الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: القرآن الصامت والقرآن الناطق
الإمام كالنبي:
ذكرنا من قبل قول الجعفرية بأن الإمام كالنبى في عصمته وصفاته وعلمه، ولذلك فهم يشيرون إلى القرآن الكريم والإمام بقولهم: ذلك القرآن الصامت وهذا القرآن الناطق، فالإمام هو ـ في رأيهم ـ القرآن الناطق (1) ، ودوره بالنسبة للقرآن الصامت كدور النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء.
مذهب الإخباريين:
وما دام القرآن الكريم صامتاً فلابد من الرجوع إلى القرآن الناطق حتى يوضح مراد الله تعالى، ولهذا قال الإخباريون من الجعفرية (2) : لا يجوز العمل
(1) انظر الشيعة والتشيع ص 45، ويزعمون أن الإمام علياً قال:" ذلك القرآن فاستنطقوه فلن ينطق لكم، أخبركم عنه. إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتى إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه مختلفين. فلو سألتمونى عنه لأخبرتكم عنه لأنى أعلمكم ".
…
(ص 3 من مقدمة تفسير القمي، وانظر الكافى 1 / 61، 8 / 50) . ويزعمون كذلك أن الإمام الصادق قال: " إن الكتاب لم ينطق ولن ينطق " وأن أباه الباقر قال: " القرآن ضرب فيه الأمثال للناس، وخاطب الله نبيه به ونحن، فليس يعلمه غيرنا ". (تفسير القمي 2 / 295، 425) .
(2)
ينقسم الجعفرية إلى أصوليين وإخباريين: الأصوليون يعتمدون على الاستنباط والاجتهاد وإعمال العقل، فهم يبحثون ويفكرون بذهنية أصولية، وهم أصحاب علم أصول الفقه عند الجعفرية. والإخباريون لا يعتمدون إلا على متون الأخبار التي تروى عن أئمتهم. ويرى الأصوليون أن الحركة الإخبارية ظهرت في أوائل القرن الحادى عشر على يد الميرزا محمد أمين الاسترابادى، واستفحل أمرها بعده وبخاصة في أواخر القرن الحادى عشر وخلال القرن الثاني عشر، على حين يرى الإخباريون أن الاتجاه الإخبارى كان هو الاتجاه السائد بين الفقهاء الإمامية إلى نهاية عصر الأئمة ولم يتزعزع هذا الاتجاه إلا في أواخر القرن الرابع وبعده ـ*
بظاهر القرآن الكريم!! وقال جمهور الجعفرية ـ وهم الأصوليون ـ بحجية الظواهر ولكنهم قالوا: لا يجوز الاستقلال في العمل في بظاهر الكتاب بلا مراجعة الأخبار الواردة عن الأئمة. (1)
قول الأصوليين:
وناقش الأصوليون الإخباريين فيما ذهبوا إليه: قال صاحب فوائد الأصول بعد أن بين حجية الظواهر:
" نسب إلى الإخباريين عدم جواز العمل بظاهر الكتاب العزيز، واستدلوا على ذلك بوجهين، الأول: العلم الإجمالى بتقييد وتخصيص كثير من المطلقات والعمومات الكتابية، والعلم الإجمالى كما يمنع عن جريان الأصول العملية، يمنع عن جريان الأصول اللفظية من أصالة العموم والإطلاق التي عليها مبنى الظهورات. الثاني: الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب.
ولا يخفى ما في كلا الوجهين، أما الأول فلأن العلم الإجمالى ينحل بالفحص عن تلك المقيدات والمخصصات، والعثور على مقدار منها يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها
…
وأما الثاني فلأن الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب وإن كانت مستفيضة، بل متواترة، إلا أنها على كثرتها بين طائفتين: طائفة تدل على المنع عن تفسير القرآن بالرأى والاستحسانات الظنية، وطائفة تدل على المنع عن الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب من دون مراجعة أهل البيت الذين نزل الكتاب
(1) *حين بدأ جماعة من علماء الإمامية ينحرفون عن الخط الإخبارى، ويعتمدون على العقل في استنباطهم، ويربطون البحث الفقهى بعلم الأصول تأثراً بالطريقة السنية في الاستنباط، ثم أخذ هذا الانحراف ـ كما يقولون ـ في التوسع والانتشار. والإخباريون الآن قلة قليلة بالنسبة للأصوليين، والقسم الكثير منهم في البحرين، وهم أيضاً عدد قليل (انظر المعالم الجديدة للأصول ص 76 ـ 82، وفقه الشيعة الإمامية 1 / 48 ـ 50 وانظر كذلك موقف الإخباريين من علم الأصول في الحاشية للقمى 2 / 211) .
