الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: القرآن الكريم والتحريف
لماذا قالوا بالتحريف؟
بالرجوع إلى كتب الجعفرية نجد جدلاً حول التحريف بين معتدليهم نسبيا وغلاتهم، ونتعرض لهذا الأمر بإيجاز قدر المستطاع قبل الحديث عن كتبهم بشىء من التفصيل:
فمن المقطوع به عند جمهور المسلمين أنه {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} (1) وأن الله تعالى هو الذي تعهد بحفظ القرآن الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) ، ولذا هيأ له، وسيهيئ له من يحفظه إلى يوم القيامة. وقد كتب على عهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وجمع ما كتب عند الصديق ثم الفاروق، ثم كان المصحف الإمام الذي كتب في خلافة ذى النورين كما هو معلوم، فحفظ في السطور والصدور على مر القرون، وكلما أصاب المسلمون تقدماً وجهوه قدر استطاعتهم لحفظ كتاب الله تعالى، هذا ما نلمسه جميعا بغير خلاف.
والذين حاولوا هدم الإسلام وجهوا مردة شياطينهم للطعن في القرآن المجيد، لكن هيهات، فباءوا بمرارة الفشل، وبغضب ممن علم القرآن. ولا عجب في مسلك هؤلاء الكفار، ولكن العجب كل العجب أن نجد ممن ينتمى إلى الإسلام من يضل ضلال هؤلاء الكفار! فغلاة الاثنى عشرية عز عليهم أن يخلو القرآن الكريم من نصوص ظاهرة صريحة تؤيد عقيدتهم في الإمامة، فلم يكتفوا بالتأويلات الفاسدة كما سنرى، بل أقدموا على جريمة مدبرة، فطعنوا في الصحابة الأكرمين،
(1) 64: يونس.
(2)
9: الحجر.
وعلى الأخص الخلفاء الراشدون الذين سبقوا الإمام علياً، وأرادوا من هذا الطعن الافتراء عليهم بأنهم غير أمناء على تنفيذ الشريعة ونقلها، وحفظ كتاب الله العزيز، ولذا انتهوا من هذا الطعن إلى أنهم اغتصبوا الخلافة، وحرفوا القرآن الكريم حتى لا يفتضح أمرهم، ولا يظهر حق على في الخلافة والأئمة من بعده! !
كتاب فصل الخطاب:
ومن أشهر كتب هؤلاء الغلاة كتاب " فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب "، قال مؤلفه حسين بن محمد تقى النورى الطبرسي (1) في ص 2 " هذا كتاب لطيف وسفر شريف، عملته في إثبات تحريف القرآن، وفضايح أهل الجور والعدوان ".
وذكر روايات كثيرة تفيدالتحريف منها: " لما انتقل سيد البشر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من دار الفناء، وفعلا صنما قريش ما فعلا من غصب الخلافة الظاهرية، جمع أمير المؤمنين عليه السلام القرآن كله ووضعه في إزار، وأتى به إليهم وهم في المسجد، فقال لهم: هذا كتاب الله سبحانه، أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعرضه عليكم لقيام الحجة عليكم يوم العرض بين يدى الله تعالى. فقال فرعون هذه الأمة ونمرودها: لسنا محتاجين إلى قرآنك.. فنادى ابن أبى قحافة بالمسلمين وقال لهم: كل من عنده قرآن من آية أو سورة فليأت بها، فجاءه أبو عبيدة بن الجراح وعثمان، وسعد بن أبى وقاص، ومعاوية بن أبى سفيان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وأبو سعيد الخدرى، وحسان بن ثابت، وجماعات المسلمين، وجمعوا هذا القرآن، أسقطوا ما كان فيه من المثالب التي صدرت عنهم بعد وفاة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، فلذا ترى الآيات غير مرتبطة!! والقرآن الذي جمعه
(1) ولد سنة 1254 هـ بإحدى كور طبرستان، وتوفى بالكوفة سنة 1320 هـ، وهو صاحب كتاب مستدرك وسائل الشيعة الذي طبع بالقاهرة مع الوسائل للحر العاملى.
أمير المؤمنين عليه السلام بخطه محفوظ عند صاحب الأمر عجل الله فرجه، فيه كل شىء حتى أرش الخدش " (1) .
ومنها ما نسب للإمام الصادق " لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتمونا فيه مسمين "(2) .
سورة الولاية في كتاب دبستان المذاهب:
ونقل عن صاحب كتاب دبستان المذاهب قوله: " بعضهم يقولون إن عثمان أحرق المصاحف، وأتلف السور التي كانت في فضل على وأهل بيته، منها هذه السورة {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وذكر سورة كاملة مفتراة، ثم عقب عليها بقوله: " ظاهر كلامه أنه أخذها من كتب الشيعة، ولم أجد لها أثراً فيها، غير أن الشيخ محمد بن على بن شهر أشوب المازندرانى ذكر في كتاب المثالب، على ما حكى عنه، أنهم أسقطوا من القرآن تمام سورة الولاية، ولعلها هذه السورة " (3) .
هذه نماذج قليلة ذكرناها بنصها، والكتاب كله يخبط في ظلام هذا الضلال، ثم يفترى هذا على أهل البيت الأطهار، فمن أولئك الغلاة المفترون؟
من القائلون بالتحريف؟
قال مؤلف الكتاب السابق: " وقوع التغيير والنقصان فيه هو مذهب الشيخ الجليل على بن إبراهيم القمي شيخ الكلينى، في تفسيره صرح بذلك في أوله، وملأ كتابه من أخباره، مع التزامه في أوله بأن لا يذكر فيه إلا مشايخه وثقاته.
(1) ص 9 ـ 10، ويقصد الضالون بصنمى قريش الصديق والفاروق وفرعون هذه الأمة ونمرودها الفاروق {كَبُرَتْ كَلِمَةً تخرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} " 5: الكهف " ويراد بصاحب الأمر إمامهم الثاني عشر، وفى روايات أخرى يطلق هؤلاء الضالون على الراشدين الثلاثة: عجل هذه الأمة وفرعونها وسامريها انظر ص 155، 156، 218 من الكتاب المذكور.
(2)
ص 14.
(3)
انظر ص 156، 157 من فصل الخطاب.
ومذهب تلميذه ثقة الإسلام الكلينى رحمه الله على ما نسبه إليه جماعة لنقله الأخبار الكثيرة الصريحة في هذا المعنى في كتاب الحجة، خصوصاً كتاب النكت والنتف من التنزيل، وفى الروضة، ومن غير تعرض لردها أو تأويلها (1) .
واستظهر المحقق السيد محسن الكاظمى في شرح الوافية مذهبه من الباب الذي عقده فيه وسماه " باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام "، فإن الظاهر من طريقته أنه إنما يعقد الباب لما يرتضيه. قلت: وهو كما ذكره، فإن مذاهب القدماء تعلم غالباً من عناوين أبوابهم، وبه صرح أيضاً العلامة المجلسى في مرآة العقول. وبهذا يعلم مذهب الثقة الجليل محمد بن الحسن الصفار في كتاب البصائر من الباب الذي له أيضاً فيه، وعنوانه هكذا " باب في الأئمة أن عندهم لجميع القرآن الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وهو أصرح في الدلالة مما في الكافى، ومن باب " أن الأئمة محدثون ".
وهذا المذهب صريح الثقة محمد بن إبراهيم النعمانى، تلميذ الكلينى صاحب كتاب الغيبة المشهور، في تفسيره الصغير الذي اقتصر فيه على ذكر الآيات وأقسامها، وهو بمنزلة الشرح لمقدمة تفسير على بن إبراهيم، وصريح الثقة الجليل سعيد بن عبد الله القمي في كتاب ناسخ القرآن ومنسوخه كما في المجلد التاسع عشر من البحار، فإنه عقد فيه باباً ترجمته " باب التحريف في الآيات التي هي خلاف ما أنزل الله عزوجل مما رواه مشايخنا رحمة الله عليهم من العلماء من آل محمد "(2) .
(1) انظر دراستنا لكتاب الحجة من الجزء الأول لأصول الكافى، وكذلك دراستنا لروضة الكافى، في كتاب أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله ص 296: 355، وفى الجزء الثالث من هذه الموسوعة.
(2)
فصل الخطاب ص 25 ـ 26.
واستمر المؤلف في ذكر القائلين بالتحريف (1) إلى أن قال: " ومن جميع ما ذكرناه ونقلناه بتتبعى القاصر، يمكن دعوى الشهرة العظيمة بين المتقدمين، وانحصار المخالف فيهم بأشخاص معينين يأتى ذكرهم. قال السيد المحدث الجزائرى في الأنوار ما معناه أن الأصحاب قد أطبقوا على صحة الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن كلاماً ومادة وإعراباً والتصديق بها "(2) .
ثم قال: " ومن جميع ذلك ظهر فساد ما ذكره المحقق الكاظمى من انحصار القائل به في على بن إبراهيم والكلينى، أو مع المفيد وبعض متأخرى
…
المتأخرين " (3) .
ثم اتهم الصحابة ـ خير أمة أخرجت للناس ـ بالكفر والعناد والجبروت والغباء، ليصل إلى أنهم ليسوا أهلاً لجمعه كما أنزل (4) .
وأكثر من ذكر الروايات كرواية الكلينى عن الإمام الصادق:
" إن القرآن الذي جاء به جبريل عليه إلى محمد صلى الله عليه وسلم سبعة عشرألف آية "(5) .
(1) وممن ذكرهم محمد بن مسعود العياشى صاحب أحد تفاسيرهم المشهورة، انظر ص 26.
(2)
المرجع السابق ص 30.
(3)
المرجع السابق ص 31 ـ 32.
(4)
انظر ص 82.
(5)
الكتاب نفسة ص 211، ومعلوم أن القرآن الكريم آياته لا تصل إلى ستة آلاف وثلاثمائة، ومعنى رواية الكلينى أن أكثر من عشرة آلاف آية حذفت. " جاء في البرهان للزركشى " 1 / 251 ": عدد آياته في قول على رضي الله عنه ستة آلاف ومائتان وثمان عشرة. وعطاء: ستة آلاف ومائة وسبع وسبعون. وحميد: ستة آلاف ومائتان واثنتا عشرة. وراشد: ستة آلاف ومائتان وأربع ".
وقال: " إن الأخبار الدالة على ذلك ـ أي التحريف ـ تزيد على ألفى حديث، وادعى لاستفاضتها جماعة كالمفيد والمحقق والداماد والعلامة المجلسى وغيرهم (1) .
ثم قال: " واعلم أن تلك الأخبار منقولة من الكتب المعتبرة التي عليها معول أصحابنا في إثبات الأحكام الشرعية، والآثار النبوية، إلا كتاب القراءات لأحمد بن محمد السيارى، فقد ضعفه أئمة الرجال، فالواجب علينا ذكر بعض القرائن الدالة على جواز الاستناد لهذا الكتاب "(2) .
وقال أحد مفسرى الجعفرية (3) : " أما اعتقاد مشايخنا رحمهم الله في ذلك فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكلينى ـ طاب ثراه ـ أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن، لأنه روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافى، ولم يتعرض لقدح فيها، مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه، وكذلك أستاذه على بن إبراهيم القمي، فإن تفسيره مملو منه، وله علو فيه، وكذلك الشيخ أحمد بن أبى طالب الطبرسي قدس سره، فإنه أيضاً نسج على منوالهما في كتاب الاحتجاج ".
وقال أحد كتابهم المعاصرين في مقدمة كتبها لتفسير القمي: " هذا التفسير، كغيره من التفاسير القديمة، يشتمل على روايات مفادها أن المصحف الذي بين أيدينا لم يسلم من التحريف والتغيير، وجوابه أنه لم ينفرد المصنف بذكرها، بل وافقه فيه غيره من المحدثين المتقدمين والمتأخرين عامة وخاصة "(4) .
ثم ذكر القائلين بالتحريف فقال بأنهم " الكلينى والبرقى، والعياشى والنعمانى، وفرات بن إبراهيم، وأحمد بن أبى طالب الطبرسي صاحب الاحتجاج،
(1) ص: 227.
(2)
ص: 228.
(3)
هو محمد بن مرتضى المدعو بمحسن، انظر كتابه الصافى ج 1 الورقة 19.
(4)
انظر المقدمة المذكورة ص 22.
والمجلسى، والسيد الجزائرى، والحر العاملى، والعلامة الفتونى، والسيد البحرانى، وقد تمسكوا في إثبات مذهبهم بالآيات والروايات التي لا يمكن الإغماض عنها.
والذى يهون الخطب أن التحريف اللازم على قولهم يسير جداً مخصوص بآيات الولاية، فهو غير مغير للأحكام ولا للمفهوم الجامع الذي هو روح القرآن، فهو ليس بتحريف في الحقيقة، فلا ينال لغير الشيعة أن يشنع عليهم من هذه الجهة " (1) .
معتدلو الشيعة يتصدون لحركة الغلاة:
هذه حركة من حركات التشكيك والتضليل قام بها غلاة الشيعة الاثنى عشرية، وسنعود للحديث عن بعض هؤلاء الغلاة عند تناولنا لكتبهم، ولكن المهم هنا هو أن المعتدلين – إلى حد ما - من إخواننا الجعفرية قد تصدوا لهذه الحركة قديماً وحديثاً، وكشفوا القناع عن هذا الباطل، وفندوا مزاعم القائلين بالتحريف، وبينوا أن ما ذكر من روايات منسوبة لأهل البيت ـ تمسك بها القائلون بالتحريف ـ منها ما يحتمل التأويل ولا يفيد وقوع التحريف، والباقى يضرب به عرض الحائط. وأشهر من تصدى منهم لحركة التضليل في القديم محمد بن بابويه القمي، الملقب بالصدوق صاحب كتاب " من لا يحضره الفقيه "، أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الجعفرية، والسيد الشريف المرتضى، وتلميذه الشيخ الطوسى: صاحب تفسير التبيان، وصاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة السابقة، وشيخ مفسرى الجعفرية أبى على الفضل بن الحسن الطبرسي (2) .
ومما ذكره السيد المرتضى قوله: " القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية
(1) تفسير القمي ـ المقدمة نفسها ص 23 ـ 24.
(2)
وفاة هؤلاء على الترتيب: 381، 436، 460، 548 هـ.
حتى عرفوا كل شىء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد " (1) .
وقال: " إن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأن كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبى بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم عدة ختمات، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبثوث، وذكر أن من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته "(2) .
وقال الشيخ الطوسى: " أما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضاً، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى، وهو الظاهر في الروايات. غير أنه رويت روايات كثيرة، من جهة الخاصة والعامة، بنقصان كثير من أي القرآن، ونقل شىء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملا، والأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها، لأنه يمكن تأويلها. ولو صحت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدفتين، فإن ذلك معلوم صحته، لا يعترضه أحد من الأمة ولا يدفعه "(3) .
(1) مقدمة مجمع البيان ص 15.
(2)
المقدمة السابقة ص 15 وانظر رأى الطبرسي في الصفحة ذاتها.
(3)
التبيان 1 / 3.
وقال الصدوق: " اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم هو ما بين الدفتين: وهو ما في أيدى الناس، وليس بأكثر من ذلك
…
ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب " (1) .
هذا موقف المعتدلين نسبيا في القديم، أما في الحديث فأكثر شيعة اليوم يتفقون في الظاهر مع جمهور المسلمين في أن القرآن الكريم هو ما بين الدفتين بلا زيادة أو نقصان، ومن شذ برأيه منهم، حتى كاد يخرج عن الإسلام، فلا يعتد به، ولذا قال محمد الحسين آل كاشف الغطاء: يعتقد الشيعة الإمامية " أن الكتاب الموجود في أيدى المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه ـ أي إلى محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز والتحدى، ولتعليم الأحكام، وتمييز الحلال من الحرام، وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم، ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ بنص الكتاب العظيم {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصة أو تحريفة ضعيفة شاذة، وأخبار آحاد، لا تفيد علماً ولا عملاً، فإما أن تؤول بنحو من الاعتبار، أو يضرب بها الجدار "(2) .
