الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
الإمامة في ضوء السنة
أولا: خطبة الغدير والوصية بالكتاب والسنة
أخبار الغدير تعتبر المستند الأول من السنة عند الجعفرية، فهم يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند غدير خم، بعد منصرفه من حجة الوداع، بين للمسلمين أن وصيه وخليفته من بعده على بن أبى طالب، وذكرت من قبل أن كاتباً جعفرياً ألف كتاباً يقع في ستة عشر مجلداً ليثبت به صحة حديث وشهرته، وهذا الكتاب الذي أشرت إليه عنوانه " الغدير في الكتاب والسنة والأدب"! فالتأليف إذن كان من أجل واقعة الغدير، وإذا لم يثبت في القرآن الكريم شئ مما أراده المؤلف لم يبق إلا السنة، أما الأدب فلا حاجة لنا به في هذا المجال!
وقبل النظر في كتب السنة الثمانية التي حددت في منهجى الرجوع إليها، وهى: الموطأ، والمسند والصحيحان، وكتب السنن الأربعة، نسترشد بما جاء في سيرة محمد بن إسحاق (1) التي جمعها ابن هشام.
تحت عنوان موافاة على في قفوله من اليمن رسول الله في الحج ورد ما قاله ابن إسحاق عما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم علياً من أمور الحج (2) . ثم ورد ما يأتي:
"
(1) ولد في المدينة سنة 85 هـ، ثم خرج إلى العراق وأقام ببغداد حتى توفى. ووفاته محصورة بين سنة 150 وبين 153 هـ. قيل إنه كان يتشيع، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة، أخرج له مسلم في المتابعات، واستشهد به البخاري في مواضع، وروى له أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه. وقال الدارقطنى: اختلف الأئمة فيه وليس بحجة إنما يعتبر به. (انظر ترجمته في السيرة النبوية لابن هشام: مقدمة الناشرين ص 13: 17، وراجع ترجمته كذلك في تهذيب التهذيب) .
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعد أن ذكر ترجمته: فالذى يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال صدوق. وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئاً. وقد احتج به الأئمة، والله أعلم.
(2)
السيرة النبوية 4/602.
قال ابن اسحاق: وحدثنى يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى عمرة، عن يزيد بن طلحة بن ركانة، قال: لما أقبل على رضي الله عنه من اليمن ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على جنده الذي معه رجلاً من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع على رضي الله عنه. فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم، فإذا عليهم الحلل قال: ويلك؟ ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس. قال: ويلك! انزع قبل أن تنتهى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. قال: فانتزع الحلل من الناس، فردها في البز، قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.
قال ابن اسحاق: فحدثنى عبد الله بن عبد الرحمن معمر بن حزم، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب وكانت عند أبى سعيد الخدري، قال: اشتكى الناس علياً رضوان الله عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً، فسمعته يقول: أيها الناس، لا تشكوا عليا، فوالله إنه لأخشن في ذات الله، أو في سبيل الله، من أن يشكى.
خطبة الرسول في حجة الوداع
قال ابن اسحاق: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه، فأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجهم، وخطب الناس خطبته التي بيَّن فيها ما بيَّن، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس، اسمعوا قولى: فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا الموقف أبداً، أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من أئتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم، لا تظَلمون ولا تظُلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان
مسترضعاً في بنى ليث، فقتلته هذيل فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية. أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم، أيها الناس: إن النسىء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب
…
مضر (1) ، الذي بين جمادى وشعبان.
أما بعد أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن أن لايأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان (2) . لايملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولى، فإنى قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً، أمراً بيناً كتاب الله وسنة نبيه، أيها الناس اسمعوا قولى واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟ فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد (3) .
(1) ورجب مضر: إنما قال لأن ربيعة كانت تحرم رمضان، وتسميه رجباً، فبين عليه الصلاة والسلام أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وأنه الذي بين جمادى وشعبان.
(2)
عوان: جمع عانية وهى الأسيرة.
(3)
السيرة النبوية 4/603 -604.
وغير ما ذكره ابن اسحق من سبب تلك الشكوى، نجد سبباً آخر يذكر وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً، واستعمل عليهم على بن أبى طالب، فمضى في السرية فأصاب جارية، فأنكروا عليه، ونجد رواية أخرى أنه أصاب الجارية عندما كان على جيش وخالد بن الوليد على جيش آخر، فأرسل خالد للرسول صلى الله عليه وسلم يخبره لما فعله أبو الحسن.
والروايات كلها تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم دافع عن زوج الزهراء عليهما السلام، والأقوال مختلفة، وسنبين الصحيح منه إن شاء الله تعالى.
وخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع التي ذكرها ابن اسحاق، نرى معناها مبثوثاً في كتب السنة، ففي صحيح البخاري نجد شيئاً منها في باب الخطبة أيام منى من كتاب الحج، وفى آخر الباب " فطفق النبي صلى الله عليه وسلم " يقول: اللهم اشهد وودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع ".
ونجد كثيراً منها في باب حجة النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كتاب الحج في صحيح مسلم. وهذه الحجة يرويها الإمام الصادق عن أبيه الباقر عن جابر رضي الله تعالى
…
عنهم، كما أخرجها أيضاً غيرالإمام مسلم (1) .
وقد بينت في الفصل السابق أنه في يوم عرفة من حجة الوداع نزل قوله تعالى " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " ومن قبله: " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " ويرى الجعفرية أن استخلاف الإمام على كان يوم الغدير في الثامن عشر من ذى الحجة، وهنا يأتي تساؤل وهو: أفيمكن أن يترك ركن من أركان الإيمان لا يذكر، وقد أكمل الله تعالى دينه، وخطب رسوله صلى الله عليه وسلم، وودع الناس في حجة الوداع؟
(1) انظر حجة النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد ناصر الدين الألبانى ص 40-45، ص 77-79.
أظن هذا مستبعداً، ولكن ليس مستحيلاً!
ولم يَدُر جدل بين الجمهور والجعفرية حول معنى من معانى الخطبة كما ذكرها ابن إسحاق إلا في قوله صلى الله عليه وسلم: " وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بينا، كتاب الله وسنة نبيه ". فالجعفرية يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتمسك بالكتاب والعترة في خطبة الغدير، وأنه ترك الثقلين كتاب الله تعالى وأهل بيته.
وليس معنى هذا أن الجعفرية يرون عدم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فليس بمسلم من يرى هذا، ولكنهم يرون أن الأئمة معصومون، وأقوالهم كأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فهى تعتبر عندهم من السنة، فلابد من الرجوع إليهم حتى لا تضل الأمة!
وننظر في مفتاح كنوز السنة فنجده يذكر وصيته صلى الله عليه وسلم بكتاب الله وسنة رسوله عن عشرة مراجع منها: الصحيحان، والمسند، والترمذى، والنسائى، وابن ماجه (1) .
وفى صحيح البخاري نجد " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة " ومما جاء في هذا الكتاب " وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوا إلى غيره، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وفى الموطأ يروى الإمام مالك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه "(2) .
(1) انظر مفتاح كنوز السنة – باب الميم فيما ذكره عن محمد صلى الله عليه وسلم
…
.
(2)
كتاب النهى عن القول بالقدر، وهذا الحديث الشريف وصلة ابن عبد البر من حديث كثير ابن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده (انظر تنوير الحوالك 2/208) . *
*وقال ابن عبد البر كذلك: مرسلات مالك كلها صحيحة مسندة (1/38) . وقال جلال الدين السيوطى: " ما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد
…
فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شىء " (نفس المرجع 1/6) .
ونجد في بعض هذه المراجع العشرة الوصية بكتاب الله تعالى دون ذكر السنة، من ذلك ما جاء في سنن الدارمى: حدثنا محمد بن يوسف، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف اليامى، قال:" سألت عبد الله بن أبى أوفى: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قلت: فكيف كتب على الناس الوصية، أو أمروا بالوصية؟ فقال: أوصى بكتاب الله ". (انظر كتاب الوصايا. باب من لم يوص ج 2 ص 290-291)
وفى سنن النسائي رواية أخرى لهذا الحديث، وقال السيوطى في شرحه:" أوصى بكتاب الله أي بدينه، أو به وبنحوه ليشمل السنة ". (انظر كتاب الوصايا - باب هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم؟ ج6 ص 240) .
وفى غير المراجع العشرة نجد مثلاً في كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك " باب في لزوم السنة " ويحتوى الباب على ثمانية أخبار.
وفى المسند لأبى بكر عبد الله بن الزبير الحميدى حدث المصنف قال: ثنا سفيان قال: ثنا مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله بن أبى أوفى: " هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً يوصى فيه. قلت: وكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله ". (انظر المجلد الثانى - حديث رقم 722) .
وفى فيض القدير شرح الجامع الصغير، نجد رواية عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: " تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتى، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض ".
ومما قاله المناوى في شرحه:
إنهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما، ولا هدى إلا منهما، والعصمة والنجاة لمن تمسك بهما. واعتصم بحبلهما، وهما الفرقان الواضح، والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما، والمبطل إذا خلاهما، فوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة متعين معلوم من الدين بالضرورة.
(راجع الجزء الثالث ص 240-241، حديث رقم 3282 وشرحه، وانظر صحيح الجامع الصغير للشيخ ناصر الدين الألبانى جـ 2، حديث رقم 2934) .
ولسنا في حاجة إلى أن نطيل الوقوف هنا، فلا خلاف بين المسلمين في وجوب التمسك والاعتصام بالقرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة.
والخلاف حول شىء من السنة مرده إلى الخلاف حول الثبوت أو الدلالة، أما ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان واضح الدلالة، فلا خلاف حول الأخذ به ووجوب اتباعه، فقد نطق بهذا الكتاب المجيد في مثل قوله تعالى:" وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا "(1)
وقوله عز وجل: " مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ "(2)
وقوله سبحانه وتعالى: " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا"(3)
(1) سورة الحشر – آية 7.
(2)
سورة النساء – آية 80.
(3)
سورة النساء – آية 65.