الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: تفسير التابعين
حاجة التابعين إلى التفسير:
التابعون رضي الله عنهم جاءوا بعد عصر التنزيل فكانوا أكثر حاجة إلى التفسير ممن شهدوا نزول القرآن الكريم، وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لهم ما نزل إليهم.
فكان على التابعين أن يتعلموا من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ما أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شاهدوه من أسباب النزول، وما فهموه وعملوا به من أي الذكر الحكيم.
والصحابة الكرام بدورهم ما كانوا ليكتموا علماً تعلموه، أو فهماً فهموه، سواء منهم من استقر في مواطن التنزيل، ومن رحل إلى الأمصار الإسلامية التي فتحت.
جلس التابعون يستفسرون من الصحابة رضوان الله عليهم، حتى أن بعضهم كان يجلس إلى الصحابى ومعه الألواح يستفسر عن كل ما هو في حاجة إليه من فاتحة الكتاب الكريم إلى نهاية آياته البينات (1) . قال مجاهد بن جبر: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية منه، وأسأله عنها فيما نزلت وكيف كانت (2) .
(1) عن ابن أبى مليكة قال: رأيت مجاهداً سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس:" اكتب "، حتى سأله عن التفسير كله. انظر دقائق التفسير 1 / 81.
(2)
انظر الإتقان 2 / 189.
مدارس التفسير:
واشتهر في ذلك العصر ثلاث مدارس للتفسير، إحداها بمكة المكرمة، والثانية بالمدينة المنورة، والثالثة بالكوفة.
قال ابن تيمية: " أما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد، وعطاء بن أبى رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس كطاووس، وأبى الشعثاء، وسعيد بن جبير وأمثالهم. وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم. وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير، وأخذه عنه أيضاً ابنه عبد الرحمن "(1) .
وشهرة هذه المدارس لا يعنى أن باقى الصحابة الكرام لم يجلسوا إلى تابعيهم يعلمونهم، أو أن التابعين لم يلجئوا لباقى الصحابة.
نواة التدوين:
مع أن التفسير ظل يحمل طابع التلقى والرواية، إلا أن نواة التدوين ظهرت في بعض الجهود الفردية، حيث كان بعض التابعين يكتب ما يسمع، وما يفهم نتيجة تمكنه من اللغة، ومعرفته بأساليب القول.
وتفسير التابعين نراه مبثوثاً في كتب التفسير التي جاءت بعد ذلك كتفسير الطبري، وفى بعض كتب السنة. والمشهور أن لكل من سعيد بن جبير، ومجاهد
(1) دقائق التفسير 1 / 57. ورجح المرحوم الشيخ الذهبى قيام مدرسة المدينة على أبى بن كعب ـ راجع ما كتبه بإسهاب عن المدارس الثلاث، وعن أشهر المفسرين من التابعين الذين أخذوا التفسير عن أساتذة هذه المدارس من الصحابة، في كتابة " التفسير والمفسرون "
…
1 / 100 ـ 127.
ابن جبر، تفسيراً مدوناً (1) .
غير أن الأول لم يصلنا تفسيره هذا حتى الآن، أما مجاهد فعثر على مخطوطة لتفسيره، ونسخت في القرن السادس الهجرى، وهيأ الله تعالى لها من يحققها، ويخرجها كتاباً للناس (2) .
ولعلنا بدراسة هذا التفسير نأخذ صورة عامة لما كان عليه التفسير في عهد التابعين.
تفسير مجاهد:
من دراسة التفسير نلاحظ ما يأتى:
أولا: التفسير، وإن تناول السور الكريمة كلها تقريبا (3) غير أنه لم يفسر إلا بعض الآيات فقط وهى ليست كثيرة وإن كانت أكثر مما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، وهذه نتيجة متوقعة، فكلما بعد الناس عن عصر التنزيل كلما احتاجوا إلى المزيد من التفسير والبيان.
(1) ويذكر أن لغيرهما كذلك تفاسير، منهم: رفيع بن مهران أبو العالية الرياحى، والضحاك ابن مزاحم، والحسن البصرى، وعطاء بن أبى رباح، وأبو جعفر الباقر، وغيرهم من التابعين كما نرى في تراجمهم.
" راجع ترجمة من سبق وغيرهم في طبقات المفسرين للداودى ".
(2)
حقق هذه المخطوطة الأستاذ عبد الرحمن الطاهر بن محمد السورتى " مجمع البحوث الإسلامية بباكستان ".
وحققها كذلك الأخ الصديق الأستاذ الدكتور محمد عبد السلام.
واعتمد كل من المحققين على نسخة واحدة لم يعثرا على غيرها، وذكرت لزميلى الدكتور محمد بأن دار الكتب المصرية فيها نسختان ولعل كلا من الأخوين يرجع إلى النسخة الثانية ليستفاد منها في طبعات تالية إن شاء الله تعالى.
(3)
قال الدكتور محمد عبد السلام في وصف المخطوطة:
ليست كلها عن مجاهد وإنما بها قدر غير يسير عن غيره، بل هناك سور بتمامها لم يذكر شئ عن مجاهد في تفسيرها، وهى: المعارج، نوح، المدثر، القيامة، الدهر، التكاثر، القارعة. ولم يأت بالمخطوطة تفسير للفاتحة، ولا لسورة " الكافرون ".
ثانيا: معظم ما في التفسير بيان لمعانى كلمات، وهذا يعنى أن التابعين كما كانوا لا يفسرون الآيات التي يظنونها واضحة المعنى، كانوا كذلك يتناولون الآيات التي يرون الحاجة إلى تفسيرها، ويكتفون ببيان معاني الكلمات التي يتوقف عليها فهم المعنى.
على أنا نجد أن بعض الكلمات القرآنية المفسرة أوضح معنى بالنسبة لنا من كلمات التفسير. مثال هذا ما جاء في تفسيره لسورة الذاريات:
عن مجاهد قال: " المحروم ": المحارف.
وعنه: " فجاء بعجل " يقول: حسيل.
ولعل هذا يرجع إلى أن بعض الكلمات تشيع في عصر دون عصر،
…
ككلمتى: المحارف وحسيل، شاعتا في عصره وكادتا لا تظهران في عصرنا.
ثالثا: في تفسير بعض الآيات الكريمة وتوضيح معناها نرى الحديث عن أسباب النزول، مثال هذا ما جاء في تفسير سورة الرعد:
عن مجاهد: قال كفار قريش، يا محمد، سير لنا جبالنا فتتسع لنا أرضنا فإنها ضيقة، أو قرب لنا الشام فإنا نتجر إليها، أو أخرج لنا آباءنا من القبور نكلمهم، فأنزل الله عزوجل {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ} إلى آخر الآية.
وعن مجاهد في قوله تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ
…
} قال: قالت قريش حين أنزل {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللهِ
…
} ما نراك يا محمد تملك من شئ، ولقد فرغ من الأمر، فنزلت: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ
…
} تخويفاً ووعيداً لهم، أي إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا، ويحدث في كل شهر
رمضان فيمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء: أرزاق الناس، ومصائبهم، وما يقسم لهم.
رابعا: وفى التفسير نرى أحياناً الإشارة الى النسخ: ففي سورة النساء مثلاً:
عن مجاهد في قوله: " فئاذوهما " يعنى سبَّاً، ثم نسختها {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ
…
} " 2: النور ".
خامسا: في بعض الحالات نرى خلافاً بين مجاهد وأستاذه ابن عباس، أو بين مجاهد وغيره من التابعين.
سادسا: يتعرض التفسير أحيانا لبعض الأحكام الفقهية، مثال هذا ما جاء في سورة النساء من الحديث عن صلاة الخوف وهو ما يلى: عن مجاهد في قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ
…
} وذلك يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان، والعدو بضحنان، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الظهر أربع ركعات، ركوعهم وسجودهم وقيامهم وقعودهم جميعاً، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم إذا قاموا للعصر، فأنزل الله عزوجل: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ
…
} إلى آخر الآية. فصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه خلفه صفين، ثم كبر بهم وكبروا جميعاً، ثم سجد الأولون بسجود النبي صلى الله عليه وسلم، والآخرون قيام، ثم سجد الآخرون، ثم كبر بهم وكبروا جميعاً، فتقدم الصف الآخر واستأخر الصف الأول، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أول مرة، وقصرت صلاة العصر ركعتين.
سابعا: بدت الإسرائيليات واضحة في هذا التفسير! وأكثرها يتصل بنبيين هما: موسى وسليمان عليهما السلام.
هذا ما بدا لي عندما قرأت تفسير مجاهد، ثم أتحفنى زميلى المفضال الدكتور محمد عبد السلام برسالته للدكتوراه " تفسير مجاهد بن جبر " وفى هذه الرسالة جعل الباب الثاني لبيان منهج مجاهد في التفسير.
أشار في بداية الباب أن المفسرين من الصحابة رضي الله عنهم لم يفسروا القرآن الكريم كله، وإنما تناولوا قدراً يسيراً من آياته، وأنهم كانوا يقتصرون على توضيح المعنى اللغوى بأوجز لفظ، مع ندرة ما يستنبط من الأحكام الفقهية، وذكر لسبب النزول، وأخذ عن أهل الكتاب في حدود ما سمح به.
ثم قال:
وهذا كان منهج ابن عباس كبير مفسرى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا نحن تتبعنا تفسير تلميذه مجاهد، وجدناه ينهج هذا النهج، ويزيد عليه بما يلى:
1 ـ زيادة القدر المفسر من الأحكام.
2 ـ كثرة ما استنبط من الأحكام.
3 ـ بذر نواة المذاهب الفقهية والكلامية، ولذا وجدنا الشافعى يعتمد على مجاهد في فقهه، والمعتزلة أيضاً يعتمدون عليه فيما ذهبوا إليه من القول بعدم رؤية الله عز وجل.
4 ـ التوسع في الاتصال بأهل الكتاب وسؤالهم.
قال: والمدقق في تفسير مجاهد يجده قد أفاد كثيراً من أستاذه ابن عباس، واقتفى أثره ووافقه في تفسير العديد من الآيات، كما أنه كان يخالفه أحياناً، وأبرز تلك المخالفة قول مجاهد بالرأى في بعض الآيات فمنهج مجاهد هو:
توضيح المعنى اللغوى بأوجز عبارة، مع ذكر سبب النزول، واستنباط الأحكام، والأخذ عن أهل الكتاب، والقول بالرأى في حدود ما سمح به. ا. هـ.
وإن كان لتفسير التابعين منزلته غير أنه ليس بحجة إلا عند إجماعهم، فإذا اختلفوا فليس قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من جاء بعدهم.
والشيعة الاثنا عشرية يجعلون العصمة لاثنين من التابعين، هما: على بن الحسين زين العابدين، المتوفى سنة 95، وابنه محمد: أبو جعفر الباقر، المتوفى سنة 114، أما غير أئمتهم فلا وزن لتفسيرهم عند الشيعة.