على دار الكتب المستنصريّة
وسفراته إلى أذربيجان وغيرها
وقد توصّل ابن الفوطيّ الى أن يكون مشرفا على دار كتب المدرسة المستنصرية وخزانة كتبها على الوجه الصحيح، لأنّ دار كتب المستنصرية لم تكن مفصولة عنها، وكانت خزانة حافلة بالوف مجلّدات من الكتب على اختلاف أنواعها، قيل: إنّها احتوت على ثمانين ألف مجلّد أكثرها نفيسة، بخطوط منسوبة أو رائقة، وقد وصفها وصفا موجزا في ترجمة قطب جهان أبي المحامد حمد بن عبد الرزّاق الخالدي قاضي قضاة الممالك، قال:«قدم علينا بغداد في خدمة أخيه، لما قدمها صحبة العسكر الإيلخاني سنة ست وتسعين وستمائة، وحضر عندنا في خزانة كتب المدرسة المستنصرية في جماعة من علماء قزوين، فلمّا عاين تلك الكتب المنضّدة، والتي لم يوجد مثلها في العالم، لم يطالع منها شيئا، لكنّه سأل: «هل تحتوي هذه الخزانة على الهياكل السبعة؟ فقد كان لي نسخة مذهّبة، شذّت عني أريد أن أستكتب عوضها (1)» .واعتراف ابن الفوطيّ بأنّ كتب المستنصرية لم يوجد مثلها في العالم، مع علمه بخزانة كتب الرصد بمراغة المقدّم ذكرها، شهادة بأنّها كانت أجلّ وأنفس من خزانة كتب الرصد على وفارة كتبها.
وقد ذكر ابن الفوطيّ أنّه كان مشرفا على خازن كتب المستنصرية، محيي الدين أبي المحامد يحيى بن إبراهيم الخالدي المتوفّى سنة 682 هـ فولايته الإشراف إذن كانت قبل تلك السنة؛ وذكر في موجز السيرة لبعض الفضلاء، أنّه
(1)(راجع ترجمته في الملقّبين بقطب من هذا الكتاب).
أخذ من خزانة كتب المستنصرية كتاب «المصابيح» سنة 687 هـ.وهذا يعني كينونته في المستنصرية مشرفا أو خازنا في تلك السنة، والأوّل أقرب الى الواقع؛ فقد ذكر أنّ مجد الدين أبا عبد المجيد بن عبد الله الصبّاغ البغدادي الحكيم الطبيب المعروف بسنجر قدم بغداد سنة 688 هـ ومعه فرمان بخزانة كتب المستنصرية؛ وكان ابن الفوطيّ في سنة 698 هـ على وظيفته في خزانة الكتب المذكورة، على ما ذكر هو في موجز سيرة فاضل من الفضلاء. وفي ترجمة السلطان محمود (1) غازان بن أرغون ابن أباقا بن هولاكو، يقول:«وقدم غازان مدينة السلام، وصلّى صلاة الجمعة في جامع السلطان، ودخل الى خزانة الكتب بالمدرسة المستنصرية؛ ومعه رشيد الدين [فضل الله الوزير]، وفي خدمتهم جماعة من المقرّبين؛ وكنت يومئذ مع جمال الدين ياقوت [المستعصمي] الخازن» .وذكر في أثناء التراجم أنّه كان بخزانة الكتب سنة 699 هـ، ويذكر المؤرّخون أنّه تولّى أمر خزانة الكتب حتى وفاته سنة 721 هـ، قال الذهبي:«وولي خزانة كتب المستنصرية، فبقي عليها واليا إلى أن مات (2)» .وقال زين الدين بن رجب:
«وولي خزن كتب المستنصرية، فبقي عليها إلى أن مات (3). وهذا قول بالجملة؛ وأمّا القول بالتفصيل فينبغي أن تطرح من هذه البرهة الأزمان التي سافر فيها من بغداد الى بلاد الفرس وأذربايجان، مدعوّا أو منتجعا أو شاكيا أو زائرا، والأزمان التي أقامها هناك. والمهم في هذا الأمر أنّه كان يلي أمر الخزانة المذكورة قبيل وفاته؛ وليس في نصوص التاريخ ما يدفع ذلك، ولا يعد ذلك وهما من المؤرّخين المذكورين ولا ممّن تابعهما عليه (4)، كما أيقن بعضهم تسرّعا وتترّعا مع اعترافهم
(1)(كان قدومه بغداد سنة 696 هـ، كما ذكر هو في ترجمة قطب جهان حمد الخالدي المقدّم ذكره).
