الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: أحسن طرق التفسير
بعد أن انتهينا من الحديث عن تفسير التابعين، وقد ذكر الأخذ عن أهل الكتاب، والتفسير بالرأى، نرى أن نقف هنا وقفة عند أحسن طرق التفسير كما يراه غالب الجمهور.
وفى هذه الوقفة بيان لقيمة التفسير المأثور عن التابعين، وحديث عن الإسرائيليات، والتفسير بالرأى، وهو ما كان يلزمنا أن نبينه بعد الحديث عن تفسير التابعين، فهذه الوقفة إذن تغنينا عن التكرار. ولعل أنسب ما نثبته هنا هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أيضاً" ما قاله الحافظ ابن كثير، وحاول الالتزام به في تفسيره.
قال ابن تيميه رحمه الله تعالى في مقدمة التفسير من فتاواه "ص363: 375 " وطبعت المقدمة كاملة في كتاب مستقل:
فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟
تفسير القرآن بالقرآن وبالسنة:
فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن؛ فما أجمل
…
في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر من مكان فقد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له؛
…
بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعى: كل ما حكم به
…
رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
وقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إلا إني أوتيت القرآن ومثله معه " يعنى السنة.
والسنة أيضاً تنزل عليه بالوحى كما ينزل القرآن؛ لا أنها تتلى كما يتلى، وقد استدل الإمام الشافعى وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك.
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن:" بم تحكم؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيى. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله "، وهذا الحديث في المسانيد والسنن بإسناد جيد.
أقوال الصحابة:
وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن، والأحوال التي اختصوا بها؛ ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح؛ لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين:" مثل عبد الله ابن مسعود "، قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب، قال أنبأنا جابر بن نوح، أنبأنا الأعمش عن أبى الضحى، عن مسروق قال: قال عبد الله ـ يعنى ابن مسعود: والذى لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منى تناوله المطايا لأتيته. وقال الأعمش أيضاً، عن أبى وائل، عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.
ومنهم الحبر البحر " عبد الله بن عباس "، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن، ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له حيث قال:" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ". وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، أنبأنا وكيع، أنبأنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: قال عبد الله ـ يعنى ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. ثم رواه عن يحيى بن داود، عن إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح أبى الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود أنه قال: نعم الترجمان للقرآن ابن عباس. ثم رواه عن بندار عن جعفر بن عون عن الأعمش به كذلك، فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة، وقد مات ابن مسعود في سنة ثلاث وثلاثين على الصحيح، وعمر بعده ابن عباس ستاً وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟ وقال الأعمش، عن أبى وائل: استخلف على عبد الله بن عباس على الموسم فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة ـ وفى رواية سورة النورـ ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا.
الإسرائيليات:
ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين: ابن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:" بلغوا عنى ولو آية، وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج، ومن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو؛ ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
" أحدها " ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح.
و" الثاني " ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
و"
الثالث " ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر دينى، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيراً، ويأتى عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى:{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} .
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغى في مثل هذا. فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدل على صحته؛ إذ لو كان باطلاً لرده كما ردهما، ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا:{قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه؛ فلهذا قال: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا
…
} أي لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب.
فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن
الأهم، فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه أو يحكى الخلاف ويطلقه، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضاً، فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ، كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالا متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان، وتكثر بما ليس بصحيح فهو كلابس ثوبى زور، والله الموفق للصواب.
أقوال التابعين:
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين " كمجاهد بن جبر " فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا إبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمتة، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها، وبه قال الترمذى، قال: حدثنا الحسين بن مهدى البصرى، حدثنا عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة. قال: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئاً، وبه إليه قال: حدثنا ابن أبى عمر، حدثنا سفيان بن
…
عيينة، عن الأعمش، قال: قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم احتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا طلق بن غنام، عن عثمان المكى، عن ابن أبى مليكة، قال: رأيت مجاهداً سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اِكتب، حتى سأله عن التفسير كله، ولهذا كان سفيان الثورى يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
وكسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبى رباح، والحسن البصرى، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وأبى العاليه، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية، فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها
من لا علم عنده اختلافاً، فيحكيها أقوالا، وليس كذلك، فإن منهم من يعبر عن الشىء بلازمه أو نظيره، ومنهم من ينص على الشىء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي.
وقال شعبه بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعنى أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشىء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.
التفسير بمجرد الرأى حرام:
فأما " تفسير القرآن بمجرد الرأى فحرام، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ".
حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبد الأعلى الثعلبى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ". وبه إلى الترمذى قال: حدثنا عبد بن حميد، حدثنى حسان بن هلال قال: حدثنا سهيل ـ أخو حزم القطعى، قال: حدثنا أبو عمران الجونى، عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ "، قال الترمذى هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهل بن أبى حزم.
وهكذا روى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في أن يفسر القرآن بغير علم، وأما الذي روى عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن وفسروه بغير علم،
أو من قبل أنفسهم، وقد روى عنهم ما يدل على ما قلنا أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم، فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت بالأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر؛ لكن يكون أخف جرماً ممن أخطأ، والله أعلم. وهكذا سمى الله تعالى القذفة كاذبين، فقال:{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، وتكلف ما لا علم له به. والله أعلم.
ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن أبى معمر، قال: قال أبو بكر الصديق: أي أرض تقلنى وأى سماء تظلنى إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم؟!
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمود بن يزيد، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمى، أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله:
{وَفاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: أي سماء تظلنى، وأى أرض تقلنى، إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ ـ منقطع.
وقال أبو عبيد أيضاً: حدثنا يزيد، عن حميد، عن أنس، أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر.
وقال عبد بن حميد: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن يزيد، عن ثابت، عن أنس قال: كنا عند عمر بن الخطاب، وفى ظهر قميصه أربع
رقاع، فقرأ:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف، فما عليك أن لا تدريه؟ .
وهذا كله محمول على أنهما رضي الله عنهما إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتاً من الأرض ظاهر لا يجهل؛ لقوله تعالى:{فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا} .
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية عن
…
أيوب، عن ابن أبى مليكة، أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبى أن يقول فيها. إسناده صحيح. وقال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبى مليكه، قال: سأل رجل ابن عباس عن: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} فقال له ابن عباس: فما {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ؟ فقال الرجل إنما سألتك لتحدثنى فقال ابن عباس، هما يومان ذكرهما الله في كتابه، الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم. وقال ابن درير: حدثنى يعقوب ـ يعنى ابن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن مهدى بن ميمون، عن الوليد بن مسلم، قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله فسأله عن آية من القرآن. فقال أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قمت عنى، أو قال: أن تجالسنى، وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال إنا لا نقول في القرآن شيئاً.
وقال الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن. وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل سعيد ابن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا تسألنى عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شىء، يعنى عكرمة. وقال ابن شوذب: حدثنى يزيد بن أبى
يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع.
وقال ابن جرير: حدثنى أحمد بن عبده الضبى، حدثنا حماد بن زيد حدثنا عبيد الله بن عمر، قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وأنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع. وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث، عن هشام بن عروة قال: ما سمعت أبى تأول آية من كتاب الله قط. وقال أيوب وابن عون وهشام الدستوائى، عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلمانى عن آية من القرآن، فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن، فاتق الله وعليك بالسداد.
وقال أبو عبيد: حدثنا معاذ، عن ابن عون عن عبيد الله بن مسلم بن يسار، عن أبيه، قال: إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده. حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه. وقال شعبة، عن عبد الله بن أبى السفر، قال: قال الشعبى: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله. وقال أبو عبيد: حدثنا هشيم، أنبأنا عمر بن أبى زائدة، عن الشعبى، عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله.
التفسير بالرأى عن علم:
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه؛ ولهذا روى عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به فكذلك يجب فيما سئل عنه مما يعلمه؛ لقوله
تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} ، ولما جاء في الحديث المروى من طرق:" من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامه بلجام من نار ".
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان عن أبى الزناد، قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله. والله سبحانه وتعالى أعلم. " انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية "