الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: اعتصام السلف بالسنة
كان السلف الصالح متمسكاً بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تمسكهم بالقرآن الكريم، فالكل وحى واجب الاتباع.
ففى صحيح البخارى نجد كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ومما جاء في هذا الكتاب:" وكانت الأئمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم ".
ويوضح ما سبق ما رواه الإمام الدارمى في باب التورع عن الجواب فيما ليس في كتاب ولا سنة:
من هذه الروايات أن أبا بكر الصديق - رضى الله تعالى عنه - كان إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضى بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى به، فأن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتانى كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد لله الذى جعل فينا من يحفظ عن نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به.
وموقف الصديق من ميراث الجدة معلوم مشهور حيث توقف " لا أجد لك في كتاب الله شيئاً " إلى أن بلغه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاها السدس.
من روايات سنن الدارمى أيضاً أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كتب إلى شريح: إذا جاءك شئ في كتاب الله فاقض به ولا يلتفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به.
ومنها أن ابن عمر لقى جابر بن زيد فقال له: يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت.
ومنها أن عبد الله بن مسعود قال: أتى علينا زمان لسنا نقضى ولسنا هناك، وأن الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله، فإن جاءه ما ليس فى كتاب الله ولم يقض به رسول الله فليقض بما قضى به الصالحون.
ومما يبين ما جاء في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح البخارى ما رواه هو ومسلم وأحمد وغيرهم أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: أذكر الله امرأ سمع من النبى صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جارتين لى –ـ يعنى ضرتين ـ فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنينا ميتا، فقضى فيه رسول صلى الله عليه وسلم بغرة، فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره. وقال غيره: إن كدنا أن نقضى في مثل هذا برأينا.
وروى الإمام الشافعى بسنده عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمس عشرة وإلى التي تليها بعشر، وفى الوسطى بعشر، وفى التي تلى الخنصر بتسع، وفى الخنصر بست.
ثم قال الشافعى: لما كان معروفاً - والله أعلم - عند عمر أن النبى قضى في اليد بخمسين، وكانت اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع، نزلها منازلها، فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف، فهذا قياس على الخبر.
فلما وجدنا كتاب آل عمرو بن حزم، فيه: أن رسول الله قال: " وفى كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل " صاروا إليه.
ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم - حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله.
وفى الحديث دلالتان:
أحدهما: قبول الخبر، والآخر: أن يقبل الخبر في الوقت الذى يثبت فيه، وإن لم يمض عمل من الأئمة بمثل الخبرالذى قبلوا.
ودلالة على أنه لو مضى أيضاً عمل من أحد من الأئمة ثم وجد خبر عن النبى صلى الله عليه وسلم يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله.
ودلالة على أن حديث رسول الله يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده.
ولم يقل المسلمون قد عمل فينا عمر بخلاف هذا بين المهاجرين والأنصار، ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافه ولا غيركم، بل صاروا إلى ما وجب عليهم من قبول الخبر عن رسول الله وترك كل عمل خالفه.
ولو بلغ عمر هذا صار إليه، إن شاء الله كما صار إلى غيره فيما بلغه عن رسول الله، بتقواه لله، وتأديتة الواجب عليه، في اتباع أمر رسول الله وعلمه، وبأن ليس لأحد مع رسول الله أمر، وأن طاعة الله فى اتباع رسول الله.
ثم أيد الإمام الشافعى قوله السابق فروى بسنده أن عمر بن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا، حتى أخبره الضحاك ابن سفيان أن رسول الله كتب إليه: أن يورث امرأة أشيم الضبابى من ديته، فرجع إليه عمر (1) .
ولمكانة السنة عند الصحابة الكرام وجدنا منهم من يرحل لطلب حديث واحد:
(1) انظر الرسالة ص 422: 426، واقرأ في الحاشية تعليق الشيخ أحمد شاكر وتخريجه للروايات.
روى البخارى في الأدب المفرد بسنده عن ابن عقيل، أن جابر بن عبد الله حدثه أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فابتعت بعيرا، فشددت إليه رحلى شهرا حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعث إليه أن جابرا بالباب. فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم. فخرج فاعتنقنى. قلت: حديث بلغنى لم أسمعه، خشيت أن أموت أو تموت.. إلخ (1) .
وروى الحميدى في مسنده (1 / 189) وبسنده عن عطاء بن أبى رباح: خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر وهو بمصر يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يبق أحد سمعه من رسول صلى الله عليه وسلم غيره وغير عقبة. فلما قدم أتى منزل مسلمة بن مخلد الأنصارى وهو أمير مصر، فأخبر به، فعجل وخرج إليه فعانقه، ثم قال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرى وغير عقبة، فابعث من يدلنى على منزله. فقال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فأخبر عقبة به، فعجل فخرج إليه فعانقه وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق أحد سمعه غيرى وغيرك في ستر المؤمن.
فقال عقبة: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من ستر مؤمنا في الدنيا على خزيه ستره الله يوم القيامة ".
فقال له أبو أيوب: صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعاً إلى المدينة فما أدركته جايزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر.
هذان مثلان فيهما من الدلالة ما يكفى ويغنى، والرحلة في طلب الحديث معلومة مشهورة.
(1) انظر الأدب المفرد 2 / 433، باب المعانقة. ورواه الحاكم في المستدرك
…
(4 / 574 – 575)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى على التصحيح.