الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامساً: مسح الرأس
انفرد الإمامية بالقول بوجوب مسح مقدم الرأس ببقية البلل. وبعدم إجزاء الغسل على أي حال.
فهم متفقون مع الحنفية والشافعية وبعض الحنابلة في جواز مسح بعض الرأس (1) ، ولكنهم يوجبون المقدم، ويختلفون مع الجميع في إيجاب المسح ببقية البلل.
رووا عن الإمام أبى جعفر - وهو يحكى وضوء الرسول صلى الله عليه وسلم أنه " مسح مقدم رأسه، وظهر قدميه ببلة يساره، وبقية بلة يمناه ". وفي رواية أخرى " مسح بفضل يديه رأسه ورجليه ". وفي إحدى الروايات " مسح ببقية ما بقى فى يديه رأسه ورجليه، ولم يعدهما فى الإناء "، إلى غير ذلك من الروايات (2) .
والرواية الأولى قد تكون بياناً للمجمل في الروايتين الأخيرتين، وقد تدل على جواز مسح المقدم، ولكنهم رووا عن الإمام أبى جعفر أيضاً بأن المتوضئ إذا مسح بشئ من رأسه فقد أجزأه (3) . مما يؤيد الاحتمال الثانى ـ وهو الجواز ـ ويرفض الاحتمال الأول.
وقد استدل الإمام الشافعي بروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم مسح بمقدم رأسه، ومع هذا لم يوجب المقدم، وإنما رأي أن من مسح من رأسه شيئاً فقد مسح برأسه (4) .
(1) وذهب بعض الإمامية إلى حرمة مسح كل الرأس، وبعضهم إلى الكراهية، وآخرون إلى عدم الاستحباب، وفريق إلى الإجزاء (انظر: مفتاح الكرامة - كتاب الطهارة ص 248) .
وقد روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قد مسح الرأس كله، وهو مستحب باتفاق العلماء، وأوجبه مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه (انظر: نيل الأوطار جـ 1: باب مسح الرأس كله،
…
وصفته، وما جاء في مسح بعضه ص 191) .
(2)
انظر: الوسائل جـ 1 باب كيفية الوضوء ص 369.
(3)
انظر المستدرك من الوسائل 1/381.
(4)
انظر الأم 1/22.
وقد ورد عن طريق الشيعة روايات تفيد عدم إيجاب المقدم، فحاولوا تخريجها:(1) مثال ذلك ما روى عن الإمام الصادق أنه سئل عن الرجل يمسح رأسه من خلفه وعليه عمامة بأصبعه أيجزيه ذلك؟ فقال: نعم. فحمله الطوسى على أنه أدخل الأصبع من الخلف، فمسح بها مقدم الرأس، واحتمل أن يكون الخبر خرج مخرج التقية، لأن ذلك مذهب بعض العامة.
ولا أدرى لم ترفع العمامة ويضع الإنسان يده من الخلف ليمسح المقدم؟ أهذا هو الذي فهمه الإمام الصادق من السائل فقال: نعم؟ أم أنه جبن فقال ذلك تقية لأنه مذهب بعض العامة؟ إنى أربأ بالصادق أن يكون بهذا الخلل من الفهم، أو بهذه المنزلة من الجبن.
ورواية أخرى عن الإمام الصادق أيضاً أنه سئل عن المسح على الرأس فقال: كأنى أنظر إلى عكنة في قفاء أبى يمر عليها يده. وغير ذلك مما لم يستطع الطوسى تخريجه إلا على التقية، وهو تخريج لا يمكن أن يقبل بحال، فإذا كان السائل يسأل عن المسح فلو أجيب بمسح مقدم الرأس لوافقت الرواية روايات ثبتت عند كثير من أهل السنة، كتلك التى احتج بها الإمام الشافعي، ثم ما الذي يدعو إلى الكذب في قوله " كأني أنظر إلى عكنة في قفاء أبى "؟ فلم احتاج إلى الاستشهاد بهذا الدليل، ولم يكتف بتحديد موضع المسح ولو تقية؟ أهو الإيغال في الكذب والجبن؟ كان الأجدر بالطوسى أن يحمل هذه الأخبار جميعها على جواز المقدم وغيره، فينتفي التعارض، بدلاً من أن ينزل إلى هذا المستوى في تخريجاته. وروى عن الإمام الصادق " مسح الرأس واحدة من مقدم الرأس ومؤخره، ومسح القدمين ظاهرهما وباطنهما ". ومعلوم أن جمهور المسلمين يقول بغسل الرجلين لا مسحهما، ومع هذا حمل الخبر على التقية (2) ! .
