الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إزاء هذا التوسع الجغرافى الهائل، وإزاء ضغط الظروف التاريخية الجديدة دائبة التغير، واختلاف المكان والزمان، تلمس المسلمون وفقهاؤهم الدليل
…
الهادى
ومع أن الرسول لم يدع قط أنه معصوم من الخطأ إلا حين يملى أو يتلو آيات ربه، بل ونبهه القرآن ذاته إلى أخطاء بدرت منه، فقد افترض أنصار الالتزام بالسنة أن العناية الإلهية إنما كانت توجه كل عمل أتى به، وكل كلمة صدرت عنه منذ بعثه الله رسولاً إلى قومه إلى أن مات. ومن ثم فقد رأوا أن أحكام السنة ملزمة فى الحالات التى لم يرد بصددها حكم قرآنى.
ومما ذكره الكاتب هنا تظهر آراؤه الآتية:
1 ـ إنكار صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، فالقرآن الكريم جاء بشريعة قاصرة، لا تصلح لغير المجتمع الأول فى مكة والمدينة.
2 ـ الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إلى قومه، أى أنه لم يرسل إلى الناس كافة.
3 ـ الرسول صلى الله عليه وسلم غير معصوم، فلا يجب اتباعه.
4 ـ الذين رأوا وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم طائفة فقط من المسلمين أسماهم الكاتب " أنصار الالتزام بالسنة ".
وهذه الآراء تعارض الكتاب والسنة، وتنكر ما أجمعت عليه خير أمة أخرجت للناس، وما هو معلوم من الدين بالضرورة.
والدراسة الموجزة السابقة فيها ما يكفى لبيان هذا، ومناقشة علماء الأمة لأعدائنا أبطلت مثل هذه المفتريات، ولكن العجب كل العجب أن تصدر هذه الآراء ممن ينسب نفسه أو ينسبه أحد إلى الإسلام!
ثانياً: التشكيك فى كتاب الله المجيد
يقول الكاتب فى ص 38: صحيح أننا نعلم أن الصحابى عبد الله بن مسعود ـ وكان يعتبر نفسه أحد الثقات الكبار فى القرآن ـ ذهب إلى أن نسخة القرآن التى أقرها الخليفة عثمان بن
عفان محرفة غير كاملة، واتهم زيد بن ثابت وأصحابه ممن جمعوا القرآن باستبعاد آيات تلعن الأمويين، غير أن هذا الاتهام غير مقبول، فقد كان على بن أبى طالب والكثيرون غيره من الصحابة أحياء وقت قيام زيد بمهمته، ولم نسمع أن أحدهم أيد زعم ابن مسعود، واحتج على استبعاد آيات.
ثم يقول فى ص 48: وقد اتهمه ـ أى عثمان بن عفان رضى الله عنه ـ هؤلاء الخصوم بأنه قد حذف من مصحفه خمسمائة كلمة أوردتها مصاحف أخرى كمصحف الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود.
وفى الصفحة ذاتها يقول: وقد حكى عن عبد الله بن مسعود أنه كان شديد الخشية من أن يغير من نص كلمات الرسول، فكان لا يحدث عنه إلا أضاف قوله:" والحديث إما فوق ذلك وإما قريب من ذلك، وإما دون ذلك. "
ثم يقول فى ص 83: وقد أبى بعض مفكرى اليونان وروما الأقدمين ـ مثل فيثاغورث ونومابومبيليوس ـ أن يخلفوا نصوصاً تكبل فكر التابعين، فأحرقوا قبيل وفاتهم ما كتبوا أو أوصوا بأن تدفن كتاباتهم معهم، حتى يتيحوا لكل جيل فى كل قطر أن يخرج بفكر يناسب عصره وبيئته.
وقد يقال إن نبى الإسلام أيضاً لم يأمر بجمع القرآن، بدليل أن الخليفة أبا بكر تردد حين عرض ابن الخطاب عليه الفكرة، قائلاً لعمر إنه لايستطيع أن يقدم علي ما لم يقدم عليه النبى، ولا أوصى به قبل وفاته. غير أن الافتراض الأساسى فى الدين ـ أى دين ـ هو أن تعاليمه الواردة في النص المقدس صالحة للكافة في كل زمان ومكان.