(2)
(تذكرة الحفّاظ 4: 274، 275).
(3)
(ذيل طبقات الحنابلة 2: 374، طبعة مطبعة السنّة المحمّدية بالقاهرة).
(4)
(الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 2: 364. -
بأنّ الاستنابة في ولاية الخزانة قد جرت العادة بها (1).
ووجدنا في التراجم التي أثبتها ابن الفوطيّ في الجزءين من أجزاء «تلخيص معجم الألقاب» ما يدلّ على أنّه كان ببغداد سنة «700 هـ» وسنة «702 هـ» حتى سنة «703 هـ» وبعض سنة «704 هـ» ففي هذه السنة قصد ابن الفوطيّ مقرّ السلطان غياث الدين محمد أولجايتو خربنده بن أرغون بن أباقا ابن هولاكو في أذربيجان، وكان تولّي سلطان جديد في عصر الدولة الإيلخانية، يعني في الأعم الأغلب، تبديلا في السياسة، وتغييرا في المظاهر، واستبدالا برجال الحكم والقضاء، كما جرت العادة به في أكثر الدول الوراثية الحكم، العاطفية السياسة. وخصوصا بعد أن أسلم السلطان غازان، وهو أخو السلطان الجديد الماضي الذي سلبه الموت سلطانه، فصارت الدولة الإيلخانية دولة مسلمة خارجة عن حيّز قانون جنكيز خان، وكتابه الشرعي المعروف باليسق أو إلياسه، فكانت الآمال المزمومة، والرغبات المكتومة، والمطامع المكظومة، سرعان ما تنطلق في الحكم الجديد لنيل المراتب والمناصب، أو للشكوى وذكر المثالب للانتقام والصّدام، يضاف ذلك إلى أنّ أرباب المناصب بالعراق لم يكن لهم بدّ من الجدّ والاجتهاد في الحفاظ على مناصبهم، فضلا عن أرواحهم في عصر كانت تراق فيه الدماء بأوهى الأسباب، معدودة أقرب عقاب، فكان الناس يدافعون عن أنفسهم ومناصبهم في بلاط السلطان الإيلخاني، لكثرة التحاسد والتنافس والسعايات، والتماكس في الولايات، والاستباق في الوشايات، ذلك لأنّ اولئك الملوك كانوا غرباء، فلم يكونوا من أهل البلاد، ولا من أصل سكّانها، ولم يكن لهم علم بأحوال الولاة والحكّام والمتصرّفين، سوى ما يقفهم عليه
- وراجع ترجمتنا له فيما نشرناه باسم «الحوادث الجامعة» وليس به «الصفحة ص» من المقدّمة).
(1)
(ذكر في ترجمة عزّ الدين المنصوري أنّه أعاد عليه جامكية الاشراف سنة 712 هـ».
رجال البلاط من المسلمين المقرّبين الموثّقين عندهم حسب. وكان الحفاظ على المناصب يستوجب إيفاد الوفود إلى حضرة السلطان الإيلخاني، وسدّة وزيره، ومقام كبراء الدولة الحافين به، والامراء المكناء عنده مستحقبين الوصايا والهدايا، ويحضر أحيانا أرباب المناصب بأعيانهم. ولا يبعد أن يكون ابن الفوطيّ ممّن أصابه حيف، أو ممّن سعوا في تحقيق أمل كان مزعوما أو دعي إلى عمل فسافر إلى حضرة السلطان المذكور، وتعرف تلك الحضرة بالأوردو (الكلمة التركية المغولية) أي المخيّم والمعسكر بالعربية، وقد ذكر ابن الفوطيّ في كتابه المذكور أنّه سافر الى الأوردو سنة 704 هـ مع النقيب الطاهر رضي الدين أبي القاسم (1) علي بن طاوس الحسينيّ.