(1) انظر الروايات، وتخريجها في: الاستبصار جـ 1 ص 60-61، والوسائل جـ 2 ص 14-15.
(2)
انظر الوسائل جـ 2 ص 17-18.
وأما إيجاب المسح ببقية البلل، فالخلاف بين أهل السنة على العكس من ذلك، فبعضهم أوجب ماء جديداً والآخرون أجازوا المسح ببقية البلل، وخلافهم مبنى على أساس الماء المستعمل: أهو مطهر أم غير مطهر؟
فظاهر مذهب الحنابلة أنه طاهر غير مطهر، وهو المشهور عن أبى حنيفة، وإحدى الروايتين عن مالك، وظاهر مذهب الشافعى، وعن أحمد رواية أخرى أنه طاهر مطهر، وهو الرواية الثانية لمالك، والقول الثانى للشافعى، وروى عن على وابن عمر وأبى أمامة فيمن نسى مسح رأسه إذا وجد بللاً في لحيته أجزأه أن يمسح رأسه بذلك البلل، وذهب أبو يوسف إلى نجاسته، وهو رواية عن أبى حنيفة. (1)
ولكل من هؤلاء أدلته التي استند إليها (2) ، ولسنا بحاجة إلى مناقشتها ما دام فيهم من يوافق الإمامية على طهورية هذا الماء.
ولكن ما الذي دفع الشيعة إلى القول بإيجاب بقية البلل، وبطلان الماء الجديد؟ فلو جف ماء الوضوء قبله أخذ من لحيته، وحاجبيه وأشفار عينيه مسح به، فإن لم يبق نداوة استأنف الوضوء (3) .
لا خلاف في أن الماء الجديد طاهر مطهر، وأدلة الشيعة التي ذكرناها لو صحت (4) فغاية ما تدل عليه جواز المسح ببقية البلل، ويؤيد ذلك ما روى عن
(1) انظر المغنى جـ 1 ص 18 وما بعدها.
(2)
انظر ما سبق، وانظر كذلك: نيل الأوطار جـ 1 ص 23 باب طهارة الماء المتوضأ به، وص 27 باب بيان زوال تطهيره، والهداية في تخريج أحاديث البداية ـ الماء المستعمل: 1/273، وصحيح البخاري وشرحه فتح الباري ـ كتاب الوضوء: باب استعمال فضل وضوء الناس.
(3)
انظر: مفتاح الكرامة – كتاب الطهارة ص 258-259.
(4)
هذه الروايات توجب مسح الرأس والرجلين، وسنناقش ذلك فيما يأتى من نوع طهارة الرجلين.
طريق أهل السنة من أن الرسول صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بما بقى من وضوئه، أو من فضل ماء كان بيديه، وروايات أخرى أنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بماء غير فضل يديه، أو أنه أخذ لرأسه ماء جديدا (1) . ولا تعارض بين هذه الأخبار، فكل جائز، بل إننا نجد فيما روى عن طريق الشيعة ما يؤيد القائلين بإيجاب ماء جديد، جاء في الاستبصار:" سألت أبا الحسن عليه السلام: أيجوز للرجل أن يمسح قدميه بفضل رأسه؟ فقال: برأسه لا، فقلت: أبماء جديد؟ فقال: برأسه نعم. " ورواية أخرى: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن مسح الرأس قلت: أمسح بما في يدي من الندى رأسى فقال: لا بل تضع يدك في الماء ثم تمسح "(2) .
وحاول شيخ الطائفة الطوسى أن يوفق بين هذين الخبرين والأخبار السابقة، فقال: " فالوجه في هذين الخبرين أن نحملهما على ضرب من التقية؛ لأنهما موافقان لمذاهب كثير من العامة، ويحتمل أن يكون المراد بهما إذا جفت أعضاء الطهارة بتفريط من جهته، فيحتاج أن يجدد غسلها، فيأخذ ماء جديداً، ويكون الأخذ بها أخذاً للمسح حسب ما تضمنه الخبر الأول.
وأما الخبر الثانى فيحتمل أن يكون المراد بقوله: " بل تضع يدك في الماء " إنما أراد الماء الذي بقى في لحيته أو حاجبيه، وليس فيه أن يضع يده في الماء الذي في الإناء أو غيره. فإذا احتمل لذلك لم يعارض ما قدمناه من الأخبار" (3) .
ولا شك أن هذا التخريج فيه من البطل ما فيه: فالخبر الأول يفيد ـ خلاف الماء الجديد ـ مسح الرجلين في الوضوء، وقد أجمعت المذاهب الأربعة على وجوب غسلهما. ولهذا أجاز الشيعة غسلهما للتقية مع إيجابهم المسح. فكيف إذن يحمل هذا الخبر على التقية لمجرد ذكر الماء الجديد مع إفادته مسح الرجلين؟
(1) انظر نيل الأوطار جـ 1 ص 29.
(2)
انظر ص 58-59 من الكتاب المذكور جـ 1.
(3)
الاستبصار جـ 1 ص 59.
والتخريجات الأخرى غير مقبولة، فالخبران يفيدان عدم جفاف الأعضاء، فالأول فيه فضل الرأس، والثاني فيه ما في اليدين من الندى، ولو أراد بالثاني أخذ الماء من اللحية والحاجبين لقال: ضع يدك على اللحية والحاجبين، لا ضع يدك في الماء. وما الحاجة إلى ذلك مع وجود الندى ما لم يكن في حاجة إلى ماء جديد؟
وأخبار الشيعة لو صحت لأمكن الجمع بينها بالقول بجواز المسح ببقية الماء واستحباب الماء الجديد. وذلك أولى من القول بإيجاب المسح ببقية البلل، فذلك لا يستند إلى أي دليل (1) .
ويرى الشيعة أن غسل الرأس لا يجزى عن مسحه، وهم إذا كانوا يشترطون في المسح أن يكون ببقية البلل، فمن باب أولى أن يرفضوا إجزاء الغسل.
وأما المذاهب الأربعة فيرون أجزاءه، لأن فيه مسحاً وزيادة.
اشترط بعض الحنابلة إمرار اليد على الرأس مع الغسل أو بعده للإتيان بالمسح (2) .
ولا شك أن المسح أولى من الغسل، فهو الفرض بالنص، ولكن ليس معنى هذا أن الغسل يبطل الوضوء، لأن في الغسل إتياناً بالفرض وزيادة. وهذه الزيادة وإن لم تكن مستحبة إلا أنها ليست مبطلة، كمن غسل أعضاء الوضوء أربعاً، فإن
(1) بعضهم يذكر أدلة نتركها لتفاهتها، وعدم جدواها ووضوح ما بها من سفسطة: مثال ذلك هنا ما ذكره بعضهم من أن آية الوضوء فيها أمر بمسح الرأس والواجب الفور في امتثال أوامر الله، والإتيان بماء جديد للمسح ينافي الفور. انظر: الحقائق جـ ص 175.
ولا شك أن الاشتغال بأخذ الماء لمسح العضو متعلق بمسح العضو نفسه، فالفورية في هذا الاشتغال فورية في المسح، ثم إن أخذ الماء مباشرة والمسح به أسرع من نشدانه بين اللحىوالحواجب وأشفار العيون، وسواء هذا أو ذاك فهو لا يستغرق وقتا يذكر حتى يقال إنه ينافى الفور.
(2)
انظر المبسوط جـ1 ص 64 وص 72، وحاشية الدسوقى ص 89 جـ1، وحاشية البجيرمى جـ 1 ص 78 والمغنى جـ 1 ص118-119، وأحكام القرآن لابن العربي
…
جـ 2 ص 570-571.