الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع: الطاعنون في العصر الحديث
وننتقل بعد هذا إلى عصرنا الحديث، حيث زات الطامة، وكثر الطاعنون، وهم أصناف:
فمنهم بقايا الفرق، وأشرت إلى بعض آنفًا، وهم لا يكتفون بما فى كتب من ضلال، ولكنهم من وقت لآخر يثيرون ما يريدون به هدم السنة: كالطعن في صحابى جليل راوية، أو راو أجمعت الأمة على توثيقه، أو كتاب صحيح تلقته الأمة بالقبول
…
إلخ.
والرافضة أكثرها طعنًا، وجرأة على الله تعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمنهم من يطعن لجهله ما يتصل بالسنة، فيتشكك ويشكك فى ثبوتها، وهو لا يدرى أن البشرية كلها فى تاريخها الطويل لم تعرف علما نقل من جيل إلى جيل بالدقة التي نقل بها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو رجع إلى كتب مصطلح الحديث، وعلم الرجال، وشروح السنة، لاستراح وأراح.
ومنهم من دفعه هذا الجهل إلى القول بأن القرآن الكريم وحده يكفى، مستدلاًّ بقوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} .
وهذا جهل بالكتاب والسنة معًا، ووقوع فيما حذر منه الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وردة إلى قول الطائفة التي ذكرها الإمام الشافعى. ولو أن هؤلاء قرءوا حوار الشافعى، وتدبروا ما ذكرنا من آيات كريمة، وأحاديث شريفة، لأدركوا مدى ضلالهم وبعدهم عن سواء السبيل، والعجيب أن هؤلاء أسموا أنفسهم بالقرآنيين، والقرآن نفسه يشهد على بطلان دعواهم.
ومنهم من جعل عقله حكما لرفض أحاديث صحت سندا ومتنا، بل في أرقى مراتب الصحاح، كالأحاديث الثابتة المتعلقة بالغيبيات مثل الجنة والنار، وعلامات الساعة، والملائكة والجن. ومن المعلوم أن النقل الصحيح لا يتعارض مع العقل السليم، ولكن كيف نقيس الغائب على الشاهد، وكيف نحكم العقل في أمور لا نعرف شيئا عنها إلا بالنقل الصحيح؟ فمتى ثبت النقل لزم التسليم. أحيانا ترى جاهلا مغروراً يقف أمام حديث متفق عليه ويقول: هذا مرفوض عقلا! وكان عليه أن يسأل نفسه: أكان البخارى ومسلم وأحمد وغيرهم بلا عقول؟ بل أعاشت الأمة أربعة عشر قرناً بغير عقل حتى جاء بعقله ليستدرك عليها؟
ومن أسوأ الطاعنين في عصرنا المستشرقون، وأشد منهم خطراً تلامذتهم المقلدون التابعون لهم: والمستشرقون طعنوا في القرآن الكريم نفسه كما أشرت من قبل، أما السنة فقد أنكروا وجود سنة يتصل سندها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا بأن أقصى اتصال الأسانيد ينقطع ويتوقف عند نهاية القرن الأول.
ومعنى ذلك أن السنة بحسب زعمهم تعتبر اختراعاً من اختراعات المسلمين المتأخرين، أرادوا أن يثبتوا أحكاما فنسبوها للرسول صلى الله عليه وسلم. ثم لم ينسوا أن يطعنوا فيمن كان لهم دور كبير في السنة، فمثلا طعنوا في أبى هريرة الصحابى الجليل رضى الله عنه، الذى روى عنه أكثر من ثمانمائة من الصحابة والتابعين، وهو كما قال الشافعى " أثبت من روى الحديث فى دهره ". وطعنوا في ابن شهاب الزهرى، الإمام الحجة الثبت، أول من استجاب لعمر بن عبد العزيز في جمع السنة
…
وهكذا.
ثم ظهر اتجاه آخر عندهم، اعتبره بعضهم هدما للفكر الاستشراقى، ولذلك ثاروا على القائلين به، مع أنه في النهاية يصل إلى البهتان نفسه.
ويقوم هذا الاتجاه الخبيث على الاعتراف أولا بأن السنة لها أصل، وذلك حتى يضلل جهلة المسلمين بالتظاهر بأنه لا ينكر وجود أصل للسنة، ولكن بعد هذا الاعتراف تأتى محاولة الهدم، فيقولون: إن المدارس الإسلامية الأولى لم تستطع
أن تحدد ما يعتبر من أقوال محمد وما لا يعتبر من أقواله، لأن السند لم يكن معروفا عندهم، فكانت كلمة سنة تعنى الرأى المقبول لدى جمهور علماء المدرسة، ثم نسبوا هذه الأقوال المقبولة لدى المدرسة إلى الصحابة حتى تكون أكثر قبولا، ثم نسبوها بعد ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (1) .
ومعنى هذا أنهم يريدون أن يصلوا في النهاية إلى التشكيك في السنة كلها.
هؤلاء القوم لا يعرفون الإسناد، فكتبهم المقدسة ذاتها بغير إسناد، ولذلك فهى محرفة مزورة، ولكن لا شك أنهم قرءوا عن جمع السنة وتنقيتها، وشروط رجال الحديث، وعرفوا أن الأمة الإسلامية فاقت الخلق جميعا بهذا الإسناد، ولكن ماذا تنتظر من مستشرق يهودى أو صليبى حاقد على الإسلام وأهله، مريد هدمه ما استطاع إلى ذلك سبيلاّ؟
فلا تنتظر من أعداء الإسلام إلا مثل هذه المحاولات. وإن كنا مطمئنين تماما إلى أنهم لن يصلوا إلى ما يريدون، فالله عز وجل لم يترك حفظ القرآن الكريم كما ترك غيره للأحبار والرهبان فضيعوه، وإنما تعهد بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، كما تعهد ببيانه {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، ومن تمام حفظ القرآن الكريم حفظ السنة المطهرة، وهى المبينة له.
(1) بين هذا الاتجاه مفصلا الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا في إحدى محاضرات رئاسة المحاكم الشرعية بدولة قطر لعام 1405 هـ.