ويقول فى الصفحات من131 إلى 133: كان الشكل الغالب للملكية فى شبه جزيرة العرب فى الجاهلية وفى زمن رسول الله عليه السلام هو الملكية المنقولة دون العقارية. وكان يمكن للبدوى أن يحمل راحلته كل ما يملكه وينتقل به من موطن إلى موطن سعياً وراء الماء والكلأ. وبالتالى فقد كان الاعتداء على السارى فى الصحراء بسرقة ناقته بما تحمل من ماء وغذاء وخيمة وسلاح، فى مصاف قتله. لذلك كان من المهم للغاية أن تقرر الشريعة عقوبة حازمة رادعة بالغة الشدة لجريمة السرقة فى مثل هذا المجتمع. أما وقد دخل الإسلام مجتمعات تعرف شكلاً من الملكية أهم من الملكية المنقولة، وأصبح سلب الرجل قربة مائة لا يعنى أمراً جللاً، فقد يجد المجتمع عقوبة لجريمة السرقة غير العقوبة فى المجتمع البدوى، دون أن يكون اختياره للعقوبة الثانية خروجاً على الإسلام وروحه. بالعكس، فإن الالتزام بروح الإسلام يقتضى منا اختيار هذه العقوبة الثانية، حيث إنها ـ فى المجتمع غير البدوى ـ تحقق نفس النتائج المرجوة التى توخاها الإسلام فى المجتمع البدوى.
إن الشاعر يقول:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
…
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
بمعنى أن المعاملة الواحدة فى حالتين مختلفتين ستسفر حتماً عن نتيجتين متنافرتين. فى حين يعلم أى معلم صبيان مثلاً أن هناك وسائل متباينة لمعاملة صبية مختلفى الطباع والمستوى، للوصول إلى نتيجة واحدة، وهى التلقى الحسن للعلم.
وكذلك بالنسبة للحجاب الذى فرض فى المدينة حيث كان النساء يلقين من المتسكعين من شبان المدينة كل مضايقة وعبث كلما خرجن وحدهن إلى الخلاء، فنزلت آية {يَا أَيُّها النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن
جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (سورة الأحزاب 59) ، وذلك حتى يميز الشبان بين المحصنات وغير المحصنات.
وقد يعزز من رأيى هذا: أن أحكاماً قرآنية معينة نسختها أحكام قرآنية تالية، حين تغيرت أوضاع المسلمين بالهجرة وانتشار الإسلام والفتح، وغير ذلك من التطورات التى حدثت خلال أقل من ربع قرن، واستلزمت مع ذلك نسخاً لبعض الأحكام.
إن تسليمنا بأن روح الإسلام هى التى ينبغى أن تكون الهادى للسلوك، لن يدع مجالاً لاتهام الإسلام بمنافاة مقتضيات العصر والتطورات التاريخية التى حدثت بعد القرن السابع الميلادى. كذلك لن تكون الحكومات والفقهاء حينئذ فى حاجة إلى النفاق والمداراة، والالتواء والسفسطة، وغض الطرف عن تفسير ما يقعون فيه من تناقض حين يقررون مثلاً إلغاء الرق الذى أباحه الإسلام، أو يستبدلون عقوبة الحبس بعقوبة قطع يد السارق التى نصت عليها أحكام الشريعة.
كذلك سيؤدى الأخذ بهذا المنحى من التفكير إلى الحد من عدد المتخلين من أبنائنا المثقفين عن الإسلام بأسره بدعوى أن الديانات والتقاليد إنما هى للمتاحف والسياح لا لمواجهة احتياجات العصر، وسيكون من الأسهل إقناعهم بأن هذه الديانات والتقاليد ليست عقبة فى سبيل التقدم، وإنما يمكن أن تكون وسيلته" أ. هـ.
