الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يمكن أن يكون الاثنان مصيبين. فلعل في هذا كله ما يكفى لدحض دعوى العصمة، والله سبحانه يهدينا سواء السبيل.
ثانياً: البداء
البداء: الظهور والانكشاف، تقول: بدا َبدْوا وُبدُوّا وبَداء وَبدَّا وبداءة، ويستخدم كذلك بمعنى نشأة الرأي الجديد، تقول: بدا له في الأمر بدوا وبداء وبداة: نشأ له فيه رأي. (1)
وقد ورد المعنيان في القرآن الكريم، الأول في مثل قوله تعالى:" وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ "(2) .
وقوله سبحانه وتعالى: (3)
…
" وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ".
والثانى في قوله تعالى: (4)" ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين ".
والبداء بمعنييه يستوجب جهل من يبدو له بالأمر قبل بدائه، ولكن الشيعة ينسبون البداء لله تعالى، فهل معنى ذلك أنهم ينسبون عدم العلم لله؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
(1) انظر مادة (بدو) في القاموس المحيط ولسان العرب.
(2)
سورة الزمر: الآية 47.
(3)
سورة البقرة: الآية 284.
(4)
سورة يوسف: الآية 35.
رأي الكثير من المسلمين هذا الرأي، فرفضوا القول بالبداء، وسلطوا أقلامهم تعصف بالشيعة عصفها بالكفرة الملحدين، وأقاموا من البراهين القاطعة ما يثبت العلم الكامل لله عز وجل. (1)
ومما لا جدال فيه أن القول بالبداء بهذا المعنى المرفوض، يُخرج الشيعة قطعاً من ملة الإسلام، ولكنني أرى أنهم لا يقصدون على الإطلاق نسبة الجهل إلى الله سبحانه، فهم يرون أن الله عز وجل يحيط علمه بكل شئ، وأن اللوح المحفوظ المشار إليه بأم الكتاب فيه كل ما كان وما يكون، وذكر لما يثبت وما يمحى
…
" يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ"فالمحو والإثبات ليس في أم الكتاب، فنقوشه محفوظة مستمرة. (2)
وقد جاء في باب البداء من كتاب الكافي (3) عن أبى عبد الله جعفر الصادق قال: " ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو شيء له ".
(1) انظر: الوشيعة ص 110 – 120، والتحفة الاثنا عشريه ص 315 وما بعدها، والنسخ في القرآن الكريم لأستاذنا الدكتور مصطفى زيد رحمه الله ص19-26 جـ 1: وشيخنا لم يذكر الإمامية بالذات، والبداء الذي أنكره لم تقل به الإمامية وإنما ذهبت إليه فرق أخرى من الشيعة كالبدائية، فقد زعمت أن الله سبحانه قد يريد بعض الأشياء ثم يبدو له، ويندم لكونه خلاف المصلحة! وحملت خلافة الثلاثة ومدحهم في الآيات الكريمة على ذلك! انظر مختصر التحفة ص 16.
(2)
انظر: الدين والإسلام ص 171.
(3)
ص 148.
وقال: " إن الله لم يبد له من جهل "وسئل: هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال: لا، من قال هذا فأخزاه الله. قيل: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال: بلى قبل أن يخلق الخلق (1) .
يقول الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء: " البداء وإن كان جوهر معناه هو ظهور الشىء بعد خفائه، ولكن ليس المراد به هنا ظهور الشىء لله جل شأنه بعد خفائه عنه، معاذ الله، وأي ذى حريجة ومسكة يقول بهذه المضلة؟
بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم، وقولنا (بدا لله) أي بدا حكم لله، أو شأن لله " (2) .
فالبداء بهذا التفسير لا يتعارض وعلم الله التام بكل شيء، وظهور أحكام لله كانت خافية علينا شيء يسلم به كل المسلمين، وقد نسب البداء إلى الله سبحانه وتعالى في حديث شريف ورد في صحيح البخاري: فقد روى عن أبى هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن ثلاثة في بنى إسرائيل، أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص
…
" إلى آخر الحديث الشريف (3) .
(1) عقب أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله على نسبة مثل هذه الأخبار إلى الإمام الصادق بقوله: إن هذه الأخبار في مجموعها تدل على أن البداء في نظر الصادق هو أن يظهر للناس ما أكنه الله تعالى في علمه، وذلك لا ينافى علم الله تعالى ". (الإمام الصادق ص 236) .