في بيتهم صلوات الله عليهم، ولا يخفى أن مفاد كل من الطائفتين أجنبى عما يدعيه الإخباريون " (1) .
فالإخباريون يمنعون العمل بظاهر الكتاب، والأصوليون يمنعونه كذلك إلَاّ بعد الرجوع إلى أقوال الأئمة، ويندرج تحت هذا الظاهر مثل العام والمطلق وغيرهما مما هو ظاهر في معنى ومحتمل لمعنى آخر، فالعام ظاهر في العموم مع احتمال التخصيص، والمطلق ظاهر في الإطلاق مع احتمال التقييد (2) فيرون إذن وجوب الرجوع إلى الأئمة وما روى عنهم بمعرفة مراد الله عزوجل.
قال أحد علمائهم المعاصرين (3) : " لا يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص "، ويوضح هذا بقوله: " لا شك في أن بعض عمومات القرآن الكريم
(1) فوائد الأصول 3 / 48، وانظر كذلك الأصول العامة للفقه المقارن ص 102 ـ 105 وأصول الفقه للمظفر 3 / 130: 134، 138، 141.
(2)
تحدث أحد علمائهم عن الأصول اللفظية وحددها بخمسة هي: أصالة الحقيقة ـ أي الأصل أن تحمل الكلام على معناه الحقيقى، وأصالة العموم، واصالة الإطلاق، وأصالة عدم التقدير، والأصل الخامس هو أصالة الظهور، وقال عن هذه الأصالة:" موردها ما إذا كان اللفظ ظاهراً في معنى خاص لا على وجه النص فيه الذي يحتمل معه الخلاف، بل كان يحتمل إرادة خلاف الظاهر، فإن الأصل حينئذ أن يحمل الكلام على الظاهر فيه. وفى الحقيقة أن جميع الأصول المتقدمة راجعة إلى هذا الأصل، لأن اللفظ مع احتمال المجاز ـ مثلاً ـ ظاهر في الحقيقة، ومع احتمال التخصيص ظاهر في العموم، ومع احتمال التقييد ظاهر في الإطلاق، ومع احتمال التقدير ظاهر في عدمه، فمؤدى أصالة الحقيقة نفس مؤدى أصالة الظهور في مورد احتمال التخصيص، وهكذا في باقى الأصول المذكورة، فلو عبرنا بدلاً عن كل من هذه الأصول بأصالة الظهور كان التعبير صحيحاً مؤدياً للغرض، بل كلها يرجع اعتبارها إلى اعتبار أصالة الظهور، فليس عندنا في الحقيقة إلا أصل واحد هو أصالة الظهور ". (أصول الفقه للمظفر، 1 / 31 ـ 32) .
(3)
هو الشيخ محمد رضا المظفر، من كبار علمائهم. انظر كتابه أصول الفقه 1 / 136. وهو الذي نقلنا عنه الأصول اللفظية آنفاً.
والسنة الشريفة لها مخصصات منفصلة شرحت المقصود من تلك العمومات، وهذا معلوم من طريقة صاحب الشريعة، والأئمة الأطهار ـ عليهم الصلاة والسلام. حتى قيل ما من عام إلا وقد خص. ولذا ورد عن أئمتنا ذم من استبدوا برأيهم في الأحكام، لأن في الكتاب المجيد والسنة عاماً وخاصاً، ومطلقاً ومقيداً، وهذه الأمور لا تعرف إلا من طريق آل البيت، وصاحب البيت أدرى بالذى فيه.
وهذا ما أوجب التوقف في التسرع بالأخذ بعموم العام قبل الفحص، واليأس من وجود المخصص، لجواز أن يكون هذا العام من العمومات التي لها مخصص موجود في السنة أو الكتاب لم يطلع عليه من وصل إليه العام. وقد نقل عدم الخلاف بل الإجماع على عدم جواز الأخذ بالعام قبل الفحص واليأس ". ا. هـ.