هذه أقوال الكاتب منقولة بنصها، ومنها نلحظ ما يأتى:
1 ـ أنه لجأ إلى التشكيك فى كتاب الله العزيز بطريقة خبيثة خادعة:
فهو فى الصفحة الثامنة والثلاثين ينسب لابن مسعود القول بالتحريف، ونسبة هذا لابن مسعود من المفتريات التى لا أصل لها، فهو كغيره من الصحابة _ رضى الله تعالىعنهم وأرضاهم ـ يعرف كيف كتب الوحى بعد نزوله مباشرة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وإملائه، ويعرف معنى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ} (9: الحجر)، وقوله عزوجل:{لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} (64: يونس) .
وقوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (41 ـ 42: فصلت) .
وقوله جلت قدرته: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (16 ـ 19 القيامة) .
ويعرف ابن مسعود كغيره كيف جمع القرآن الكريم بعد الرسولصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السطور والصدور ليكون بين دفتين فى مصحف واحد.
ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن القرآن الكريم وصلنا متواتراً كما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، دون تغيير أو تحريف أو تبديل، أوإسقاط أو زيادة. من أنكر هذا فقد كذب كتاب الله العزيز نفسه.
ولكن الكاتب يورد الكذب على ابن مسعود كأنه شىء ثابت مسلم حيث يقول " صحيح أننا نعلم
…
إلخ ".
ثم بعد هذه الفرية يظهر نفسه كأنه مدافع عن كتاب الله تعالى رافض (لزعم) ابن مسعود.
وبعد عشر صفحات يذكر أن مصحف الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود فيه خمسمائة كلمة ليست فى مصحف عثمان، وهو الذى نقل منه مصاحف المسلمين اليوم، ثم يضيف أن هذا الصحابى الجليل كان شديد الخشية من أن يغير من نص كلمات الرسولصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهكذا يحاول أن يصل إلى هدفه، فابن مسعود بلا شك له مكانته عند المسلمين قاطبة. وهو إذا كان يتحرى الدقة بالنسبة لكلمات الرسولصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن باب
أولى أن يكون موقفه من القرآن الكريم، ولذلك فعنده خمسمائة كلمة ليست عند المسلمين اليوم.
وظهور الكاتب كالمدافع فى المرة الأولى يساعده فى الوصول الى هدفه، فهو أولاً يحاول أن يبعد عن نفسه تهمة الكفر والردة إذا ظهر مشككاً فى كتاب الله تعالى غير مؤمن به فألصق التهمة بالصحابى الجليل، تهمة التشكيك، فإذا أخذ أى مسلم بروايات الكاتب فليس عليه من حرج أن يكون كالصحابى الجليل ابن مسعود الذى يعرف من قوله " كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نعلم ما بهن ، ونعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعا "
وإذا قال أحد: القرآن محرف أو سقط منه ما سقط فعلى مسلمى العصر أن يقبلوا قوله، فهو منسوب لصحابى يجلونه، وليس لهم أن يكفروا القائل، أو أن يحكموا بردته، وإلا كان حكماً بكفر وردة الصحابى الجليل
2 ـ ماذكره فى الصفحة الثالثة والثمانين يكشف عن خبيئة نفسه تجاه النصوص: فالنصوص تكبل فكر التابعين، لذلك أحسن أولئك المفكرون صنعاً بإحراق الكتابات أو دفنها حتى يتيحوا لكل جيل فى كل قطر أن يخرج بفكر يناسب عصره وبيئته.
وإذا كان لايستطيع أن يصرح بوجوب إحراق أو دفن القرآن الكريم حتى لانتكبل بالنص، ونشرع لأنفسنا ما يناسب عصرنا وبيئتنا، إذا كان لا يستطيع هذا (المسلم) أن يصرح بهذا، فإنه يقوله بطريقته الملتوية الخبيثة: وقد يقال إن نبى الإسلام أيضاً لم يأمر بجمع القرآن
…
إلخ، فهذا موقف المفكرين، ومثله موقف الرسول صلى الله عليه وسلم، فالاعتصام بالكتاب العزيز، فضلاً عن السنة المطهرة، السبب فى أننا لم نستطع أن نختار ما يناسب جيلنا وبيئتنا، حيث كبلتنا النصوص.
ومن قبل ذكر أن القرآن الكريم جاء بشريعة ناقصة غير عامة، فلم تستطع أن تسير المجتمع خارج مكة والمدينة، وهنا يقول قولته، وبعد هذا يصرح بوجوب ترك أحكام شرعية نص عليها القرآن الكريم، وهكذا يحاول أن يصل إلى
الهدف ولكن كما جاء فى ص 143 " هذه المواقف تبدو عند تسطيرها للنشر وقد تقنعت بألف قناع، وإذا هذه الآراء وقد أقدمت على إيصالها إلى جمهور المؤمنين تظهر مقمطة فى قماط المومياء، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، وكأنما هى تسعى فى آن واحد إلى أن تكشف عن نفسها وتستتر، وتسفر عن وجهها وتحتجب "
ثم يحاول أن يهدم إيمان المسلمين بأن الإسلام الذى جاء بخير كتاب أنزل صالح لكل زمان ومكان، فيقول " غير أن الافتراض الأساسى فى الدين ـ أى دين ـ هو أن تعاليمه الواردة فى النص المقدس صالحة للكافة فى كل زمان ومكان " ومعلوم أن هذا الافتراض غير صحيح إلا فى الإسلام، فكل نبى جاء إلى قومه خاصة وجاء خاتم النبيين إلى الناس عامة، والكاتب يسوى بين الإسلام وغيره، ويجعل الصلاحية مجرد افتراض فى جميع الديانات.
3 ـ فى الصفحات الثلاث الأخيرة بعد أن مهد بأباطيله السابقة، يصل إلى ما يرمى إليه وهو ترك العمل بكتاب الله تعالى، ولكن لا يريد أن يعلن أنه خرج عن الإسلام كلية. وإنما هو مصلح دينى ثائر، ولذلك يظل حريصاً على اللجوء إلى الخداع والأساليب الملتوية الخبيثة، فهو عندما يأتى إلى حد السرقة، وأمرالله تعالى القطعى الثبوت القطعى الدلالة، فلا مجال فيه لاجتهاد مجتهد ولا تأويل متأول، نراه يتحدث عن البدوى والملكية المنقولة دون العقارية ويترك مجتمع مكة والمدينة الذى تحدث عنه من قبل. وكأن الإسلام جاء بهذا الحكم للسرقات التى هى فى مصاف القتل فى المجتمع البدوى، وأما غيره فحكم الله لا يصلح ولا يتناسب. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ولو أن الكاتب لم ينسب نفسه للإسلام لنبهناه إلى منهج القرآن الكريم حيث ينص على مبادئ عامة كلية لا جزئية فيما يتغير تبعاً للزمان والمكان كالمبادئ التى تتصل بالحكم، ويفصل فيما هو ثابت لا يتغير كأحكام الميراث وبعض ما يتصل بالزواج والفرقة بين الزوجين، والحدود والقصاص وغير ذلك مما يعرفه المسلمون.
فالسارق هو السارق فى أى زمان وأى مكان، وقطع الرسول صلى الله عليه وسلم فى مجن لا تصل قيمته إلى دينار واحد، وليس المجن فى ذاته أمراً جللاً ولكن ذات السرقة هى الأمر الجلل، والمرأة المخزومية التى سرقت لم تسرق مثل ما تحدث عنه وأراد أن يبرر به إبطال حكم الله تعالى. ومما يؤكد عموم الحكم المعلوم قول الرسول صلى الله عليه وسلم " وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " ثم أمر بقطع يد المخزومية. وتنفيذ حكم الله تعالى يعنى صلاح الناس ودرء المفاسد، فهو الخالق سبحانه وتعالى {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ولو أن حكم السرقة كان لمجتمع محدود فى زمن محدود لما جاء بهذا العموم والتأكيد، فالله عزوجل الذى أرسل خاتم رسله كافة للناس بشيراً ونذيراً كان يعلم مدى انتشار الإسلام إلى يوم القيامة، والبيئات التى سيدخلها هذا الدين.
ولو أن الكاتب لم ينسب نفسه للإسلام لبينا له الفرق بين الحد والتعزير ، وكيف أن الحدود وضعت لهذا العدد القليل من الجرائم للحفاظ على الضرورات التى كفلها الإسلام ولا تقوم حياة ولاتصلح بغيرها، أما ماعدا هذه الجرائم فقد شرع الإسلام لها العقوبة التعزيرية، وهذه العقوبة التى شرعها القرآن الكريم وبينتها السنة النبوية المطهرة، وطبقها سلفنا الصالح، ومن تبعهم بإحسان، هذه العقوبة التعزيرية هى التى يمكن أن تختلف تبعاً لاختلاف الأحوال والزمان والمكان.
وقول الكاتب " فقد يجد المجتمع عقوبة لجريمة السرقة غير العقوبة فى المجتمع البدوى " يبين أن الحكم ليس لله عز وجل، فليس هو المشرع وحده، وإنما المجتمع هو الذى يصنع الأحكام لنفسه، وأن هذا الحكم للمجتمع البدوى فقط، وليس حكماً إلهياً لكل الناس فى كل زمان ومكان. ومع أن هذا كفر صريح، حاول الكاتب أن يوهم المسلمين بأن هذا هو الإسلام، فأضاف " دون أن
يكون اختياره للعقوبة الثانية خروجاً عن الإسلام وروحه، وبالعكس فإن الالتزام بروح الإسلام يقتضى منا اختيار هذه العقوبة الثانية ".
وإذا كان الكاتب يعتبر نفسه من المسلمين فإنا نسأله: ما ضوابط الإسلام؟ وعلى أى أساس تختار العقوبة الثانية؟ ومن الذى يختارها؟
ولماذا جعل الله عز وجل لعقوبة السرقة حداً ولم يجعلها من العقوبات التعزيرية مثل معظم العقوبات؟
وإذا قال ربنا عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} وقال أحد: لا، لا نقطع، فهل يكون مؤمناً بالله خاضعاً لحكمه؟ ولو جاز هذا فى السرقة، أفليس من الجائز أن يقال فى أى حكم آخر؟ وإذا كانت أحكام الله لا تنفذ فما الفرق بيننا وبين الكفار والمشركين الذين لا يتلقون حكماً من الله تعالى وإنما يضعون الأحكام لأنفسهم؟
4 ـ فى حديثه عن الحجاب يؤكد ما أراده آنفاً، وهو ترك العمل بكتاب الله المجيد، فيذكر سبب نزول الآية التاسعة والخمسين من سورة الأحزاب، وكأنى به لا يدرى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، سواء أجهل هذا أم تجاهله فقد أراد إبطال العمل بكتاب الله العزيز: فجعل حكم السرقة لا يتعدى المجتمع البدوى فى زمن قصير محدود، والحجاب لا يتعدى مجتمع المدينة فى زمن محدود أيضاً، فالافتراض الذى ذكره من قبل ليضل به، وهو افتراض الصلاحية لكل زمان ومكان، يأتى هنا ليؤكد بطلان هذا الافتراض.
والآية الكريمة التى ذكرها تتحدث عن التغطية بالجلباب، وهو الرداء فوق الخمار، وفسرها ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ بقوله: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن فى حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة.
ولم يشر الكاتب إلى الآية الكريمة التى ذكرت الخمار {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ، وأظنه قرأ تفسيرها وعرف ما فعلته الصحابيات ـ رضى الله تعالى عنهن ـ من الاستجابة الفورية لأمر الله عز وجل {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} . والصحابيات ـ رضى الله تعالى عنهن، خير جيل عرفته البشرية، وضعن الخمر على رءوسهن ونحورهن عندما نزل الأمر الإلهى، وغطين الوجوه من فوق رءوسهن بالجلابيب. ونهاهن الرسول صلى الله عليه وسلم عن لبس النقاب والقفازين أثناء الإحرام، فكن يلبسن هذا وهن غير محرمات، فإذا أحرمن خلعن النقاب والقفازين. وروى أبو داود تحت باب فى المحرمة تغطى وجهها عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت:
" كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا جاوزنا كشفناه ".
والأمر بالحجاب واضح وصريح، وطبقته الصحابيات فور نزوله، وأجمعت عليه أمة الإسلام خلال أربعة عشر قرناً من الزمان، ووقع الخلاف فقط فى الجزء المعفو عنه {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ولكن الخلاف لا يتعدى الوجه والكفين فى هذا الاستثناء.
ومع هذا أراد الكاتب أن يشكك فى هذا الأمر المستقر نصاً وإجماعاً فقال فى حاشية ص 131 " وقد اختلف المفسرون حول آيات الحجاب وما إذا كانت تخاطب نساء النبى وحده، أم تلزم المسلمات طرا " ولا أدرى من أين اختلق هذا الاختلاق؟ وهل عمى عن قراءة الآية الكريمة التى ذكرها هو نفسه عند الحديث
هنا عن الحجاب وفيها {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ} نعم {
…
فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . ثم يضيف فرية أخرى حيث يقول فى حاشيته " وعلى أى الأحوال فقد كانت كل من سكينة بنت الحسين بن على وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله من السافرات "، هكذا يقول هذا المفترى، ولو كان مسلماً حقاً وقرأ خبراً ساقطاً مثل هذا لكان عليه أن يرد هذا الإفك لكنه يأتى به كشىء مؤكد لينتقل منه إلى إفك جديد، فيهاجم المفسرين الأولين، ويذكر أنهم هم الذين فرضوا على كل نساء المسلمين ما فرضه القرآن على نساء النبى وبناته، ومرة أخرى أعمى هذا المفترى الكذاب عن قراءة] وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ} بعد قوله تعالى {قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} ؟!
وإذا كان هذا (المسلم) حزيناً لأن المرأة المسلمة التزمت بحجاب فرضه عليها ـ بحسب إفكه ـ المفسرون، وليس الوحى المنزل، فما الذى يريده حتى يذهب حزنه؟
نرى الإجابة على هذا السؤال فى بداية حديثه عن الموضوع الذى ذكر فيه الحجاب، وهو تحت عنوان" فرص نجاحنا فى إقامة مجتمعنا على أسس إسلامية ".
قال فى ص 124: " كان تطوير الحضارة الأوربية، بصفة عامة تطوراً متصلاً متجانساً ".
ثم قال فى ص 126: " لقد جاء تحرير المرأة فى الغرب ـ حريتها الجنسية (أى والله هكذا قال: الجنسية!) وحقوقها السياسية واستقلالها الاقتصادى ـ ثمرة لقرون طويلة من التطور والكفاح، وجاء فى مجتمعاتنا الإسلامية لا نتيجة لفكر أصيل عميق الجذور
…
إلخ.
ثم يضرب مثلاً لحرية المرأة العربية التى وصلت إليها دون تطور متصل متجانس ودون فكر أصيل عميق الجذور، ولذلك فهى حرية بعيدة عن روح
الحضارة الغربية، يضرب هذا المثل بالفتاة العربية المرتدية البكينى على شاطىء البحر!! هكذا تتضح إجابة السؤال. والمسلمون يعرفون أن المرأة فى الإسلام شرع لها ربها كل ما يناسبها من الحقوق، فأخذت من الاستقلال الاقتصادى ما لم تصل إليه المرأة فى الغرب، وأخذت من الحقوق السياسية ما يتناسب معها ولا يخرجها عن طبيعهتا، غير أنها لم تأخذ ـ لا هى ولا الرجل ـ الحرية الجنسية التى أخذها سادة الكاتب الغربيون بل أربابه.
والإسلام أوصل عقوبة الزنى إلى حد الرجم، ولما ترك الناس شرع الله عز وجل ووضعوا لأنفسهم القوانين، لم يروا الزنى جريمة فى ذاته، فالمتزوجة مثلاً إذا زنت فإنها لا تعاقب بأى عقوبة فضلاً عن الرجم ما دام الزوج رضى بمعاشرتها، أما إذا لم يرض ورغب فى عقوبتها، فأقصى حكم هو أن تحبس سنتين، وغير المتزوجة إذا زنت فهى لم تعتد على حقوق أحد، ولم ترتكب جريمة، وإنما لها حريتها الجنسية!!
هكذا اختار الناس ما يناسب عصرهم، ولا يمكن أن يكون هذا باسم الإسلام إلا إذا أحرقت النصوص ودفنت حتى لا تكبل مثل هذا (المفكر الإسلامى والمصلح الدينى!!) فيعيدها جاهلية باسم روح الإسلام، بل كان أهل الجاهلية أقل فجوراً، وفسقاً من سادته الغربيين، وما زلنا نذكر القول المشهور: أو تزنى الحرة؟!
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول " تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنة نبيه ".
ليس عجيباً أن نجد من ينادى بالحرية الجنسية، فقد وجدنا من ينادى بحرية الشذوذ الجنسى، ولكن العجيب الغريب أن نجد من يجعل هذا من الأسس الإسلامية التى يريد أن يقوم عليها مجتمعنا الحديث، والأشد غرابة ونكراً أن ينسب القائل نفسه أو أن ينسبه أحد إلى الإسلام، فما بالك إذا قيل بأنه مفكر إسلامى؟! إلا إذا كانت المعانى اضطربت، فأريد باللقب أنه مفكر فى هدم الإسلام ومحاربته وإفساد المجتمع المسلم.
5 -
معلوم أن النسخ لا يكون إلا بأمر الله عزوجل، ولا نسخ بعد انقطاع الوحى.
والكاتب بعد حديثه عن حرق النصوص أو دفنها يأتى إلى نسخها، والنتيجة واحدة، وهى ترك العمل بكتاب الله العزيز ما دام النسخ ليس من حق الله وحده. ويحاول أن يزين هذا الضلال، ضلال ترك العمل بكتاب الله العزيز بقوله " إن تسليمنا بأن روح الإسلام هى التى ينبغى أن تكون الهادى للسلوك لن يدع مجالاً لاتهام الإسلام بمنافاة مقتضيات العصر والتطورات التاريخية التى حدثت بعد القرن السابع الميلادى ".
ومعنى هذا أن نصوص القرآن لا تصلح بعد ذلك القرن فقد فقدت صلاحيتها منذ ثلاثة عشر قرناً، وعلينا أن نحل مكانها ما أسماه بروح الإسلام، وحينئذ يكون حكماً إسلامياً شرعياً استبدال عقوبة الحبس بعقوبة قطع يد السارق التى نصت عليها أحكام الشريعة.
لا يخفى علينا ما كتبه بعض أعلام المسلمين عن صلاحية الإسلام للتطبيق فى كل زمان ومكان، وعن الحدود وأثر تطبيقها فى المجتمع، وعن حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ورد الشبهات التى أثارها أعداء الإسلام، ولكن هذا الكاتب لا يسلك مسلك المسلمين، بل يردد أقوال أعداء الإسلام وخصومه بل أكثر مما قاله الأعداء! وانظر إلى إشارته إلى الرق، وإلى إشارته الأخيره من أن الإسلام الذى استمدت أحكامه من النصوص، إنما هو للمتاحف والسياح لا لمواجهة احتياجات العصر، مما جعل الكثير من المسلمين المثقفين يتخلون عن الإسلام بأسره.
فهو لا يريد الإسلام الذى ارتضاه الله لنا ديناً، وإنما يريد إسلاماً عصرياً، يبيح مثلاً الحرية الجنسية لا الاستعفاف، والبكينى لا الحجاب. والرد عليه يطول جداً، وهو مسطور فى كتب كثيرة، ولكن الذى أريده هنا أن أبين موقفه من القرآن الكريم.