وعندما خرج صاحب فصل الخطاب بكتابه تصدى له كثير من علماء الشيعة وسفهوا رأيه، وبينوا خطأ ما جاء به جملة وتفصيلاً. منهم ـ على سبيل المثال ـ السيد أبو القاسم الخوئى مرجعهم السابق بالعراق (3) والشيخ محمد جواد البلاغى
(1) رسالته في الاعتقادات: ص 93.
(2)
أصل الشيعة وأصولها ص 133.
(3)
انظر كتابه البيان ص 215 ـ 278 وبعد بحثه قال تحت عنوان " النتيجة " ص 278: " ومما ذكرناه: قد تبين للقارئ أن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال، لا يقول به إلا من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأه إليه بحب القول به، والحب يعمى ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته ".
النجفى (1) والشيخ محمد تقى الحكيم (2) . فلسنا في حاجة إذن إلى ذكر شبهات الضالين، وبيان بطلانها، فقد تكفل إخواننا الجعفرية بهذا، بل إن الإخباريين الذين يرون صحة جميع الأخبار الواردة عن أهل البيت، ولذا ذهبوا إلى القول بالتحريف، وجدنا منهم من ينكر هذا التحريف. قال مرجعهم السابق بالكويت:" مذهبنا ـ ومذهب كل مسلم ـ بأن القرآن الكريم المتداول بين أيدينا ليس فيه أي تحريف بزيادة أو نقصان، وما ذكر في بعض الأحاديث بأن فيه تحريفاً ونقصاناً فهو مخالف لعقيدتنا في القرآن الذي هو الذكر المحفوظ، والذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه "(3) .
هذا اتجاه طيب، وهداية مرجوة، فلعل الله عزوجل يهدى باقى إخواننا الجعفرية الصراط المستقيم، وإن كان هؤلاء الذين يمثلون جانب الاعتدال إلى حد ما في المذهب الجعفرى عز عليهم أن يكون الغلاة الضالون القائلون بالتحريف جعفريين، ولذا حاولوا إبعاد هذه التهمة عمن له مكانة عالية بينهم، وإلصاقها بجمهور المسلمين! ومن المقطوع به أن جمهور المسلمين ليس منهم من يقول بالتحريف.
فلا نعرف أحداً من جمهور المسلمين يقول بأن الصحابة الكرام أسقطوا شيئاً من القرآن الكريم كما قال غلاة الجعفرية، والجعفرية يدركون هذا تماماً ولذا حاولوا نسبة هذا الجرم الشنيع لغيرهم بقولهم بأن القول بنسخ التلاوة قول بالتحريف، ليصلوا من هذا إلى أن أكثر أهل السنة قائلون بالتحريف!
(1) انظر مقدمته لتفسير شبر ص 16: 19.
(2)
راجع كتابه الأصول العامة للفقه المقارن ص 107: 117.
(3)
تعليق على مقال ص 13.
ونسخ التلاوة يعنى أن آيات نزلت، ثم أمر الله تعالى برفعها، وقد أتى الله تعالى بمثلها أو بخير منها {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
…
} " 106: البقرة " أي أن الشارع الحكيم هو الذي أمر بهذا الرفع. فهذا النسخ لو سلمنا بوجوده فإنه كما يقول أستاذنا الجليل المرحوم الدكتور مصطفى زيد " لا يعتبر مطعناً ولا شبه مطعن في القرآن الكريم الذي تكفل الله ـ عزوجل ـ بحفظه من التغيير والتبديل، وهو الذي جمع بين دفتى المصحف، ولا يعتبر مطعناً ولا شبه مطعن كذلك في الوحى الذي تنزل به جبريل على قلب محمد، ما دام المرفوع منه قد رفع في عهد التنزيل، ولم ترفع منه كلمة واحدة بعد أن انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. " النسخ في القرآن الكريم 1 / 282: 283 ".
فما بين الدفتين هو القرآن الكريم الذي أمرنا بتلاوته وتدبره، وتنفيذ أحكامه، بغير زيادة أو نقصان، فكيف يقال بأن النسخ تحريف؟
على أن الجعفرية الذين تصدوا لحركة التضليل في الماضى قائلون بهذا النسخ، بل مدافعون عنه، فكيف غاب هذا عن شيعة اليوم وهم يخلطون بين النسخ والتحريف ليصلوا إلى مأربهم!
ولنذكر مثلاً شيخ الطائفة الطوسى، قال في تفسيره التبيان " 1 / 13 ":" لا يخلو النسخ في القرآن الكريم من أقسام ثلاثة، أحدها: نسخ حكمه دون لفظه.. الثاني ما نسخ لفظه دون حكمه كآية الرجم، فإن وجوب الرجم على المحصنة لا خلاف فيه، والآية التي كانت متضمنه له منسوخة بلا خلاف وهى قوله (والشيخ والشيخة إذا زنيا) .. والثالث: ما نسخ لفظه وحكمه، وذلك نحو ما رواه المخالفون عن عائشة أنه كان فيما أنزل الله عشر رضعات ".
وقال في موضع آخر " 1/ 394 ": " وقد أنكر قوم جواز نسخ القرآن، وفيما ذكرناه دليل على بطلان قولهم، وجاءت أخبار متظافرة بأنه كانت أشياء في القرآن نسخت تلاوتها ".
والنوع الثالث لأن روايته عن المخالفين ـ أي غير الجعفرية ـ قال عنه الطوسى بأنه " مجوز وإن لم يقطع بأنه كان "، أما النوع الثاني فإنه يؤيده برواية الشيخ والشيخة، ويقول بأنها رواية مشهورة، فهذه الرواية من روايات الجعفرية كذلك، ورواها أيضا على بن إبراهيم القمي الذي ينسب رواياته إلى الإمامين الباقر والصادق " انظر تفسيره 2 / 95، وانظر كذلك مجمع البيان 1 / 180 ـ 181 لترى اتفاق الطبرسي مع الطوسى في النسخ ".
ولسنا بهذا نؤيد إمكان وقوع هذا النسخ أو عدم إمكانه، ولكنا نبين لإخواننا الجعفرية أن شيخ طائفتهم الذي دافع عن القول بعدم التحريف، دافع عن القول بنسخ التلاوة، لأن النسخ من الشارع الحكيم والتحريف من البشر بعد عصر التنزيل، فالنسخ والتحريف مختلفان تماماً، فكيف إذن يغيب هذا عن مرجع الجعفرية السابق بالعراق فيقول:" غير خفى أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف والإسقاط "" البيان ص 244 " ثم يستمر ليقول: " وعلى ذلك فيمكن أن يدعى أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة! لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة " ثم يقول في ص 225: " قد عرفت أن القول بعدم التحريف هو المشهور، بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم! " ويشير إلى ما ذكره الطبرسي في مجمع البيان " ج 1 ص 15 " من الاستدلال على بطلان القول بالتحريف. ولو استمر مرجع الجعفرية إلى ص 180 لوجد استدلال الطبرسي كذلك على نسخ التلاوة! وما الرأى عند السيد فيمن ذكروا من الضالين القائلين بالتحريف؟ أليسوا من علماء الشيعة؟ أولا يعد أكثرهم عند الشيعة من المحققين؟ كالقمى، والعياشى، والكلينى، والنعمانى، والمجلسى وغيرهم.
أفلا يذكر السيد الخوئى ما ذهب إليه في كتابه معجم رجال الحديث
…
" ج 1 ص 3 - 64 " من صحة تفسير على بن إبراهيم القمي، شيخ الكلينى، وأن روايات كتاب التفسير هذا " ثابتة وصادرة من المعصومين عليهم السلام، وأنها انتهت إليه بوساطة المشايخ والثقات من الشيعة "؟ أو لم يقرأ السيد تلك
الروايات ليرى فيها النص على القول بتحريف القرآن الكريم؟ وقد حكم هو بصحتها!
وإذا صدر هذا منه فماذا تنتظر من غيره؟! (1)
وبعد: فقد أوجزت هنا سائلاً الله تعالى ألا أكون تركت ما يجب ذكره، أو ذكرت ما يجب تركه.
(1) بعد قليل يأتى الحديث عن تفسيرى القمي والعياشى الضالين، وانظر ما كتبته عن الكافى للكلينى في كتاب أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله.