الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
التبيان للطوسي وتفاسير الطبرسي
أصول التفسير عند الطوسى والطبرسى:
وننتقل بعد هذا الحديث عن أولئك الذين يمثلون شيئا من الاعتدال عند مفسرى الجعفرية، وأول هؤلاء شيخ الطائفة في زمانه أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى (1) . وإذا كان الصدوق والشريف المرتضى من الجعفرية الذين سبقوا للتصدى لحركة التضليل والتشكيك في كتاب الله تعالى، فإن الطوسى أول من تصدى لهذه الحركة بطريقة عملية، حيث ألف تفسيره الكبير" التبيان "، فبين أن القرآن الكريم هو ما بين الدفتين بغير زيادة أو نقصان كما نقلنا من قبل، ثم وضع أسساً للتفسير، وطبقها في تفسيره، فصان كتاب الله تعالى من التحريف في المعنى إلى درجة كبيرة. وننقل هنا ما ذكره الطوسى فيما يتعلق بالتفسير. قال في كتابه التبيان " 1 / 4 - 6 ": " اعلم أن الرواية ظاهرة في أخبار أصحابنا بأن تفسير القرآن لا يجوز إلَاّ بالأثر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الأئمة رضي الله عنهم، الذين قولهم حجة كقول النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القول بالرأى فيه لا يجوز والذى نقول في ذلك: إنه لا يجوز أن يكون في كلام الله تعالى وكلام نبيه تناقض وتضاد.
(1) ولد الطوسى سنة 385 هـ، وهاجر إلى العراق فهبط بغداد، ثم انتقل إلى الكوفة والنجف، كان ينتمى أولاً إلى مذهب الشافعى، ثم أخذ الكلام والأصول عن الشيخ المفيد رأس الإمامية. له كثير من الكتب. توفى سنة 460.
راجع ترجمته في هدية العارفين 2 / 72 " جعل له تفسيري الطبرسي! " ومعجم المؤلفين 9/202.
وقد قال الله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) وقال {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (2) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلسَانِ قَوْمِهِ} ) (3) وقال: {وفيه تبيان كل شئ} (4){مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (5) ، فكيف يجوز أن يصفه بأنه عربى مبين، وأنه بلسان قومه، وأنه بيان للناس، ولا يفهم بظاهره شىء. وهل ذلك إلَاّ وصف له باللغز والمعمى الذي لا يفهم المراد به إلَاّ بعد تفسيره وبيانه. وذلك منزه عنه القرآن. وقد مدح الله أقواماً على استخراج معاني القرآن فقال:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (6)، وقال في قوم يذمهم حيث لم يتدبروا القرآن ولم يتفكروا في معانيه:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (7)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتى أهل بينى "، فبين أن الكتاب حجة، كما أن العترة حجة، وكيف يكون حجة ما لايفهم به شىء؟ وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا جاءكم عنى حديث، فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط " وروى مثل ذلك
(1) الزخرف: 3.
(2)
الشعراء: 195.
(3)
إبراهيم: 4.
(4)
نص الآية {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} " النحل: 89 ".
(5)
الأنعام: 38.
(6)
النساء: 83.
(7)
محمد: 24.
عن أئمتنا رضي الله عنهم، وكيف يمكن العرض على كتاب الله، وهو لا يفهم به شىء؟ وكل ذلك يدل على أن ظاهر هذه الأخبار متروك.
والذى نقول به: إن معاني القرآن على أربعة أقسام:
أحدها: ما اختص الله تعالى بالعلم به، فلا يجوز لأحد تكلف القول فيه ولا تعاطى معرفته، وذلك مثل قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَاّ هُوَ} (1)، ومثل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (2) إلى آخرها. فتعاطى معرفة ما اختص الله تعالى به خطأ.
وثانيها: ما كان ظاهره مطابقاً لمعناه فكل من عرف اللغة التي خوطب بها عرف معناها، مثل قوله تعالى:" وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ "(3)، ومثل قوله تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (4) ، وغير ذلك.
وثالثها: ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلاً، مثل قوله تعالى:(وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ((5) ، ومثل قوله تعالى {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
(1) الأعراف: 187.
(2)
لقمان: 34.
(3)
النعام: 151.
(4)
أول سورة الإخلاص.
(5)
البقرة
…
: 43.
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (1) ، {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (2) ، وقوله
…
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعلُومٌ} (3) ، وما أشبه ذلك. فإن تفصيل أعداد الصلاة وعدد ركعاتها، وتفصيل مناسك الحج وشروطه، ومقادير النصاب في الزكاة لا يمكن استخراجه إلَاّ ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، ووحى من جهة الله تعالى، فتكلف القول في ذلك خطأ ممنوع منه، يمكن أن تكون الأخبار متناولة له.
ورابعها: ما كان اللفظ مشتركاً بين معنيين فما زاد عنهما، ويمكن أن يكون كل واحد منهما مراداً. فإنه لا ينبغى أن يقدم أحد به فيقول: إن مراد الله فيه بعض ما يحتمل لأمور، وكل واحد يجوز أن يكون مراداً على التفصيل، والله أعلم بما أراد.
ومتى كان اللفظ مشتركاً بين شيئين، أو ما زاد عليها، ودل الدليل على أنه لايجوز أن يريد إلَاّوجهاً واحداً، جاز أن يقال: إنه هو المراد.
ومتى قسمنا هذه الأقسام نكون قد قبلنا هذه الأخبار، ولم نردها على وجه يوحش نقلتها والمتمسكين بها، ولا منعنا بذلك من الكلام في تأويل الآى جملة.
وقال في موضع آخر: " ينبغى لمن تكلم في تأويل القرآن أن يرجع إلى التاريخ، ويراعى أسباب نزول الآية على ما روى، ولا يقول على الآراء والشهوات "(4)
(1) آل عمران: 97.
(2)
الأنعام
…
: 141.
(3)
المعارج: 24.
(4)
التبيان 9 / 325 - 326.
الفرق بينهما وبين الجمهور:
هذا ما ذكره الشيخ الطوسى، وهو يتفق مع جمهور المفسرين فيما عدا حديثه عن المشترك، حيث جعل للأئمة ما للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا ليس بمستغرب منه، لأنه يتفق مع عقيدته في الإمامة. ولم يجعل للصحابة الكرام دوراً في التفسير، وهم الذين تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
والقرن الذي تلاه - أي القرن السادس الهجرى - ظهر فيه إمام المفسرين عند الجعفرية أبو على الفضل بن الحسن الطبرسي (1) الذي أخرج كتاباً في التفسير هو " مجمع البيان "، ثم ألف كتاباً آخر أصغر منه أسماه " جوامع الجامع "، وله كتاب ثالث (2) .
وقد سلك مسلك الشيخ الطوسى، وتأثر به إلى حد كبير، فهما يمثلان جانب الاعتدال النسبى عند مفسرى الجعفرية في القديم كما أشرنا من قبل. ومع أنهما يمثلان شيئا من الاعتدال، إلَاّ أن تناولهما لكتاب الله تعالى لم يسلم من التأثر بعقيدتهما في الإمامة، وأهم مظاهر التأثر نراها فيما يأتى:
أولاً: اللجوء لتأويل بعض آيات الكتاب المجيد للاستدلال على عقيدة الإمامة:
فالذين ذهبوا إلى القول بنحريف القرآن المجيد لم يضطروا للاستدلال على عقيدتهم عن طريق التأويل ما دام هؤلاء الغلاة قد زعموا أن القرآن الكريم نص على الإمامة التي يعتقدونها، أما هما فقد وقفا طويلاً أمام بعض آيات الله تعالى: يؤولان ويجادلان لإثبات عقيدتهم، مثال هذا ما نقلناه عنهما في الجزء الأول، وذلك عند الحديث عن آية الولاية والتطهير وعصمة الأئمة.
(1) توفى سنة 548 هـ.
(2)
قال صاحب الذريعة " 4 / 310 ": تفسير الكاف الشاف من كتاب الكشاف، أو الوجيز، هو ثالث تفاسير الطبرسي. والكتاب المذكور وجدته في مكتبة لندن.
ثانياً: ذكرهما لبعض القراءات الموضوعة والشاذة ذات الصلة بالمذهب:
مثال هذا ما جاء في تفسير سورة آل عمران عند قوله تعالى:
{إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (1) ، فإنهما يذكران أن قراءة أهل البيت " وآل محمد على العالمين "(2) .
وفى سورة الفرقان عند قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا للْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (3)، يفسرها الطوسى بقوله:" بأن يجعلهم ممن يقتدى بأفعالهم الطاعات "، ولكنه يذكر أن قراءة أئمتهم {وَاجْعَلْ لنَا من الْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (4) .
والطبرسى يذكر للإمام الصادق أقوالاً في هذه الآية الكريمة يجعلها خاصة بأئمة الجعفرية. كقول الإمام فيها: " إيانا عنى " وقوله: " هذه فينا ". ولا يكتفى بهذا بل يذكر ما يتفق مع الغلاة القائلين بالتحريف، فيخطئ ما جاء بالمصحف الشريف ليصل إلى القراءة التي ذكرها الطوسى، والرواية هي:" عن أبى بصير قال: قلت: واجعلنا للمتقين إماماً، فقال: - أي الإمام الصادق: " سألت ربك عظيماً، إنما هي: واجعل لنا من المتقين إماماً " (5) .
(1) الآية 33.
(2)
انظر التبيان 2 / 441، ومجمع البيان 2 / 433.
(3)
الآية 74.
(4)
انظر التبيان 7 /512.
(5)
انظر جوامع الجامع ص 326.
وفى قوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (1)، يقول الطوسى:" بالريح والملائكة "، وقيل بعلى، وهى قراءة ابن مسعود، وكذلك هو في
…
مصحفه " (2) .
وقال الطبرسي: " وكفى الله المؤمنين القتال بالريح والجند، وعن ابن مسعود أنه كان يقرأ: وكفى الله المؤمنين القتال بعلى "(3) .
وفى قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (4) ، يذكران قراءة لتأييد رأى فقهى ارتبط بالمذهب الجعفرى، وهو إباحتهم لزواج المتعة، هذه القراءة هي زيادة " إلى أجل مسمى " بعد " فما استمعتم به منهن "(5) }
(1) سورة الأحزاب الآية 25.
(2)
التبيان 8 / 331.
(3)
جوامع الجامع ص 370.
(4)
النساء: الآية 24.
(5)
انظر التبيان 6 / 166، وجوامع الجامع ص 83 – 84 وراجع تحريف القمي لها الذي ذكرناه في ص 188.
وقد روى الشيعة – وغيرهم – أن حمزة أحد القراء السبعة، قرأ على الإمام جعفر الصادق " انظر مجمع البيان 1 /12 ". وفى غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزرى ذكر أن جعفر ابن محمد لم يخالف حمزة في شىء من قراءته إلَاّ في عشرة أحرف. وبمراجعة هذه الأحرف لا نجد قراءة مما ذكره معتدلو الشيعة فضلاً عن غلاتهم، ولا نجد فيها أي أثر للإمامة. ونجد بعد الأحرف قول الإمام جعفر:" هكذا قراءة على بن أبى طالب ". " انظر الكتاب المذكور
…
1 / 196 ".
{) .
ثالثاً: أسباب النزول:
في ذكرهما لبعض أسباب النزول يبدو أثر الإمامة واضحاً، فمثلاً عند قوله تعالى:{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} (1)، يذكر الطوسى سبب النزول فيقول: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوماً لعلى: " لولا إني أخاف أن يقال فيك ما قالت النصارى في عيسى لقلت فيك قولاً لا تمر بملأ إلَاّ أخذوا التراب من تحت قدميك، أنكر ذلك جماعة من المنافقين وقالوا: لم يرض أن يضرب له مثلاً إلَاّ بالمسيح، فأنزل الله الآية "(2) .
أما الطبرسي فيذكر سبباً آخر، قال:" المروى عن أهل البيت أن أمير المؤمنين قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إلى ثم قال: يا على، إنما مثلك في هذه الأمة مثل عيسي ابن مريم، أحبه قوم وأفرطوا في حبه فهلكوا، وأبغضه قوم وأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا، فعظم ذلك عليهم وضحكوا، فنزلت الآية "(3)
وفى سورة النحل " الآية 91 ": {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} قال
(1) 57: الزخرف، والسورة الكريمة مكية، فكيف غاب هذا عن الطوسى وهو يذكر هذه الرواية، ويتحدث عن المنافقين! أوجدت جماعات المنافقين في العهد المكى!!
(2)
التبيان 9 / 209 -210.
(3)
جوامع الجامع ص 436، وانظر مجمع البيان 9 / 53.
الطبرسي بأن الإمام الصادق قال: " نزلت هذه الآية في ولاية على والبيعة له حين قال النبي صلى الله عليه وسلم سلموا على علىّ بإمرة المؤمنين (1)
وفى سورة القلم قال الطبرسي: " لما رأت قريش تقديم النبي صلى الله عليه وسلم علياً قالوا: افتتن به محمد صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ} إلى قوله: {بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} ، وهم النفر الذين قالوا ما قالوا، {وَهُوَ أَعلَمُ بِالْمُهْتَدِين} ، على بن أبى طالب "(2)
وسورة عبس سبب نزولها معروف مشهور، ولكن الطوسى يرفض ما ذكره المفسرون (3) ، ويذهب إلى أنها " نزلت في رجل من بنى أمية كان واقفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل ابن مكتوم تنفر منه وجمع نفسه وعبس في وجهه، وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله تعالى ذلك وأنكر معاقبة على ذلك "(4)
وإذا وجدنا بين أسباب النزول ما يتصل بالإمام على وبيعته، وهو لم يصح من طريق، ويقطع برفضه كون النزول في مكة، وسياق الآيات الكريمة كذلك، إلَاّ أنا نجد الأمر يختلف بالنسبة لغير أبى الحسن، مثال هذا ما جاء في سورة الليل: فالطبرسى يورد رواية تبين أن أبا الدحداح هو المراد من قوله تعالى:
…
{
(1) جوامع الجامع ص 249، وسورة النحل نزلت في العهد المكى كذلك، والبيعة المزعومة قالوا إنها كانت بعد حجة الوداع!
(2)
المرجع السابق ص 504، وسورة القلم ليست مكية فحسب، بل من أوائل ما نزل، فهى بعد العلق: أول سور القرآن الكريم نزولاً، وقت أن كان على بن أبى طالب - رضي الله تعالى عنه - صبياً!
(3)
انظر التبيان 10 /268.
(4)
المرجع السابق 10 / 269.
فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى} ثم يقول
…
" وعن ابن الزبير قال: إن الآية نزلت في أبى بكر، لأنه اشترى المماليك الذين أسلموا مثل بلال وعامر بن فهيرة وغيرهما، وأعنقهم، والأولى أن تكون الآيات محمولة على عمومها في كل من يعطى حق الله من ماله "(1) أما الطوسى فإنه لا يذكر سبباً للنزول (2) .
رابعاً: جعل الأئمة هم المراد من كلمات الله:
ذكرنا من قبل أن أولئك الغلاة الذين عز عليهم خلو القرآن من ذكر الأئمة ووجوب ولايتهم، ذهبوا إلى القول بالتحريف وإسقاط أسماء الأئمة وآيات الولاية. وهنا نجد الدافع نفسه يدفع الطوسى والطبرسى إلى شئ آخر هو اللجوء إلى تأويل كثير من أي القرآن الكريم حتى يكون للأئمة والولاية ذكر، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة التي ما أكثرها!
في سورة النساء " الآية 83 "{وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَاّ قَلِيلاً} ، يروى الطبرسي عن أئمته أن " فضل الله ورحمته النبي وعلى عليهما السلام "(3) .
(1) انظر مجمع البيان 10 / 501 - 502.
(2)
انظر التبيان 10 / 363 وما بعدها، وحمل الآيات على عمومها لا ينفى سبب النزول، فكما هو معلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وشتان بين موقفهما هنا وموقفهما من الآيات التي وضع المفترون أسباباً لنزولها تتصل بأئمتهم.
(3)
جوامع الجامع ص 92، ولكن الطوسى لم يشر لعلى. انظر التبيان 3 / 274.
وفى نفس السورة " الآية 159 "{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بهِ قَبْلَ مَوْتِه} ، يروى الطبرسي عن الإمامين الباقر والصادق:" حرام على روح امرئ أن تفارق جسدها حتى ترى محمداً وعلياً بحيث تقر عينها أو تسخن "(1) .
وفى سورة الأعراف " الآية 44 "{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، فينقل الطبرسي عن تفسير القمي، عن الإمام الرضا أنه قال: المؤذن أمير المؤمنين على. ويذكر كذلك أن الإمام عليا قال: أنا ذلك المؤذن، وعن ابن عباس: إن لعلى في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس. ويقول الطبرسي أيضاً: فهو المؤذن بينهم يقول: ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتى واستخفوا بحقى (2) .
وعند الحديث عن أصحاب الأعراف في الآيات التالية يقول الطوسى بأن علياً قسيم الجنة والنار، ويزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يا على، كأنى بك يوم القيامة وبيدك عصا موسى، تسوق قوماً إلى الجنة وآخرين إلى النار "(3) .
(1) نفس المرجع ص 101، وأنكر الطوسى هذا قائلاً " لم يجر لمحمد صلى الله عليه وسلم ذكر فيما تقدم، ولا ها هنا ضرورة موجبة لرد الكناية عليه، وما هذه صورته لا تجوز الكناية عنه " التبيان
…
3 /387.
(2)
انظر مجمع البيان ط مكتبة الحياة 8 / 63، والآية الكريمة التالية التي تحدثت عن أولئك الظالمين هي " الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالأخرة كافرون ". ولا ندرى أين على وولايته هنا؟ على أن الطوسى لم يذكر علياً هنا. انظر التبيان 4 / 406.
(3)
التبيان 4 / 411، ومن المعلوم – كما نص القرآن الكريم في أكثر من موضع – أن مثل هذا الأمر يكلف به الملائكة.
ويروى الطبرسي عن أمير المؤمنين قال: " نحن نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار، فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار "(1) .
وفى سورة النمل " الآية 82 ": {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ، يذكر الطبرسي أن الإمام علياً هوهذه الدابة، وينقل عن تفسير العياشى ما يفيد هذا (2)
وفى سورة محمد " الآية 30 ": {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} يروى الطبرسي أن لحن القول بغضهم على بن أبى طالب (3)
وفى سورة ق " الآية 24 ": {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} ، يزعم الطبرسي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" إذا كان يوم القيامة يقول الله لي ولعلى: " ألقيا في النار من أبغضكما، وأدخلا في الجنة من أحبكما ". وذلك قوله عز اسمه:{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} (4) .
ونجد الطوسى والطبرسى لا يقتصران في التأويل على ذكر الإمام على، فقد جعلا لغيره من الأئمة نصيباً، ومن أمثلة هذا ما نقرؤه عند تأويلهما لقوله تعالى في
(1) جوامع الجامع ص 146.
(2)
انظر مجمع البيان ط مكتبة الحياة 20 / 251، والطوسى أشار إلى أنها من الإنس ولكنه لم يذكر علياً ولا غيره. انظر التبيان 8 / 119 -120.
(3)
انظر مجمع البيان 9 / 106 ولكن الطوسى لم يشر لهذا، انظر التبيان 9 / 305.
(4)
مجمع البيان 9 / 147 ولكن الطوسى أيضاً لم يذكر هذا – انظر التبيان 9 / 366 – 367.
سورة البقرة " الآية 37 ": {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} ، فالطوسى بعد أن ذكر الروايات المختلفة في تأويل الكلمات يقول:" في أخبارنا توسله - أي آدم- بالنبى صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وكل ذلك جائز "(1) .
والطبرسى بعد ذكره لتلك الروايات يقول: " قيل - وهى رواية تختص بأهل البيت عليهم السلام إن آدم رأى مكتوباً على العرش أسماء معظمة مكرمة، فسأل عنها، فقيل له: هذه الأسماء أجل الخلق منزلة عند الله تعالى، والأسماء: محمد وعلى وفاطمة والحسن والحسين، فتوسل آدم عليه السلام إلى ربه بهم في قبول توبته ورفع منزلته "(2) .
ونجد الزعم كذلك بأن الأئمة هم حبل الله (3) في قوله تعالى في سورة آل عمران " الآية 103 ": {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ} .
وهم المخاطبون في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} (4) فيرويان عن أئمتهما أن هذا أمر لكل واحد من الأئمة أن يسلم الأمر إلى ولى الأمر بعده (5) .
(1) التبيان 1 / 169.
(2)
مجمع البيان 1 / 89.
(3)
ذكر الطبرسي في المراد بحبل الله ثلاثة أقوال: أحدها بأنه القرآن، وثانيها أنه دين الإسلام، وثالثها أنه أئمة الجعفرية، ثم قال: والأولى حمله على الجميع، وأيد قوله بإحدى روايات الغدير التي أثبتنا عدم صحتها في أكثر من كتاب – انظر مجمع البيان 2 / 482. أما الطوسى فلم يذكر القول الثالث: انظر التبيان 2 / 545 – 546.
(4)
58: النساء.
(5)
انظر التبيان 3 / 234، جوامع الجامع ص 89.
وهم أولو الأمر في الآية التي تلتها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (1)
وفى الآية الثالثة والثمانين من نفس السورة: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ} (2) .
وهم أهل الذكر (3){فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} " الأنبياء: 7 ". وهم المصطفون (4){ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} " فاطر: 32 ".
وهم من أذن له الرحمن (5){يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} " النبأ: 38 ".
والأئمة الذين ورد ذكرهم كثيراً في هذين التفسيرين نجد لولايتهم حظاً من التأويل، فعند قوله تعالى في سورة البقرة " الآية 208 ": {
(1) راجع التبيان 3 / 236-237، وجوامع الجامع ص 89.
(2)
راجع التبيان 3 / 273، وجوامع الجامع ص 89.
(3)
انظر التبيان 7 / 232، وجوامع الجامع ص 289.
(4)
انظر التبيان 8 / 243، وجوامع الجامع ص 389.
(5)
انظر مجمع البيان 9 / 427، والطوسى لم يشر لهذا – انظر التبيان 10 / 249.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، يرويان عن أصحابهما أن السلم الدخول في الولاية (1) .
وفى الآية السابعة من سورة المائدة: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} . يرويان دخول الولاية في المراد بالميثاق (2) .
وفى سورة طه " الآية 82 ": {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} ، يرويان أن الاهتداء إلى الولاية (3) .
وسورة محمد " الآية 26 ": {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} ، روى الطبرسي أن ما نزل الله في الولاية (4) .
وإمامهم الثاني عشر - الإمام المهدى - نجد له ذكراً خاصاً.
فعند قوله تعالى في سورة البقرة " الآية الثالثة ": {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ، نراهما يدخلان في الإيمان بالغيب ما رواه أصحابهما من زمان غيبة المهدى ووقت خروجه (5) .
(1) راجع التبيان 2 / 185، ومجمع البيان 2 / 302.
(2)
راجع التبيان 3 / 459 – 460، وجوامع الجامع ص 106.
(3)
انظر التبيان 7 / 196، وجوامع الجامع ص 284.
(4)
انظر مجمع البيان 1 / 105، والطوسى لم يشر للولاية " انظر التبيان 9 / 304 – 305 ".
(5)
انظر التبيان 9 / 255، ومجمع البيان 1 / 38.
وفى سورة الأنبياء " الآية: 105 ": {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ، يروى الطبرسي عن الإمام الباقر، أن هؤلاء الوارثين هم أصحاب المهدى في آخر الزمان (1) .
وفى سورة النور " الآية 55 ": {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} ، يرويان عن أئمتهم " هم والله شيعتنا أهل البيت، يفعل ذلك بهم على يد رجل منا، وهو مهدى هذه الأمة "(2) . وفى سورة الفتح " الآية 28 ": {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ، يذكر " أنه إذا خرج المهدى صارالإسلام في جميع البشر، وتبطل الأديان كلها "(3) .
وبعد: فهذه أهم آثار الإمامة في تفسير هذين الشيخين: الطوسى والطبرسى، وإن كان الثاني (- كما يظهر (- أكثر تأثراً من شيخ الطائفة، وهما وإن لم يجنبا كتاب الله تعالى هذه الناحية الطائفية -التي ليس لها مستند من كتاب ولا سنة كما أثبتنا - إلَاّ أنهما مع هذا من أكثر الشيعة اعتدالاً، أو أقلهم غلواً.
(1) جوامع الجامع ص 296، وروى الطوسى عن الإمام نفسه قال:" إن ذلك وعد للمؤمنين بأنهم يرثون جميع الأرض "" التبيان 7 / 284 ".
(2)
جوامع الجامع ص 318، وانظر التبيان 7 / 457.
(3)
التبيان 9 / 336، وانظر مجمع البيان 9 / 127.
ويبدو البون شاسعاً عند المقارنة بينهما وبين من سبقهما من الغلاة. ولذلك جاء القول بالاعتدال النسبى أو إلى حد ما نتيجة المقارنة بغلاتهم الضالين، وإلا فجانب الغلو والتطرف فيهم، وفى أمثالهم، واضح بين!