الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغسل " فليس معنى ذلك أن السنة الشريفة عارضت القرآن الكريم فلا قائل بذلك، ولكن معنى هذا أن الذين نظروا إلى قراءة الجر رأوا أن الظاهر هو المسح ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن المقصود هو الغسل، وفي هذا إيجاب للغسل لا للمسح. (1)
ونقل عن ابن جرير الطبرى أنه أوجب غسلهما للأحاديث، وأوجب مسحهما للآية، وقال ابن كثير تعقيباً على ذلك: " كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك، فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما، لكنه عبر عن الدلك بالمسح، فاعتقد من يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما (2) .
وروى عن الحسن البصرى أن المضرور مخير بين الغسل والمسح (3) .
ومعنى هذا أنه يرى جواز العدول عن أصل الطهارة وهو الغسل إلى رخصة المسح في حال الضرر.
ونخرج من هذا البحث إلى أن الواجب في الوضوء غسل الرجلين لا مسحهما، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثامنا: المسح على الخفين
منع الشيعة المسح على الخفين سفراً وحضراً، وأجازه أصحاب المذاهب الأربعة، إلا في رواية عن مالك بالمنع في الحضر (4) .
(1) وروى مثل هذا أيضا عن الشعبى، قال: نزل القرآن بالمسح والغسل سنة، ومعنى أنه سنة هنا أي ثبت عن طريق السنة.
(2)
تفسير ابن كثير 2/26، وانظر تفسير الطبرى 10/61-80، وفيه رد على أحاديث المسح.
(3)
انظر المبسوط 1/8، وإن كان بعض الباحثين يروى عنه التخيير مطلقا، فلعله قد التبس عليهم.
(4)
انظر المبسوط جـ 1 ص 97، والمدونة جـ 1 ص 41، والأم جـ 1 ص 27، والمغنى جـ 1 ص 293.
وحجة من أجازه (1) ما روى عن جرير " أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: نعم. رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه ".
فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. متفق عليه، ورواه أبو داود، وزاد: فقال جرير لما سئل هل كان ذلك قبل المائدة أو بعدها: ما أسلمت إلا بعد المائدة، وكذلك رواه الترمذى. ووردت روايات أخرى تؤيد هذا، كرواية عبد الله بن عمر، والمغيرة بن شعبة، وغيرهم كثير.
واستدل المانعون، بأن آية المائدة ناسخة له. وبروايات في المنع. ويبطل دعوى النسخ رواية جرير، فهي نص في الموضوع (2)
، ثم إنه لا تعارض بين
(1) انظر ما سبق، مع متابعة الأدلة في بعض الصفحات، وانظر كذلك: نيل الأوطار 1/221-226، وسبل السلام 1 / 56 ـ 60.
(2)
قال الموسوى - أحد علماء الشيعة - تعقيبا على ذلك: " بل أسلم قبل نزول المائدة، بدليل حضوره حجة الوداع مع رسول الله، وقد أمره صلى الله عليه وسلم يومئذ - كما في ترجمته من الإصابة نقلا عن الصحيحين - أن يستنصت الناس، فإسلامه لابد أن يكون قبل تلك الحجة، ونزول المائدة لم يكن قبلها يقينا "(ص 144 المسح على الأرجل أو غسلها) .
ولو سلمنا بذلك في بعض آيات من سورة المائدة، فلا نسلم بأن جميعها نزل بعد حجة الوداع أو إبانها، فمن الثابت أن بعضها نزل قبل ذلك يقينا، وجرير - وهو الثقة الذي روى عن الرسول الكريم - هو نفسه الذي قال بأن إسلامه لم يكن قبل آية الوضوء. (انظر صحيح ابن خزيمة 1 / 92 جماع أبواب المسح على الخفين وفيه المسح بعد نزول سورة المائدة،
…
وراجع ما جاء في سورة المائدة في كتاب التفسير في صحيح البخاري، والاختلاف في آخر ما نزل في البرهان للزركشى 1/209-210، وراجع كذلك تعليق الشيخ شاكر على هذا الحديث في: سنن الترمذى جـ 1: حاشية ص 155-156، وانظر صحيح البخاري - كتاب الوضوء: باب المسح على الخفين، وشرح أحاديث الباب في فتح الباري 1 / 305: 309، وباب من ادخل رجليه وهما طاهرتان، وصحيح مسلم: كتاب الطهارة: باب المسح على الخفين، وشرح النووي 1/556) .
الآية والمسح على الخفين، فتخصيص العام، أو تقييد المطلق، أو تفسير المجمل لا يعد نسخاً.
قال الإمام الشافعى بعد ذكر الآية: " فاحتمل أمر الله عز وجل بغسل القدمين أن يكون على كل متوضئ، واحتمل أن يكون على بعض المتوضئين دون بعض، فدل مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين أنها على من لا خفين عليه إذا هو لبسهما على كمال الطهارة، كما دل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتين بوضوء واحد، وصلوات بوضوء واحد، على أن فرض الوضوء على من قام إلى الصلاة على بعض القائمين دون بعض، لا أن المسح خلاف لكتاب الله عز وجل، ولا الوضوء على القدمين "(1) .
وروايات المنع المذكورة عن طريق السنة رفضها المجيزون، فما أخرجه ابن أبى شبيبة، عن على رضي الله عنه أنه قال:" سبق الكتاب الخفين " منقطع وقد روى عنه مسلم والنسائى القول به بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم، وأخرج أبو داود عنه " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه "، وهذا يذكرنا بما ذكره الشيعة عن أمير المؤمنين من قوله " لو كان الدين يؤخذ قياساً لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره ".
وقلنا إنهم استدلوا به على بطلان القياس. ولكنهم يرفضون المسح على الخفين. (2)
وروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سلوا هؤلاء الذين يروون المسح، هل مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول المائدة؟ والله ما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول المائدة، ولأن أمسح على ظهر عنز في الفلاة أحب إلى من أن أمسح على الخفين.
(1) الأم 1/27-28.
(2)
انظر ما ذكر آنفا في نوع طهارة الرجلين.
وإنما قال جرير روايته المذكورة لما روى عن ابن عباس. وقد صح رجوعه عنه على ما قال عطاء بن أبى رباح رضي الله تعالى عنه: " لم يمت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حتى اتبع أصحابه في المسح على الخفين ".
وروى عن عائشة رضي الله تعالى عنها: " لأن تقطع قدمأي أحب إلى من أن أمسح على الخفين "، وقد صح رجوعها عنه على ما روى شريح بن هانئ قال: سألت عائشة - رضي الله تعالى عنها - عن المسح على الخفين، فقالت: لا أدرى، سلوا علياً رضي الله تعالى عنه، فإنه كان أكثر سفراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا علياً رضي الله تعالى عنه فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين. وفي رواية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
يمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها. فبلغ ذلك عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: هو أعلم (1) .
ونجد الشيعة يروون المنع عن على وعائشة رضي الله عنهما. ويروون رواية المغيرة، ويقولون أنها منسوخة بآية الوضوء (2) .
وقد تقدم الكلام في ذلك.
ونجد روايات أخرى تحتم علينا أن نعيد ما قلناه من وضع الأحاديث لنصرة المذهب، وما ارتبط به من آراء فقهية، وقد ضربنا أمثلة لذلك، وفي رواية منها ذكر لعدم جواز المسح على الخفين (3)، ونكتفي هنا بذكر هذه الرواية:" خطب أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ فقال: " قد عملت الولاة قبلى أعمالا خالفوا فيها رسول
(1) وروى عنها أنها قالت: لأن تقطعا أحب إلى من أن أمسح على القدمين بغير خفين (انظر: الكشاف للزمخشرى) فإن صحت هذه الرواية فهي تؤيد غسل الرجلين، والمسح على الخفين.
(2)
انظر الوسائل جـ 1: باب عدم جواز المسح على الخفين إلا لضرورة شديدة أو تقية عظيمة ص 55 وما بعدها.
(3)
راجع ما جاء من قبل في نوع طهارة الرجلين.