الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: التفسير في القرن الثاني
وفى القرن الثاني الهجرى بدأ عصر التدوين. ونحن نعلم أن خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز أمر بجمع السنة وتدوينها، وخلافته كانت في العام التاسع والتسعين من القرن الأول، وتوفى في العام الأول من القرن الثاني، وأول من استجاب له ابن شهاب الزهرى المتوفى سنة 124 هـ، وتبعه آخرون، وشاع التدوين في الطبقة التي تلى طبقته، وكان التفسير كما عرفنا باباً من أبواب السنة، ومن هنا كان جمعه وتدوينه. ولم يصلنا مما دُوِن في ذلك القرن إلا القليل: كموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام الشافعى، ومسند أبى داود الطيالسى المتوفى سنة204هـ، وكتاب الآثار لمحمد بن الحسن الشيبانى صاحب الإمام أبى حنيفة.
غير أن هذا القرن شهد التفسير كعلم قائم بذاته، ونتحدث هنا عن ثلاثة كتب هي: التفسير الكبير لمقاتل بن سليمان المتوفى سنة 150 هـ، وتفسير يحيى بن سلام المتوفى سنة 200 هـ، ومعانى القرآن لأبى زكريا يحيى بن زياد الفراء المتوفى سنة 207 هـ.
أولاً: تفسير مقاتل بن سليمان
هذا أول تفسير يصلنا حتى الآن يفسر جميع أي القرآن الكريم، والراجح أن أحداً لم يسبقه في هذا المجال. وسفيان الثورى الذي توفى بعد مقاتل بأحد عشر عاماً طبع تفسيره في مجلد واحد، وهو أقرب ما يكون إلى تفسير مجاهد (1) ، مما يرجح أن طريقة تفسير بعض الآيات والكلمات هي التي كانت لا تزال سائدة
(1) عبد الرحمن السورتى محقق تفسير مجاهد كثيراً ما نراه يشير إلى تفسير سفيان الثورى في الحاشية.
في القرن الثاني، وعلى الأخص في النصف الأول منه قبل أن ينتهى عصر التابعين.
في القرن الثاني، وعلى الأخص في النصف الأول منه قبل أن ينتهى عصر التابعين.
ومع سبق مقاتل، وضخامة تفسيره الذي يقع في أربعة مجلدات، إلا أن هذا التفسير لم يحتل مكانة علمية عند جمهور العلماء، وذلك لأن مقاتلاً مجروح؛ متهم بالكذب، والتجسيم، وكثرة النقل عن أهل الكتاب.
وليس لهذا التفسير من قيمة إلا بمقدار صحة ما فهمه هو من معاني الآيات الكريمة، ولهذا قال الذهبى عنه: متروك الحديث، وقد لطخ بالتجسيم مع أنه كان من أوعية العلم، بحراً في التفسير. ويروى عن الشافعى رضي الله عنه أنه قال: الناس كلهم عيال على ثلاثة: مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير ابن أبى سلمى في الشعر، وعلى أبى حنيفة في الكلام (1) .
ثانياً: تفسير يحيى بن سلام
المؤلف والكتاب: يحيى بن سلام بن أبى ثعلبة التميمى ـ مولى لهم ـ يكنى أبا ذكريا، بصرى، قدم مصر وصار إلى إفريقيا وسكنها، وحج منها، وتوفى بمصر بعد رجوعه من الحج في صفر سنة مائتين.
قال ابن الجزرى في ترجمته ليحيى:
صاحب التفسير. روى الحروف عن أصحاب الحسن البصرى عن الحسن ابن دينار وغيره.
وله اختيار في القراءه من طريق الآثار.
روى عن حماد بن سلمة، وهمام بن يحيى، وسعيد بن أبى عروبة.
(1) انظر ترجمة مقاتل بن سليمان في تهذيب التهذيب 10 / 279: 285 وطبقات المفسرين للداودى 2 / 330 ـ 331.
قال الدانى: ويقال أنه أدرك من التابعين نحواً من عشرين رجلاً وسمع
…
منهم، وروى عنهم.
نزل المغرب، وسكن أفريقيا دهراً، وسمع الناس بها كتابه في تفسير القرآن، وليس لأحد من المتقدمين مثله، وكتابه الجامع.
وكان ثقة ثبتاً، ذا علم بالكتاب والسنة، ومعرفة اللغة العربية، وكان صاحب سنة، وسمع منه بمصر عبد الله بن وهب، ومثله من الأئمة (1) .
وفى ترجمته في لسان الميزان قال ابن حجر:
حدث بالمغرب عن سعيد بن أبى عروبة ومالك وجماعة.
ضعفه الدارقطنى. وقال ابن عدى: يكتب حديثه مع ضعفه، روى عنه بحر ابن نصر وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. وقال سعيد بن عمرو البردعى: قلت لأبى زرعة في يحيى بن سلام المغربى: فقال: لا بأس به، ربما وهم. وقال أبو حاتم الرازى: كان شيخا بصرياً وقع إلى مصر، وهو صدوق. وقال أبو العرب في طبقات القيروان: كان مفسراً، وكان له قدر ومصنفات كثيرة في فنون العلم، وكان من الحفاظ، من خيار خلق الله (2) .
نقرأ ما سبق عن يحيى وعن تفسيره، ولكن أين هذا التفسير؟ وما منهجه؟ ولماذا قيل: ليس لأحد من المتقدمين مثله؟
ما كنت أدرى عن هذا التفسير شيئاً.
ونحن نعرف أن القرن الثاني شهد طائفة من الأئمة تكلموا في الجرح والتعديل، وكان لهذا أثره في جمع الأخبار، مع التصحيح والتضعيف والترجيح،
(1) غاية النهاية في طبقات القراء لشمس الدين أبى الخير محمد بن محمد ابن الجزرى
…
2 / 373 ترجمة رقم 3848. وانظر طبقات المفسرين للداودى 2 / 371 ترجمة رقم 685.
(2)
انظر ترجمته أيضاً في ميزان الاعتدال للذهبى.
ولكن ما كنت أعرف أحداً سبق محمد بن جرير الطبري إلى هذا في مجال التفسير كعلم مستقل، مع أن الطبري عاش في القرن الثالث وتوفى أوائل الرابع" 224: 310 " غير إني عندما قرأت كتاب " التفسير ورجاله " لعالم تونس الشيخ محمد الفاضل بن عاشور وجدته يتحدث عن تفسير يحيى بن سلام. وأورد هنا ما كتبه ذلك العالم الفاضل ليستفيد القارئ كما استفدت، وحتى تكون الحلقة متصلة عندما نأتى للحديث عن تفسير الطبري.
منهج التفسير في النصف الثاني من القرن الثاني:
تحدث الشيخ عن منهج التفسير في النصف الثاني من القرن الثاني الهجرى فقال:
كانت أول التفاسير ظهوراً في النصف الثاني من القرن الثاني بعد كتاب عبد الملك بن جريج ـ التفاسير المتوخيه طريقة جمع الأقوال ـ بحسب ما انتهى إلى مؤلفيها من طرق الإسناد.
وقد اقتضى ذلك لا محالة اشتمال الكتاب الواحد، في الآية الواحدة على أخبار متخالفة، وآثار متفاوتة الدرجات من حيث مظنة الثبوت لقوة الأسانيد وضعفها. فتطلب ذلك رجوعاً إلى تلك الأخبار بالنقض والتمحيص، ليوضع منها ما يوضع على بساط الطرح والتزييف، ويثبت منها ما يثبت على مدرجة الاعتماد والتحصيل.
لا سيما وقد انتهى الكثير منها إلى المؤلفين متبعاً لتعاليق نقدية اتصلت بها وصارت ذيولا لها، منذ أن كانت متناقلة بالطريق الشفهى، قبل أن تدخل حيز التدوين.
فأصبح موقف المؤلفين حيال تلك الأخبار، مثل موقف مصنفى السنة من مختلف الحديث، وموقف الفقهاء من متعارض فتاوى فقهاء الصحابة والتابعين، موقفاً يستدعى إدخال عناصر جديدة من المعارف المتصلة بتوضيح البحث، ثم
إدخال عنصر شخصى من النقد والتقدير، والإسقاط والتحصيل، أو الجمع والتأويل، ينتهى إلى حكم موضوعى فاصل بحسب اجتهاد المؤلف، وتقديره، تتخذ له تلك الأخبار المتخالفة أسانيد ومقومات للاستنتاج كما يتخذ مجموع البينات المتعارضة مع ما يتصل بها من وسائل الإثبات سنداً لقضاء القاضى.
وكانت أهم العناصر المرجوع إليها، بالإضافة إلى عنصر الروايات الواردة، عنصرين يتصلان مباشرة باللفظ القرآنى: هما عنصر القراءة وعنصر الإعراب.
حلقة الاتصال بين القرنين الأول والثالث:
وبعد أن تحدث عن العنصرين، وصلة كل منهما بالتفسير، قال:
" وإنه لمما يجدر التنبيه إليه في هذا المقام: أن الذين يشيرون إلى هذه الطريقة وخصائصها من الكاتبين حديثاً في تاريخ التفسير، يبادرون إلى ضرب المثل بتفسير محمد بن جرير الطبري، فيقطعون بذلك اتصال سلسلة التطور في الأوضاع التفسيرية بين القرن الأول والقرن الثالث بإضاعة الحلقة من تلك السلسلة التي تمثل منهج التفسير في القرن الثاني، لأن تفسير ابن جرير الطبري ألف في أواخر القرن الثالث، وصاحبه توفى أوائل القرن الرابع، والحال أن الحلقه التي يتم بها اتصال السلسلة وضاعت عن الكاتبين المحدثين في تاريخ التفسير: من المستشرقين وغير المستشرقين، هي حلقة أفريقية تونسية، بالوقوف عليها يتضح كيف تطور فهم التفسير عما كان عليه في عهد ابن جريج، إلى ما أصبح عليه في تفسير الطبري، ويتضح لمن كان الطبري مديناً له بذلك المنهج الأثرى النظرى الذي درج عليه في تفسيره العظيم.
وإنما نعنى بهذا تفسيراً جليلاً من صميم آثار القرن الثاني، وهو أقدم التفاسير الموجودة اليوم على الإطلاق، ألف بالقيروان وروى فيها، وبقيت نسخته الوحيده بين تونس والقيروان، وهو الذي يعتبر مؤسس طريقة التفسير
النقدى، أو الأثرى النظرى التي سار عليها بعده ابن جرير الطبري واشتهر بها.
ذلك هو تفسير يحيى بن سلام التميمى البصرى الأفريقى المتوفى سنة 200، وهو تفسير يقع في ثلاثين جزءاً من التجزئة القديمة، أي في ثلاث مجلدات ضخمة، مبنى على إيراد الأخبار مسندة، ثم تعقبها بالنقد والاختيار. فبعد أن يورد الأخبار المروية مفتتحاً إسنادها بقوله:" حدثنا " يأتى بحكمه الاختيارى مفتتحاً بقوله: " قال يحيى "، ويجعل مبنى اختياره على المعنى اللغوى، والتخريج الإعرابى، ويتدرج من اختيار المعنى إلى اختيار القراءة التي تتماشى وإياه، مشيراً إلى اختياراته في القراءة بما يقتضى أن له رواية أو طريقاً لا يبعد أن تكون راجعة إلى قراءة أبى عمرو بن العلاء البصرى، لأن يحيى بن سلام بصرى النشأة، وإلى طريقه المختار في القراءة يشير في تفسيره بقوله:" والذى في مصحفنا ".
وقد نص ابن الجزرى على أن هذا الكتاب سمع من مؤلفه بإفريقيا، وشهد بأنه كتاب ليس لأحد من المتقدمين مثله، وكذلك نقل عن إمام القراءات أبى عمرو الدانى أنه قال:" ليس لأحد من المتقدمين مثل تفسير ابن سلام ". وذلك ينطق بسبقه إلى طريقه، وابتكاره منهجاً. وقد تلقى هذا التفسير عن مؤلفه فقيه أفريقى هو أبو داود العطار المتوفى سنة 244.
وتوجد من هذا التفسير لبلادنا التونسية نسخة عظيمة القدر موزعة الأجزاء، نسخت منذ ألف عام تقريبا، منها: مجلد يشتمل على سبعة أجزاء بالمكتبة العبدلية بجامع الزيتونة الأعظم، وآخر يشتمل على عشرة أجزاء بمكتبة جامع القيروان، ومن مجموعهما يتكون نحو الثلثين من جملة الكتاب. ويوجد جزء آخر لعله يتمم بعض نقص النسخة، هو من المقتنيات الخاصة لبعض العلماء الأفاضل.
ولعل فذاذة هذه النسخة التونسية هو الذي يعتذر به للذين أهملوا شأن ابن سلام في مراحل التفسير، وإن كان التعريف بها حاصلاً منذ أكثر من خمسين سنة،
في الجزء الأول من الفهرس التفصيلى للمكتبة العبدلية، وقد أخذت عنها صور لمعهد المخطوطات العربية، وكثير من دور الكتب في المشرق
…
والمغرب " ا. هـ.
من كلام الشيخ محمد الفاضل بن عاشور نرى أن التفسير في النصف الثاني من القرن الثاني لم يختلف عن الحديث في الاستفادة من الجرح والتعديل، وسلك منهج التصحيح والتضعيف والترجيح. ونسأل الله تعالى أن يهيئ لكتاب التفسير هذا من يحققه ويخرجه للمسلمين.
ثالثاً: معاني القرآن للفراء
الفراء وإملاء الكتاب:
الفراء وهو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمى، ولد بالكوفة سنة 144 هـ، ونشأ بها وتربى على شيوخها، ومنزلته العلمية معروفة: لقب بأمير المؤمنين في النحو، وكان زعيم الكوفيين بعد الكسائى. واستقر به المقام في بغداد، وتوفى سنة 207 هـ.
وفى بداية الكتاب يقول راويه أبو عبد الله محمد بن الجهم بن هارون السمرى:
" هذا الكتاب فيه معاني القرآن، أملاه علينا أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء ـ يرحمه الله ـ عن حفظه من غير نسخة، في مجالسه أول النهار من أيام الثلاثاوات والجمع في شهر رمضان، وما بعده من سنة اثنتين، وفى شهور سنة ثلاث، وشهور من سنة أربع ومائتين. قال: حدثنا محمد بن الجهم، قال: حدثنا الفراء، قال:
تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانية " ا. هـ.
الهدف والمنهج:
ومن العنوان الذي اختاره الفراء يتضح الهدف من أماليه، فهو لا يريد تفسير القرآن الكريم آية آية، وإنما يقف عند بعض الآيات الكريمة ليفسر مشكل الإعراب والمعانى. ولذلك رأينا الكتاب يزخر بمناقشات نحوية مستفيضة، ووقفات لغوية.
وهذا التفسير يعتمد على تمكن صاحبه من اللغة، ومعرفته بأساليبها، وإمامته في النحو، ومعرفته بلهجات العرب، وبالقراءات المختلفة.
ولا نكاد نجد فيه اهتماماً بذكر الأخبار المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة أو التابعين.
ومثل هذا التفسير لا يعد من التفسير المأثور، ولعله أول كتاب يصلنا في التفسير العقلى، وقيمته العلميه تستند إلى مدى التزامه بالمنهج العلمى المقبول لمثل هذا النوع من التفسير، وتمكنه من أدواته ووسائله. ولنذكر شيئا من هذا التفسير يوضح منهجه.
بعد قول الفراء السابق " تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه " قال:
فأول ذلك اجتماع القراء وكتاب المصاحف على حذف الألف من
{بسم الله الرحمن الرحيم} وفى فواتح الكتب، وإثباتهم الألف في قوله:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}
…
وأخذ يبين سبب هذا، ثم انتقل إلى تفسير أم الكتاب فقال: قوله تعالى: {الْحَمْد للهِ} .
اجتمع القراء على رفع الحمد. وأما أهل البدو فمنهم من يقول: {الْحَمْدَ للهِ} ومنهم من يقول {الْحَمْدِ للهِ} . ومنهم من يقول {الْحَمْدُ للهِ} . فيرفع الدال واللام.
وقال: " فأما من نصب
…
" وبين وجه كل من الحالات المذكورة.
ثم قال: " عليهُم " و" عليهِم ": وهما لغتان، لكل لغة مذهب في العربية.
وفصل في بيان سبب ضم الهاء وكسرها، ثم قال:
وقوله تعالى: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} .
بخفض " غير " لأنها نعت للذين.
وبعد أن بين سبب ضبط كلمة " غير " قال:
وأما قوله تعالى: {وَلَا الضَّالِّينَ} فإن معنى " غير " معنى " لا "، فلذلك ردت عليها " ولا "
…
إلخ.
وهكذا سار الفراء في تفسيره لفاتحة الكتاب (1) .
وعند تفسير سورة النور قال:
ومن سورة النور بسم الله الرحمن الرحيم: قوله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} ترفع السورة بإضمار هذه سورة أنزلناها. ولا ترفعها براجع ذكرها لأن النكرات لا يبتدأ بها قبل أخبارها، إلا أن يكون ذلك جواباً؛ ألا ترى أنك لا تقول: رجل قام، إنما الكلام أن تقول: قام رجل. وقبح تقديم النكرة قبل خبرها أنها توصل ثم يخبر عنها بخبر سوى الصلة. فيقال: رجل يقوم أعجب إلىّ من رجل لا يقوم: فقبح إذ كنت كالمنتظر للخبر بعد الصلة. وحسن في الجواب؛ لأن القائل يقول: من في الدار؟ فتقول: رجل، وإن قلت: رَجُلٌ فيها فلا بأس؛ لأنه كالمرفوع بالرد لا بالصفة.
(1) راجع التفسير في ج 1 ص 3 ـ 8.
ولو نصبت السورة على قولك: أنزلناها سورة وفرضناها كما تقول: مجرداً ضربته كان وجهاً. وما رأيت أحداً قرأ به (1) .
وفى سورة النمل قال الفراء:
وقوله: {إِنِّي لَا يخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ
…
} ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} فهذا مغفور له. فيقول القائل كيف صُير خائفاً؟ قلت: في هذه وجهان: أحدهما أن تقول: إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة. ومن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً يخاف ويرجو: فهذا وجه. والآخر أن تجعل الاستثناء من الذين تُركوا في الكلمة؛ لأن المعنى: لا يخاف المرسلون إنما الخوف على غيرهم.
ثم استثنى فقال: إلا من ظلم فإن هذا لا يخاف، يقول: كان مشركاً فتاب وعمل حسناً فذلك مغفور له ليس بخائف.
وقد قال بعض النحويين: إن " إلا " في اللغة بمنزلة الواو، وإنما معنى هذه الآية: لا يخاف لدى المرسلون ولا من ظلم ثم بدل حسناً، وجعلوا مثله قول الله: {لِئلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ
…
} أي ولا الذين ظلموا. ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا، لأنى لا أجيز قام الناس إلا عبد الله، وهوقائم؛ إنما الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء قبل إلا. وقد أراه جائزاً أن تقول: عليك ألف سوى ألف آخر، فإن وضعت " إلا " في هذا الموضع صلحت وكانت " إلا " في تأويل ما قالوا. فأما مجردة قد استثنى قليلها من كثيرها فلا. ولكن مثله مما يكون في معنى إلا كمعنى الواو وليست بها.
(1) راجع ص 243، 244.
قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَاّ مَا شَاء رَبُّكَ
…
} هو في المعنى: إلا الذي شاء ربك من الزيادة. فلا تجعل إلا " في منزلة " الواو ولكن بمنزلة سوى. فإذا كانت سوى في موضع إلا صلحت بمعنى الواو؛ لأنك تقول: عندى مال كثير سوى هذا، أي وهذا عندى؛ كأنك قلت: عندى مال كثير وهذا. وهو في سوى أنفذ منه في إلا لأنك قد تقول: عندى سوى هذا، ولا تقول: إلا هذا (1) .
وفى سورة سبأ:
وقوله: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} " 17 " هكذا قرأه يحيى وأبو عبد الرحمن أيضاً. والعوام: {وَهَلْ يُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} . وقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم} موضع " ذلك " نصب بـ " جزيناهم ".
يقول القائل: كيف خص الكفور بالمجازاة والمجازاة للكافر وللمسلم وكل واحد؟ فيقال: إن جازيناه بمنزلة كافأناه والسيئة للكافر بمثلها وأما المؤمن فيجزى لأنه يزاد ويتفضل عليه ولا يجازى. وقد يقال: جازيت في معنى جزيت، إلا أن المعنى في أبين الكلام على ما وصفت لك؛ ألا ترى أنه قد قال {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم} ولم يقل {جاَزَيْنَاهُم} وقد سمعت جازيت في معنى جزيت وهى مثل عاقبت وعقبت، الفعل منك وحدك. وبناؤها ـ يعنى ـ فاعلت على أن تفعل ويفعل بك (2) .
(1) ج 2 ص 287 ـ 288.
(2)
ج 2 ص 359.
وأكتفى بهذا القدر، ولعله ـ مع قلته ـ يبين منهج الفراء في تفسيره، وقيمته العلمية.
*****