الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: التعارض والترجيح
روى الكلينى في أصول الكافى عن عمر بن حنظلة قال:
" سألت أبا عبد الله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان، وإلى القضاة، أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً، وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به قال تعالى:{يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} (1) قلت: فكيف يصنعان؟ قال ينظران إلى ما كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإنى قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله.
قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكون الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما: اختلفا في حديثكم؟
قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.
قال - قلت فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟
(1) 60: النساء.
قال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذى حكما به المجمع عليه من أصحابك فيأخذ به من حكمنا. ويترك الشاذ الذى ليس بمشهور عند أصحابك.
قلت: فإن كان الخبران عنكما (1) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة، وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة.
قلت: جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفاً حكمه من الكتاب والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم بأى الخبرين يؤخذ؟
قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد.
فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعاً؟
قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل، حكامهم وقضاتهم، فيترك، ويؤخذ بالآخر.
قلت: فإن وافق حكامهم الخبران جميعاً؟
قال: إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (2) .
هذه الرواية يسميها الجعفرية الرافضة مقبولة ابن حنظلة، وفى باب الترجيح عندهم هى " العمدة في الباب، المقبولة التي قبلها العلماء بأن راويها صفوان بن يحيى الذى هو من أصحاب الإجماع، أى الذين أجمع العصابة على تصحيح ما يصح عنهم: كما رواها المشايخ الثلاثة في كتبهم "(3) .
ويقول المظفر: " من الواضح أن موردها التعارض بين الحاكمين، لا بين الراويين، ولكن لما كان الحكم والفتوى في الصدر الأول يقعان بنص الأحاديث، لا أنهما يقعان بتعبير من المحاكم أو المفتى كالعصور المتأخرة استنباطاً من
(1) يقصد الباقر والصادق.
(2)
الكافى 1 / 67 - 68.
(3)
أصول الفقه للمظفر: 3 / 217 ويعنى بالمشايخ الثلاثة أصحاب كتب الحديث عندهم وهم: الكلينى والصدوق والطوسى.
الأحاديث تعرضت هذه المقبولة للرواية والراوى، لارتباط الرواية بالحكم. ومن هنا استدل بها على الترجيح للرواية المتعارضة " (1) .
ثم يقول بعد بيان انحصار دليل مخالفة العامة في هذه المقبولة: والنتيجة أن المستفاد من الأخبار أن المرجحات المنصوصة ثلاثة: الشهرة وموافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة. وهذا ما استفاده الشيخ الكلينى في مقدمة الكافى (2) .
وهذه المقبولة التي اعتبرت العمدة في باب الترجيح بصفة عامة، والدليل الوحيد على مخالفة العامة ـ–أى جمهور المسلمين ـ– بصفة خاصة، أقول: هذه المقبولة مرفوضة من وجهة نظرنا لما يأتى:
1.
أنها اعتبرت كل حاكم أو قاض غير جعفرى اثنى عشرى طاغوتاً أمرنا أن نكفر به بنص القرآن الكريم.
2.
أنها اعتبرت أخذ الحق الثابت سحتاً ما دام أخذه عن طريق هؤلاء الحكام والقضاة.
3.
أنها جعلت حكم الحكم الجعفرى الرافضى كحكم الله تعالى، ومن لم يقبله فكأنما أشرك بالله سبحانه.
4.
أنها تدعو إلى مخالفة جمهور المسلمين حتى عند ظهور موافقتهم للكتاب والسنة.
(1) المرجع السابق: 3 / 219.
(2)
نفس المرجع: 3 /223.
وقال السيد حسين الموسوى: لو فرضنا أن الحق كان مع العامة في مسألة ماذا يجب علينا أن نأخذ بخلاف قولهم؟
أجابني السيد محمد باقر الصدر مرة فقال: فنعم يجب الأخذ بخلاف قولهم، لأن الأخذ بخلاف قولهم. وإن كان خطأ فهو أهون من موافقتهم، على افتراض وجود الحق عندهم في تلك المسألة. " كشف الأسرار ص 92 ".
فالإمام الصادق أعمق إيماناً، وأرفع شأنا من أن يصدر منه هذه الجهالة، وإنما تصدر هذه الرواية عن غال، يفترى على الأئمة، يريد لأمة الإسلام أن تفترق ولا تتحد.
وبعد هذا نرى أثر عقيدة الإمامة في باب الترجيح عند الجعفرية يظهر فيما يأتى:
1.
جعلوا المشهور عندهم مقدما على غيره، حتى قدموه على ما وافق الكتاب والسنة، فالمشهور الجعفرى المخالف للكتاب والسنة مقدم على غيره الموافق للكتاب والسنة.
ثم " إنهم لا يزالون يقدمون المشهور على غيره ولو كان راوى الغير أعدل وأصدق "(1) وهذا مما جعل غلاة الجعفرية يسيرون إلى أهدافهم من طريق ممهد، ولنضرب لهذا مثلا لعله كاف لما أردنا توضيحه.
صاحب كتاب " فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب " قال عن الروايات التي يرى أنها تثبت - على حد افترائه - تحريف القرآن الكريم: " الأخبار الدالة على ذلك تزيد على ألفى حديث، وادعى استفاضتها جماعة كالمفيد، والمحقق والداماد، والعلامة المجلسى وغيرهم "(2) فهذه روايات جعفرية مشهورة مستفيضة، فلما تعارضت مع كتاب الله تعالى: حيث أخبر سبحانه بأنه الحافظ لكتابه العزيز ولا تبديل لكلماته، حرفوا معناه كما رأينا من قبل في الجزء الثانى، فهؤلاء القوم لم يناقضوا أنفسهم هنا، فهم غلاة في المبدأ وغلاة في التطبيق. ولكن الذين يمثلون جانب الاعتدال النسبى عند الجعفرية أبوا أن يهدم
(1) فوائد الأصول: 4 / 291 وقال المظفر بعد حديث عن المفاضلة بين المرجحات: " والنتيجة أنه لا قاعدة هناك تقتضي تقديم أحد المرجحات على الآخر، ما عدا الشهرة التي دلت المقبولة على تقديمها "(أصول الفقه 3 /227) .
(2)
ص 227 من الكتاب المذكور وهو ينقل هذا عن ضال مثله ثم أخذ يؤيده، راجع ما ذكرناه عن هذا الكتاب في الجزء السابق.
الإسلام من أساسه فرفضوا الأخذ بهذه الروايات، وكان عليهم إذن أن يغيروا المبدأ حتى لا يناقضوا أنفسهم عند التطبيق. فهم يتفقون مع الغلاة في تقديم المشهور، واختلفوا معهم عندما جاء المشهور الجعفرى لتقويض البناء الإسلامى.
2.
جعلوا من المرجحات مخالفة العامة، أى عامة المسلمين، فما خالف الأمة الإسلامية أولى بالقبول عندهم مما وافقهم، استناداً إلى المقبولة المرفوضة فهى مستندهم الوحيد، وهى التي تزعم أن الإمام الصادق قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد.
ولعل هذا من أخطر المبادئ التي جعلت بين الجعفرية الرافضة وسائر الأمة الإسلامية هوة ـ– سحيقة عميقة ـ– فابتعد الجعفرية كثيراً عن الخط الإسلامى الصحيح، لأنهم استقروا " على تقديم مخالف العامة على موافقهم، من غير ملاحظة المرجحات السندية وجوداً وعدماً، حتى لو كان الخبر مستفيضاً يحملونه على التقية عند التعارض "(1) .
والحمل على التقية هنا يعنى أن الخبر في ذاته لا يحمل قرائن التقية لأنهم يقولون: " الذى يكون من الشرائط لحجية الخبر هو أن لا يكون في الخبر قرائن التقية بحيث يستفاد من نفس الخبر أنه صدر تقية، والذى يكون مرجحاً، مجرد المخالفة والموافقة للعامة من دون أن يكون في الخبر الموافق قرائن التقية "(2) .
وهم يعودون بهذا المبدأ الهدام إلى عصر الصحابة الكرام: فيقولون: " بأن الرشد في خلافهم، وأن قولهم في المسائل مبنى على مخالفة أمير المؤمنين رضي الله عنه فيما يسمعونه منه "(3) .
ثم يقولون: " التعليل بأن الرشد في خلافهم محتمل لوجوه:
(1) الحاشية على الكفاية 2 / 203.
(2)
فوائد الأصول 4 / 293.
(3)
الحاشية على الكفاية 2 / 190.
الأول - أن يكون إصابة الواقع غالباً في مخالفتهم، فهم غالباً في ضلالة وبعد عن الواقع.
والثانى - أن يكون نفس مخالفتهم رشداً، فالمخالفة لهم حسن ذاتاً.
والثالث - أن يكون ذلك من جهة صدور الخبر الموافق تقية، فيكون الأخذ بالخبر المخالف رشداً من باب تمامية وجه صدوره بخلاف الموافق " (1) .
وبعد: فإنا لا نعجب عندما ينفث غلاة الجعفرية الرافضة وزنادقتهم سمومهم بمثل هذه الأقوال، ولكن لا ندرى كيف يصبح هذا المبدأ مقبولا عند الجعفرية جميعاً؟ وكنا ننتظر، من معتدليهم نسبياً ودعاة التقريب منهم، أن يقفوا موقفاً يتفق مع اعتدالهم الظاهرى، ودعوتهم للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
ونضرب مثلا هنا - والأمثلة جد كثيرة - يبين كيف تمكن واضعو هذا المبدأ من توجيه المذهب الجعفرى وجهة بعيدة عن أمة الإسلام في كثير من الأحكام، وبالطبع على غير أساس من الحق، والمثل هو ما رواه الكلينى:
" عن زرارة بن أعين، عن أبى جعفر قال: سألته عن مسألة فأجابنى، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابنى، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابنى وأجاب صاحبى، فلما خرج الرجلان قلت يا بن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان، فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه، فقال: يا زرارة: إن هذا خير لنا، وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا، ولكان أقل لبقائنا وبقائكم "(2) .
فهنا إذن ثلاث فتاوى تعطى أحكاماً مختلفة لمسألة واحدة، ولا أساس لهذا الاختلاف سوى عدم اجتماع الشيعة على حكم واحد، حتى لا يكشف أمرهم،
(1) المرجع السابق 2 /193.
(2)
الكافى 1 /65، على أنا نرى عدم صدور هذا من سيدنا الباقر رضى الله تعالى عنه، فمتن الرواية يعنى أنه يفتى بغير دليل من كتاب أو سنة بل يتعمد المخالفة والتضليل فى أحكام الله تعالى: فهذه الرواية كأختها المقبولة المرفوضة.
فيصبحوا عرضة للقتل. ولكن هذه الفتاوى عند الجعفرية الاثنى عشرية سنة ومصدر تشريع، فعند الترجيح يؤخذ بما خالف الأمة الإسلامية، ويترك ما وافقها، حتى إذا كان المتروك موافقاً للكتاب والسنة: على أن هذا ما حضره زرارة ويمكن أن يأتى آخرون، فتكثر الروايات، وتختلف الأحكام بغير دليل شرعى، والترجيح لما خالف جمهور المسلمين.