وأغلب ظنّي أنّ ابن الفوطيّ سافر إلى حضرة السلطان محمّد أولجايتو، بدعوة من أصيل الدين الحسن بن نصير الدين الطوسيّ، وترغيب من رشيد الدين فضل الله الوزير، أو أحد أتباعه للنسخ والمقابلة، لأنّ خطّه كان جميلا ونسخه كان سريعا، على ما ذكر المؤرّخون ولا سيّما الصلاح الصفدي، يؤيّد ذلك الظنّ الغالب أنّ ابن الفوطيّ قال في ترجمة عفيف الدين محمد القاشي النقّاش: «رأيته بأرّان في مخيّم السلطان، وهو ينقش في كتاب المولى الوزير الحكيم رشيد الدين سنة خمس وسبعمائة، وفي سنة 706 هـ كان بتبريز، كما صرّح به في ترجمة قطب الدين محمد ابن عمر بن أبي الفضل التبريزيّ الفقيه القاضي نائب قاضي القضاة (2)، وكان فيها أيضا سنة 707 هـ كما ذكر في ترجمة عزّ الدين الحسين بن سعد الله بن حمزة العلويّ العبيدليّ (3)، وسافر في السنة نفسها الى السلطانية، كما صرّح به في ترجمة عزّ الدين بن محمود الشرواني
(1)(هذا رضي الدين علي بن طاوس الأصغر لا الأكبر المتوفّى قبل ذلك بسنين غير قليلة).
(2)
(راجع ترجمته في الملقّبين بقطب الدين من هذا الكتاب).
(3)
(ترجمته في الملقّبين بعز الدين من هذا الكتاب).
المعروف باليامجي (1)؛ وترجمة مجد الدين اسماعيل بن يحيى الشيرازي القاضي.
ولبث ابن الفوطيّ في أذربيجان في معسكر السلطان أولجايتو، ومعيّة أصيل الدين الحسن بن نصير الدين، ورعاية الوزير رشيد الدين من سنة 704 هـ إلى سنة 707 هـ أي ثلاث سنوات أو أقل منها، ولم يبق ست سنوات كما قال بعض الباحثين، ألا تراه يقول في ترجمة القاضي عزّ الدين الحسن بن القاسم ابن هبة الله النيلي المالكيّ قاضي قضاة العراق: «وشهدت عنده في
…
سنة ثمان وسبعمائة من غير تزكية أحد، وذكر للقاضي تاج الدين علي بن أبي القاسم السبّاك أنّني عنده عدل ثقة، فأثنى مولانا تاج الدين أيضا (2)».وفي هذا الخبر دلالة على أنّ ابن الفوطيّ جعل من الشهود المعدّلين بمدينة السلام بغداد في سنة 708 هـ، وأنّه كان فيها في تلك السنة، وكان ببغداد أيضا في سنة 709 هـ (3) فقد قال في ترجمة محيي الدين أحمد بن اللّيثي الفقيه: «ولمّا خرج والده من بغداد كان في خدمته وانتقل إلى شيراز وأقام بها
…
وجاءنا نعيّه سنة تسع وسبعمائة
…
».
فقوله: «وجاءنا نعيّه» اصطلاح تاريخي يقوله المؤرّخ حينما يكون مقيما في بلده، فيجيئه نعيّ المترجم. فان كان في غير بلده عند ورود النعيّ ذكر البلد الذي هو فيه.
وقد كان ابن الفوطيّ في سنة «710 هـ» بالسلطانيّة (4) وهذا يعني أنّه ترك
(1)(ترجمته في الملقّبين بعز الدين من هذا الكتاب).
(2)
(راجع ترجمته في الملقّبين بعز الدين من هذا الكتاب).
(3)
(وقع في معين هذا الموجز من سيرة ابن الفوطيّ «تسعمائة» من غلط الطبع، راجع مجلّة المجمع العلمي العراقي مج 9 ص 72).
(4)
(قال عبد الرشيد بن صالح في تلخيص الآثار: السلطانيّة هي المدينة الجديدة بأرض الجبال بين قزوين وزنجان، بناها السلطان أولجايتو محمد بن أرغون خان سنة خمس وسبعمائة، من أجل بلاد الله وأحسنها هواء وماءا وأعجبها عمارة، بها قصر لكل أمير ووزير، بها دار [السلطان] ولها أسواق عجيبة ومدارس شريفة
…
).