والسنة ـ عند الجعفرية تتسع لتشمل أقوال أئمتهم، وهم مجمعون على الأخذ بما ورد من كلام الأئمة مخصصا لكثير من عمومات القرآن الكريم، ومقيداً لكثير من مطلقاته، وما قام قرينة على صرف جملة من ظواهره، ويعتبرون هذا من الأمور القطعية التي لا يشك فيها أحد (1) . ولكن المخصصات التي ترد عن الأئمة أتعتبر من باب النسخ أم التخصيص؟ خلاف وقع بين الجعفرية!
النسخ بعد عصر النبوة:
1 ـ فمنهم من ذهب إلى أن المخصصات ناسخة لحكم العمومات، لأن العام لما ورد وصل وقت العمل به بحسب الغرض، فتأخير الخاص عن وقت العمل لو كان مخصصاً ومبيناً لعموم العام يكون من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة. وهو قبيح من الحكيم، لأن فيه إضاعة للأحكام ولمصالح العباد بلا مبرر. فوجب أن يكون ناسخا للعام، والعام باق على عمومه يجب العمل به إلى حين ورود الخاص، فيجب العمل ثانيا على طبق الخاص (2) .
(1) انظر أصول الفقه للمظفر 1 / 141: 142.
(2)
المرجع السابق 1 / 143: 144 وعند أهل السنة إذا قصر العام على بعض أفراده يعتبر تخصيصاً عند جمهور الأصوليين، لأن المراد بالتخصيص عندهم بيان أن المراد بالعام* *بعض أفراده، لا فرق بين أن يكون البيان متصلا بالمبين أو منفصلاً عنه ما دام لم يتأخر عن وقت الحاجة إليه، فإذا تأخر كان نسخاً، ولا يكون حينئذ إلَاّكلاماً مستقلاً. أما الحنفية فإنهم يفرقون بين المتصل والمنفصل من الكلام المستقل، فيجعلون الأول مخصصاً ومبيناً، والثاني ناسخاً، لأن الشارع إذا أراد بالعام ـ من أول الأمر بعض أفراده قرنه بما يدل على مراده من المخصصات حتى لا يقع التجهيل الذي يتنزه الشارع الحكيم عنه، فإذا أورد العام من غير مخصص ومبين دل هذا على أن الشارع يريد جميع أفراده ابتداء. فإذا جاء بعد ذلك نص يخرج من العام بعض ما كان داخلاً فيه كان ناسخاً لا مخصصاً، فالخارج من العام بالتخصيص لم يدخل فيه ابتداء، والخارج منه بالنسخ دخل فيه ابتداء ثم أخرج. " انظر أصول التشريع
…
ص 244 "
وهذا التخصيص أو النسخ عند الحنفية لا يكون إلا إذا وصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حد التواتر أو الشهرة: أما إن كان خبر واحد فلا يخصصه ولا ينسخه إلا إذا كان عام الكتاب قد خص قبل بقطعى حتى صار بذلك التخصيص ظنياً، ويرى الجمهور أن خبر الواحد يخص عام الكتاب " انظر أصول الفقه للخضرى 184 ".
وكيف يمكن النسخ بعد عصر النبوة وانقطاع الوحى؟
قيل " إن إنقطاع الوحى لا يلازم عدم تحقق النسخ بعده صلى الله عليه وسلم لأنه يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أودع الحكم الناسخ إلى الوصي، وأودع الوصي إلى وصى آخر إلى أن يصل زمان ظهوره وتبليغه. وقد وردت أخبار عديدة في تفويض دين الله تعالى إلى الأئمة، وعقد في الكافى باب في ذلك، وبعد هذا لا يصغى إلى شبهة عدم إمكان تحقق النسخ بعد النبي صلى الله عليه وسلم "(1) .
ومن المعلوم أن حلآل محمد صلى الله عليه وسلم حلال إلى يوم القيامة، وحرامه صلى الله عليه وسلم حرام إلى يوم القيامة، وهم يروون هذا أيضا عن أئمتهم، فأنى يتحقق النسخ؟
يقول السيد أبو القاسم الخوئى ـ مرجعهم السابق بالعراق: " الظاهر منه ـ أي من الخبر ـ عرفاً بيان استمرار الشريعة المقدسة، وأنها لا تنسخ بشريعة أخرى، فالمراد منه أن كل ما يكون إلى يوم القيامة متصفاً بالحلية أو الحرمة فهو
(1) فوائد الأصول 4 / 274.
