الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: العقل
المراد بالعقل الذي اتخذوه دليلاً على الحكم الشرعي ـ ما لم يوجد دليل من كتاب أو سنة أو إجماع ـ إنما هو أحكامه المستقل بها، مثل حكمه بوجوب دفع الضرر، واستحالة الترجيح بلا مرجح، وبقبح العقاب بلا بيان.
ومما استدلوا عليه بالأول وجوب النظر والمعرفة، لأن ترك النظر ـ وكذلك ترك المعرفة ـ موجب للخوف وهو ضرر، ودفع الضرر واجب بالضرورة. وبالثاني على التخيير عند تعارض الأدلة مع عدم المرجح. وبالثالث على الحكم بإباحة ما لم يعلم من الشرع حرمته كالحكم بإباحة شرب القهوة لعدم ورود بيان من الشارع، وقبح العقاب بلا بيان ضروري (1) .
وهذا الدليل ينبني على أساس التحسين والتقبيح العقليين، باعتبار أن الأشياء لها حسن ذاتي أو قبح ذاتي يمكن إدراكه بالعقل كالعدل والظلم، وكالصدق والكذب. " فإن العدل بما هو عدل لا يكون إلا حسناً أبداً: أي أنه متى ما صدق عنوان العدل فإنه لابد أن يمدح عليه فاعله عند العقلاء ويعد عندهم محسناً، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون إلا قبيحاً، أي أنه متى صدق عنوان الظلم، فإن فاعله مذموم ويعد مسيئاً " (2) ، " والصدق بما هو صدق فيه اقتضاء التأثير فى إدراك العقلاء بأنه مما ينبغى أن يفعل، ويمدحون فاعله عليه بخلاف الكذب فإنه مذموم لديهم. ولكن هذا التأثير لا يتم عادة مع وجود مزاحم له يمنع من تأثيره نظراً لأهميته كأن يكون فى الصدق ما يوجب قتل النفس المحترمة، أو انتهاك عرض، أو تسلط ظالم على مؤمن، وهكذا (3) .
(1) انظر الحقائق في الجوامع والفوارق جـ 1 ص 78.
(2)
الأصول العامة للفقه المقارن ص 286 (نقلاً عن أصول الفقه للمظفر) .
(3)
الأصول العامة للفقه المقارن ص 287.
وإذا كنا ندرك علاقة الحسن بالمصلحة، والقبح بالمضرة، أفيعنى هذا أن الشيعة يأخذون بالمصلحة؟
يقول أحد علمائهم المعاصرين (1) في تلخيص وتعقيب بعد دراسة مقارنة للمصالح المرسلة:
إن تعاريف المصالح المرسلة مختلفة، فبعضها ينص على استفادة المصلحة من النصوص والقواعد العامة، ومقتضى هذا النوع من التعاريف إلحاقها بالسنة، والاجتهاد فيها إنما يكون من قبيل تحقيق المناط بقسمه الأول، أي تطبيق الكبرى على صغراها بعد التماسها أي الصغرى ـ بالطرق المجعولة من الشارع لذلك، ولا يضر في ذلك كونها غير منصوص عليها بالذات، إذ يكفي في إلحاقها بالسنة دخولها تحت مفاهيمها العامة. وأما على تعاريفها الأخرى فينحصر إدراكها بالعقل.
والذي ينبغى أن يقال عنها أنها تختلف من حيث الحجية باختلاف ذلك الإدراك، فإن كان ذلك الإدراك كاملاً – أي إدراكاً للمصلحة بجميع ما يتعلق بها في عوالم تأثيرها في مقام جعل الحكم لها من قبل المشرع – فهي حجة. ورفض الأخذ بالمصلحة إذا لم يكن إدراك العقل لها كاملاً، كأن يدركها مع احتمال وجود مزاحم لها يمنع من جعل الحكم.
وانتهي إلى قوله: " وبهذا يتضح أن الشيعة لا يقولون بالمصالح المرسلة إلا ما رجع منها إلى العقل على سبيل الجزم "(2) .
ومما يتصل بهذا الأصل الرابع فتح الذرائع وسدها، حيث يعتبرون فتحها وسدها تابعاً للعقل أو السنة، " لأن اكتشاف حكم المقدمة إما أن يستفاد من العقل
(1) هو الشيخ محمد تقى الحكيم أستاذ الأصول والفقه المقارن في كلية الفقه بالنجف، انظر المصالح المرسلة في كتابه " الأصول العامة للفقه المقارن " ص 381-402 وانظر تلخيصه وتعقيبه ص 402-404.
(2)
ص 404.
بقاعدة الملازمة، بمعنى أن العقل يحكم بوجود ملازمة بين الحكم على شيىء والحكم على مقدمته، فإذا علمنا أن الشارع قد حكم على ذى المقدمة بالوجوب فقد علمنا بحكمه على المقدمة كذلك، وعندها تكون من صغريات حكم العقل وليست أصلاً برأسه، وإما أن يستفاد من طريق الملازمة اللفظية، أي من الدلالة الالتزامية لأدلة الأحكام، كما هو مبنى فريق بدعوى أن اللفظ الدال على وجوب الصلاة هو بنفسه يدل على لازمه وهو وجوب مقدماتها، وعليها يكون وجوب المقدمات مدلولاً للسنة، فتكون المسألة من صغريات دليل السنة " (1) .
ويدخل تحت هذا الأصل كذلك الاستصحاب، ويعللون هذا بقولهم:"وجود الشيء في الحال يقتضي ظن وجوده في الاستقبال لقضاء العقل بذلك في أكثر الوقائع، ولأن الأحكام الشرعية مبنية عليه لأن الدليل إنما يتم لو لم يتطرق إليه المعارض من نسخ وغيره، وإنما يعلم نفي المعارض بالاستصحاب "(2) .
أما القياس فقد رفضوا الأخذ به إلا ما كان منصوص العلة، وهم لا يرونه قياساً وإنما يرون ذلك من دليل العقل لحكمه بوجوب وجود الشيىء عند وجود علته، وما عدا ذلك من قياس الشبه وأمثاله فلا يعتبرونه من حكم العقل، ويرون أنه لا دليل على الأخذ به، وأن روايات أئمتهم كثيرة في المنع عنه. (3)
وهناك قسم آخر اعتبره بعضهم من دليل العقل وهو ما يتوقف فيه على الخطاب وهو ثلاثة: فحوى الخطاب ولحن الخطاب ودليل الخطاب (4)(5)
(1) الأصول العامة للفقه المقارن ص 415.
(2)
تهذيب الوصول ص 105.
(3)
انظر: الحقائق في الجوامع والفوارق جـ 1 ص 79، وانظر مناقشة الشيخ أبوزهرة لأدلتهم في كتابه الإمام الصادق ص 515 وما بعدها.
(4)
انظر المعتبر ص 6، وأصول الفقه للمظفر 3/109.
ولحن الخطاب: هو أن تدل قرينة عقلية على حذف لفظ.
وفحوى الخطاب: يعنون به مفهوم الموافقة. *
*ودليل الخطاب: يراد به مفهوم المخالفة.
وهذه كلها تدخل في حجية الظهور، ولا علاقة لها بدليل العقل المقابل للكتاب والسنة.
(5)
وفي أصول الفقه للمظفر (3 / 19) قال المؤلف: " من تصريحات المحقق والشهيد الأول يظهر أنه لم تتجل فكرة الدليل العقلي في تلك العصور، فوسعوا في مفهومه إلى ما يشمل الظواهر اللفظية مثل: لحن الخطاب و000 إلخ ".
والمحقق توفي سنة 676 هـ، والشهيد الأول توفي سنة 786 هـ.
والجعفرية الاثنا عشرية ـ كما ذكرنا من قبل ـ ينقسمون إلى أصوليين وهم الكثرة الغالبة، وإخباريين وهم قلة قليلة، والذين اتخذوا من العقل دليلاً بعد الأدلة الثلاثة هم الأصوليون، أما الإخباريون فإنهم يأبون تحكيم العقل في الأمور الشرعية، ويكتفون بما ورد عن أئمتهم في كتب الحديث الأربعة.
هذا هو الدليل الرابع عند الجعفرية الاثنى عشرية، وأثر الإمامة هنا لا يبدو واضحاً كما رأينا في الأدلة الثلاثة، ولكن يمكن القول بأن الإخباريين عندما رفضوا الأخذ بهذا الدليل تأثروا بعقيدتهم في الإمامة حيث اكتفوا بما ورد عن الأئمة. وهذا الاتجاه يتفق مع ما يراه جمهور الجعفرية من عدم الاجتهاد في زمن الأئمة حيث يرجع إليهم، وأقوالهم ليست اجتهاداً ـ في نظر الجعفرية ـ وإنما سنة كسنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما سبق بيانه، غير أن الإخباريين استمروا في المنع من الاجتهاد بعد عصر الأئمة، بل قالوا:" بالمنع عن الاحتياج إلى علم الأصول والمنع عن تدوينه، بل عن بعضهم أنه بدعة محرمة ".
وقالوا: " إن هذا العلم مما أحدثه العامة – أي جمهور المسلمين- فسرى منهم إلى أصحابنا الإمامية في زمن الغيبة، ولم يكن يعرفه أصحاب الأئمة. فلولا أنه من البدع المستحدثة والطرق المخترعة الممنوع عنها في الشريعة لما أهمل بيانه أهل العصمة "(1) .
(1) الحاشية على الكفاية 2/211.
ولعل أهم ترابط بين الإمامة والعقل عند الجعفرية جميعاً أنهم حاولوا إثبات عقيدتهم في الإمامة بالعقل حتى " كانت الحركة الإخبارية تستبطن في رأي كثير من ناقديها تناقضاً، لأنها شجبت العقل من ناحية لكى تخلى ميدان التشريع والفقه للبيان الشرعي، وظلت من ناحية أخرى متمسكة به لإثبات عقائدها الدينية ". (1)
وعقيدة الجعفرية الاثنى عشرية في الإمامة لم تثبت بالكتاب والسنة، بل ثبت خلاف ما ذهبوا إليه كما رأينا في الجزء الأول. إذن لا يمكن أن تثبت هذه العقيدة بالعقل، فلسنا في حاجة إلى مناقشة ما اعتبروه إثباتاً للإمامة بدليل العقل (2) .
(1) المعالم الجديدة للأصول: ص 45.
(2)
انظر مناقشة ابن تيمية لهم، ففيها إقناع وإمتاع:
المنتقى ص 25 ـ 34، وص 482 وما بعدها.