العراق سنة «709 هـ» أو سنة «710 هـ» إلى أذربيجان ومدينة السلطان. قال في سيرة عماد الدين (1) الحسن بن الحسين الاستراباذي: «اجتمع به ابنه أبو المعالي محمد، لما عبر باستراباذ في جمادى الاولى سنة عشر وسبعمائة، لمّا جاء إليّ بالسلطانية من بغداد فأشكره عندي (كذا) وقال: أنشدني وكتب لي بخطّه
…
».
والظاهر لنا أنّ ابن الفوطيّ عاد الى بغداد مستصحبا ابنه أبا المعالي محمدا؛ فقد قال في ترجمة عزّ الدين محمد بن محمد القوهذي الرازي: «
…
اجتمعت بخدمته بهول جغان من أرّان سنة خمس وسبعمائة
…
وقدم بغداد في حضرة الوزير الأعظم تاج الدين علي شاه في ذي الحجّة سنة اثنتي عشرة وسبعمائة؛ وهو محمود السيرة وحضرته ولم أذكر له شيئا من حالي (2)».فابن الفوطيّ كان ببغداد في سنة 712 هـ أيّام قدوم علي شاه الوزير إيّاها. والظاهر أنّ حاله التي لم يذكر منها شيئا للوزير، هي عزل جمال الدين عبد الله بن محمد بن علي العاقولي، قاضي القضاة، له عن ولاية شيء من الأوقاف كان يليه؛ فانّ ابن العاقولي في سنة 712 هـ صار إليه أمر الأوقاف، فعزل ابن الفوطيّ عمّا كان يليه، ولم نقف على سبب عزله سوى ما يبادر الى الذهن أوّل وهلة من كونه مقصّرا، أو كون ولايته مخالفة لشرط الواقف، كأن يكون شافعيا: مع أنّ ابن الفوطيّ حنبليّ، وهو ما نستشفّه من الأخبار في ترجمة عزّ الدين الحسين (3) بن علي بن محمد الخواري قال في ذكره: «حصل بيني وبينه معاملة من جهة الوقف، وكان يشتري ثمرة البستان الديباجي الموقوف على رباط الكاتبة [شهدة] بنت الإبريّ. ولمّا ولي ابن العاقولي وكنت قد بعته منه واستسلفت ثمنه للزحمات التي كان أصلها تولية ركن الدين العلويّ
…
».وقال في ترجمة عزّ الدين الحسين (4) بن محمد بن عبيد الله
(1)(راجع ترجمته في الملقّبين بعماد الدين من هذا الكتاب).
(2)
(راجع ترجمته في الملقّبين بعز الدين من هذا الكتاب).
(3)
(راجع ترجمته في الملقّبين بعز الدين من هذا الكتاب).
(4)
(راجع ترجمته في الملقّبين بعز الدين من هذا الكتاب).
ابن النيّار البغدادي: «وناب قبيل الواقعة الصّماء التي عمّت الناس بتولية جمال الدين عبد الله العاقولي
…
وعزلني ابن العاقولي عمّا كان بيدي، فتركت الترداد إليهم، وذلك سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، وقد ذكرت ذلك مستوفى في «التاريخ على الحوادث المرتّب على السنين» والله المستعان على جفاء [الزمان]».وهنا اعترف ابن الفوطيّ بأنّه قد سبّ وشتم وثلب وذمّ.
وكان بعض أصدقاء ابن الفوطيّ يحسب أنّ الرجاء والتوسّل والضراعة تعيد ابن الفوطيّ الى ولايته للوقف المذكور، إلاّ أنّه لم يفعل ذلك وكأنّه ندم على ذلك (1). وقد علمنا ممّا نقلنا أنّه كان ببغداد في سنة 712 هـ، كما ذكرنا آنفا، وقد حرم رزقه من نظارة الوقف، كما قال هو نفسه، مدّة سنتين يعني الى سنة 714 هـ وهو مقيم ببغداد. وكان ممّا اشتغل به في تلك السنة مقابلة «جامع التواريخ» تأليف الوزير رشيد الدين، قال في ترجمة كمال الدين موسى بن عبد الله الأردبيلي:«وهو الآن بالمدرسة الغزانية (2)، سنة أربع عشرة وسبعمائة؛ وفي خدمته اتّفقت مقابلة كتاب «جامع التواريخ» الذي صنّفه المخدوم العادل رشيد الدين».ويؤيّد كونه ببغداد سنة 714 هـ ما قاله في ترجمة مجد الدين أحمد بن محمد بن سكينة، قال: «وقد أنعم جمال الدين بن العاقولي (3) وأمر بكتابة محضر ليأخذ له الرباط المنسوب إلى سكينة بالمشرعة
…
من بنات ابن سكينة. فكتبت
(1) (قال في موجز سيرة كمال الدين محمد بن عبد الله بن الحريميّ: انتسجت بيني وبينه مودّة مؤكّدة
…
وكان قد أشار عليّ [بأن أجتمع] بجمال الدين بن العاقولي، فلم أسمع وكان ذلك منه عن صدق نيّة وصفاء طويّة، فلم أقبل وحرمت رزقي مدّة سنتين، فكنت كما قال: أوسعتهم شتما وأودوا بالإبل).