حلال محمد صلى الله عليه وسلم أو حرامه، فأحكامه صلى الله عليه وسلم مستمرة إلى يوم القيامة، ولا تنسخ بشريعة أخرى " (1) .
التخصيص:
2 ـ ومن الجعفرية من جعل هذه المخصصات كاشفة عن اتصال كل عام بمخصصه، فهى ليست تخصيصاً طارئاً بعد عصر النبوة، وإنما اختفت تلك المخصصات المتصلة ووصلت إليهم المخصصات المنفصلة.
وقال الشيخ الطوسى: " لكثرة الدواعى إلى ضبط القرائن والمخصصات المتصلة، واهتمام الرواة إلى حفظها ونقلها، فمن المستحيل عادة أن تكون مخصصات متصلة بعد المخصصات المنفصلة وقد خفيت كلها علينا. وأجيب عن هذا بأنه لا وجه لهذه الاستحالة، فإنا نرى أن كثيراً من المخصصات المنفصلة المروية من طرقنا عن الأئمة مروية عن العامة ـ أي جمهور المسلمين - بطرقهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيكشف ذلك عن اختفاء المخصصات المتصلة علينا "(2) .
كتمان الحكم تقية أو للتدرج:
3 ـ ومن الجعفرية من ذهب إلى التخصيص كذلك، ولكن على أساس أن هذه المخصصات " هي المخصصات حقيقة، ولا يضر تأخرها عن وقت العمل بالعام، لأن العمومات المتقدمة لم يكن مفادها الحكم الواقعى، بل الحكم هو الذي تكفل المخصص المنفصل ببيانه. وإنما تأخر بيانه لمصلحة كانت هناك في التأخير، وإنما تقدم العموم ليعمل به ظاهراً إلى أن يرد المخصص، فيكون مفاد العموم حكماً ظاهرياً، ولا محذور في ذلك، فإن المحذور إنما هو تأخر الخاص عن وقت العمل بالعام إذا كان مفاد العام حكماً واقعياً لا حكماً ظاهرياً "(3) .
(1) أجود التقريرات ص 512.
(2)
فوائد الأصول 4 / 274.
(3)
المرجع السابق 4 / 274.
ويوضح عالم آخر هذا الرأى فيقول: " العام يجوز أن يكون وارداً لبيان حكم ظاهرى صورى لمصلحة اقتضت كتمان الحكم الواقعى، ولو لمصلحة التقية، أو لمصلحة التدرج في بيان الأحكام كما هو معلوم من طريقة النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيان أحكام الشريعة، مع أن الحكم الواقعى التابع للمصالح الواقعية الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية إنما هو على طبق الخاص. فإذا جاء الخاص يكون كاشفاً عن الحكم الواقعى، فيكون مبيناً للعام ومخصصاً له، وأما الحكم العام الذي ثبت أولاً، ظاهراً وصورة، إن كان قد ارتفع وانتهى أمره، فإنه إنما ارتفع لارتفاع موضوعه، وليس هو من باب النسخ "(1) .
ثم يعقب على هذا بقوله: " وإذا جاز أن يكون العام وارداً على هذا النحو من بيان الحكم ظاهراً وصورة: فإن ثبت ذلك كان الخاص مخصصاً، أي كان كاشفاً عن الواقع قطعاً. وإن ثبت أنه في حدود بيان الحكم الواقعى للمصالح الواقعية الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية، فلا شك في أنه يتعين كون الخاص ناسخاً له. وأما لو دار الأمر بينهما، إذ لم يقم دليل على تعيين أحدهما، فأيهما أرجح في الحمل؟ فنقول الأقرب إلى الصواب هو الحمل على التخصيص "(2) .
ومع هذا الترجيح فقد رأى غيره أن هذه الحالة لا يجوز حملها إلا على النسخ (3) .
وكتمان الحكم الواقعى تقية هذا أمر غير معروف عن النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أظن الشيعة يقولون به، فما يجوز لمسلم أن يعتقده، فلعلهم أرادوا التقية بالنسبة للأئمة؛ بمعنى أن الإمام يكتم هذا الحكم، لأنه لو أظهره خشى على نفسه وعلى شيعته،
(1) أصول الفقه المظفر 1 / 144.
(2)
المرجع السابق 1 / 144.
(3)
انظر الآراء المختلفة والترجيحات في الحاشية على الكفاية 2 / 198: 199، وفوائد الأصول 4 / 273، وأجود التقريرات ص 506: 512 والبيان ص 424: 428.
ومن هنا تكون التقية. وهذا الرأى وإن كان غير مقبول أصلاً، إلا أنه يتمشى مع عقيدة الجعفرية.
أما التدرج في بيان الأحكام الذي يعتقده الجعفرية فيوضحه عالمهم المشهور محمد الحسين آل كاشف الغطاء بقوله: " يعتقد الإمامية أن لله بحسب الشريعة الإسلامية من كل واقعة حكما حتى أرش الخدش، وما من عمل من أعمال المكلفين من حركة أو سكون إلا ولله فيه حكم من الأحكام الخمسة: الوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والإباحة. وما من معاملة على مال، أو عقد نكاح، ونحوها إلا وللشرع فيه حكم صحة أو فساد. وقد أودع الله سبحانه جميع تلك الأحكام عند نبيه خاتم الأنبياء، وعرفها النبي بالوحى من الله أو الإلهام، ثم إنه ـ سلام الله عليه ـ حسب وقوع الحوادث أو حدوث الوقائع أو حصول الابتلاء، وتجدد الآثار والأطوار، بين كثيرا منها للناس، وبالأخص لأصحابه الحافين به، الطائفين كل يوم بعرش حضوره، ليكونوا هم المبلغين لسائر المسلمين في الآفاق {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) وبقيت أحكام كثيرة لم تحصل الدواعى والبواعث لبيانها، إما لعدم الابتلاء بها في عصر النبوة، أو لعدم اقتضاء المصلحة لنشرها.. والحاصل أن حكمة التدرج اقتضت بيان جملة من الأحكام، وكتمان جملة، ولكنه ـ سلام الله عليه ـ أودعها عند أوصيائه، كل وصى يعهد به إلى الآخر لينشره في الوقت المناسب له حسب الحكمة من عام مخصص، أو مطلق مقيد، أو مجمل مبين، إلى أمثال ذلك، فقد يذكر النبي عاماً ويذكر مخصصه بعد برهة من حياته، وقد لا يذكره أصلا، بل يودعه عند وصيه إلى وقته "(2) .
(1) 143: سورة البقرة.
(2)
أصل الشيعة وأصولها ص 145 ـ 146.
من الواضح البين بعد هذا أن ما ذكره الجعفرية بالنسبة للقرآن الناطق- أي الإمام ـ أثر من آثار عقيدتهم في الإمامة، فأقوالهم هنا لا تصح إلا بصحة عقيدتهم حتى يكون للإمام ما للنبى صلى الله عليه وسلم من البيان والتخصيص والتقييد، بل النسخ، وحتى لا ينتهى التدرج بانقطاع الوحى وانتقال صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وإنما يبقى دور لمن جعلوهم شركاءه صلى الله عليه وسلم في الرسالة.
وما ذكره الشيعة هنا ليس مسألة نظرية، وإنما يبين أصول التفسير، والتشريع أيضاً، وسنرى تطبيقاً عملياً لها في كتبهم التي تناولت بالدراسة كتاب الله تعالى، وعند الحديث عن كتبهم سنرى ثلاثة كتب في التفسير ظهرت في القرن الثالث الهجري، وأن هذه الكتب جعلت كتاب الله تعالى أشبه بكتاب من كتب الشيعة، فأكثر الآيات خاصة بالأئمة وولايتهم، وكفر من ينكر هذه الولاية، إلى غير ذلك من الغلو والضلال كما سيتضح، وسنرى هذا في عشرات من كتب التفسير الشيعى الأخرى.
والجعفرية لم يبدأوا التفكير في علم الأصول إلا في القرن الرابع الهجري، ولم يدخل هذا العلم دور التصنيف والتأليف إلا في القرن الخامس (1) . إذا عرفنا هذا أمكن القول بأن ما ذكره الشيعة هنا من علم الأصول إنما كان استنتاجاً من تلك الكتب الثلاثة، أو تبريراً لها، حيث إنها كانت تعتمد على روايات تزعم نسبتها للأئمة.
*****
(1) راجع التصنيف في علم الأصول ص 54 وما بعدها من كتاب المعالم الجديدة للأصول.