(2)
(ذكر ابن الفوطيّ في موجز سيرة مجد الدين اسماعيل بن محمد البغدادي الصيدلاني أنّه من الجماعة الذين عيّن عليهم في الاشتغال بتصنيف المخدوم رشيد الدين الوزير بالمدرسة التي أنشأها بالغزاني بباب الظفرية سنة 713 هـ).
(3)
(غيّر ابن الفوطي ها هنا اسلوبه في ذكر ابن العاقولي).
له صورة النسب في ربيع الآخر سنة أربع عشرة وسبعمائة؛ وهو المستحقّ للنظر في الرباط المذكور لإفضاله ومعرفة أدبه».
كان ابن الفوطيّ بارعا، وناسخا مجوّدا، ومتقنا للّغة الفارسية، فكان اشتغاله بالمدرسة الغزانية في الظفرية من شرقي بغداد مخفّفا لمؤونة العيش. ولا أحسب أنّ اشتغاله في المدرسة المذكورة كان مقصورا على مقابلة الشيخ رشيد الدين الموسوم بجامع التواريخ، بل كان ينسخ ويقابل في أكثر تآليفه.
وفي شهر ربيع الآخر من سنة 716 هـ سافر ابن الفوطيّ الى السلطانية شاكيا أو مسترفدا؛ فقد كان يودّ عزل جمال الدين بن العاقولي عن الأوقاف، ولعلّه سعى في ذلك في تلك السفرة. ويفهم من موجز ترجمته لغياث الدين محمد (1) بن رشيد الدين الوزير أنّه عطف عليه. قال: «استدعاني الى خدمته ليلة النصف من شعبان الواقع في سنة ست عشرة وسبعمائة بالمدرسة الرشيدية المنسوبة الى [والده]، في جماعة من الأعيان والعلماء والأكابر والفضلاء، فصلّينا في داره العامرة، ولما انقضت الصلاة أمر بإحضار أهل الطّرب وما يتعلّق بأسباب الجمعيّا [ت] من الفواكه
…
وأنواع المشروب، وأحيينا تلك اللّيلة في خدمته».
وممّا يثبت سفرته المذكورة الى السلطانية قوله في سيرة عزّ الدين (2) أبي المظفّر يحيى بن شمس الدين محمد الجويني الكاتب: «ولمّا قصدت الحضرة، في شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وسبعمائة، كان عزّ الدين قد ظهر أنّه لم يقتل» ، وقوله في سيرة محيي الدين عبد القادر بن أحمد الصرصري: «وسمع مولانا قاضي قضاة الممالك شرقا وغربا نظام الحق والدين أبو المكارم عبد الملك بن محمد القزويني ثم المراغي قوله بمحروسة السلطانية في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وسبعمائة أو شافهه بالعدالة
…
»، وقوله في
(1)(راجع ترجمته في الملقّبين بغياث الدين من هذا الكتاب).
(2)
(ترجمته في الملقّبين بعز الدين من هذا الكتاب).
موجز ترجمة محيي الدين عيسى بن أبي المجد الشرواني: «واجتمعت بخدمته مع مولانا المعظّم الفاضل نجم الدين أبي بكر بن محمد الطشتي في دار قضاة الممالك نظام الحق والدين (1)، في أوائل جمادى الآخرة سنة ست عشرة وسبعمائة؛ وهو شيخ فاضل عالم، حسن الأخلاق» .وقال في سيرة مجد الدين عبد الكريم بن حاجي بن الياس المراغي: «رأيته بمحروسة السلطانية في المرّة الثانية، سنة ست عشرة وسبعمائة وكتبت منه ما لم أعرفه من الأحوال» .وقال في ترجمة عزّ الدين (2) طاهر بن محمد بن أبي بكر التبريزي: «رأيته مع عمّه عماد الدين المفضل، في حضرة سعد الدين هبة الله بن عبد المحسن الجوهري، بالسلطانية سنة ست عشرة وسبعمائة» .وفي مختصر سيرة عزّ الدين الحسين (3) بن أبي الفخر الجاردهي: «رأيته في بيوت الخاتون المعظّمة حاجية خاتون في شهر ربيع الآخر سنة سبع عشرة وسبعمائة» .
وقد أطلت في إثبات ذلك، لأنّ بعض الباحثين ادّعى أنّ ابن الفوطيّ عاد الى بغداد سنة 716 هـ، وذلك وهم مبين. وقد انصرمت سنة 716 هـ وسنة 717 هـ وابن الفوطي بالسلطانية؛ ولعلّه كان كما كان في سفرته الاولى ينسخ ويقابل، ويعين على التأليف، وربّما كلّف الترجمة من الفارسية الى العربية في خدمة رشيد الدين؛ ولعلّ السبب في الانصراف التام لخدمة الوزير المذكور هو وفاة مخدومه وابن أستاذه وحاميه أصيل الدين الحسن بن نصير الدين الطوسيّ سنة 715 هـ.
وفي سنة 718 هـ عاد ابن الفوطيّ الى بغداد. استدللنا على ذلك بأنّه ذكر خبرين لتعديلين جريا ببغداد ذكر رجل مقيم بها (4)، وكان التعديل الأوّل في شهر
(1)(يعني عبد الملك بن محمد القزويني المذكور قبيل هذا).
(2)
(موجز سيرته في الملقّبين بعز الدين من هذا الكتاب).
(3)
(يراجع موجز سيرته في الملقّبين بعز الدين من هذا الكتاب).
(4)
(تراجع ترجمة فخر الدين أحمد بن علي الهمداني وفخر الدين ابراهيم بن محمد -
رمضان، والتعديل الثاني في شوّال، فابن الفوطي عاد الى بغداد قبل هذين الشهرين من سنة 718 هـ، وفي شهر جمادى الاولى من تلك السنة، قتل الوزير ابن رشيد الدين بأمر من السلطان أبي سعيد بهادر خان بن السلطان محمد أولجايتو، ولمّا قتل الوزير المذكور كان ابن الفوطيّ ببغداد، والفرق بين جمادى الاولى وشهر رمضان ثلاثة أشهر في الأقلّ. وكان من توفيق الله تعالى له أنّه عاد قبل قتل الوزير، ولولا ذلك ما سلم من الأذى، لأنّه كان في خدمته ومن أتباعه، وإن كان في زمرة الناسخين والكتّاب، ففي ساعة الغضب وعسر الحساب لا يتحدّد الأذى والعقاب.
واستمرّ ابن الفوطيّ على الإقامة ببغداد من سنة 718 هـ الى سنة 723 هـ وفيها توفّي مفلوجا عن إحدى وثمانين سنة، وكانت وفاته في آخر نهار الاثنين غرّة المحرّم؛ وقيل في ثالثه، وقيل في ثاني عشره من تلك السنة، وكانت مدّة إصابته بالفالج أكثر من سبعة أشهر، ودفن في الشونيزية مقبرة الصوفية، وهي أقرب الى شرقيّ بغداد من مقبرة الإمام أحمد بن حنبل بباب حرب؛ وإن كانتا بالجانب الغربيّ، وكانت على سيرة ابن الفوطيّ مسحة من التصوّف، وإن ظئر عليه ظأرا بأسباب مختلفة، فالتعوّد باستمرار الزمن يكون عادة، وكان هو صوفي السيرة والمعيشة دون المشرب والذوق. وربّما كان في دفنه هناك سبب لا نزال نجهله ممّا يخصّ سيرة ابن الفوطيّ من حيث الوفاء بحقوق المذهب الحنبلي وسلوك الطريقة السلفيّة والقيام بالفرائض والسّنن.
- السمرقندي من هذا الكتاب).