(2)
الدين والإسلام ص 173، وانظر كذلك قول الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه " الشيعة والتشيع " ص 53-54 ففيه بيان أن البداء لا يستدعى الجهل وحدوث العلم لذات الله سبحانه.
(3)
انظر صحيح البخاري - الجزء الرابع - كتاب بدء الخلق: باب ما ذكر عن بنى إسرائيل.
فكيف إذن اُعتبر مبدأ خاصا بالشيعة؟ ينافحون عنه، ويبالغون في قيمته حتى أنهم قالوا:" ما عبد الله بشئ مثل البداء "، " ما عظم الله بمثل البداء "(1) .
إن توضيحهم لكيفية البداء تكشف عن هذا، فهم يقولون: إن الله جلت قدرته قد يخبر ملائكته، أو رسله المقربين بحادثة ما، ويخفى عنهم أشياء إذا تحققت تغيرت النتيجة، وقد يكون في علمه سبحانه أنها ستتحقق وسيتبع ذلك تغير الحال: مثال هذا: أن يخبرهم بأن فلانا سيموت في الثلاثين من عمره، ويخفى عنهم أن ذلك مقترن بعدم تصدقه، وأنه سيتصدق وسينسأ له في أجله، فعندما يظهر ذلك الذي أخفى يقال: بدا لله فيه أن يمد في أجله، فيكون البداء في التكوين كالنسخ في التشريع (2) .
وإذا كنا نعلم الحكمة من النسخ في التشريع، فما الحكمة من هذا البداء؟ وكيف يخبر الله سبحانه وأنبياءه وملائكته بمعلومات ناقصة؟ وعندما يخبرون الناس بهذه المعلومات فما الفرق بينهم وبين المنجمين الكاذبين الضالين
…
المضلين؟ (3) .
إن الدافع الحقيقى لهذا المبدأ هو أنهم غالوا في أئمتهم، وأحلوهم منزلة فوق البشر كما رأينا من ذى قبل، ونسبوا لهم العصمة وعلم الغيب، فكان لابد من مخرج إذا حدثوا بمغيب فكذبهم الواقع، وكان هذا المخرج هو القول بالبداء!
(1) راجع باب البداء من كتاب الكافى.
(2)
انظر: الدين والإسلام ص 172 وما بعدها، وانظر كذلك: جوامع الكلم ص 145 من الرسالة القطيفية، والدعوة الإسلامية ص 35 وما بعدها.
(3)
لهذا وقع الخلاف بين الإمامية في الإخبار: أيجوز أم لا؟ (انظر الدعوة الإسلامية
…
ص 37-38) .
وأول من نادى به المختار الثقفى، لأنه كان يدعى علم الغيب، فإذا حدثت حادثة على خلاف ما أخبر قال: قد بدا لربكم! (1) .
وروى أن أبا الخطاب محمد بن أبى زينب الأسدي الأجدع عندما حارب والى الكوفة عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس جعل القصب مكان الرماح، واستخدم الحجارة والسكاكين، وقال لقومه: قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف. ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لا تضركم، ولا تخل فيكم: فقدمهم عشرة عشرة للمحاربة، فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلاً قالوا له: ما ترى ما يحل بنا من القوم، وما نرى قصبنا يعمل فيهم ولا يؤثر، وقد عمل سلاحهم فينا، وقتل من ترى منا، فقال لهم: إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبي؟ (2)
ولهذا جاء في الكافى عن أبى عبد الله: " إن لله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه "(3) .
وفى رواية أخرى في الكافى أيضا (1/369) :
" إذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم به فقالوا: صدق الله، وإذا حدثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا: صدق الله تؤجروا مرتين ".
وعلق صاحب الحاشية بقوله: " مرة للتصديق، وأخرى للقول بالبداء "
(1) انظر: النسخ في القرآن الكريم 1/25 –26، وضحى الإسلام 1/354، والإمام الصادق ص: 234، والملل والنحل للشهرستانى 1/132-133.
(2)
فرق الشيعة ص 70.
(3)
ص 147 من الكتاب المذكور ج 1.
فالقول بالبداء، وإن كان لا يتنافى مع علم الله سبحانه الذي وسع كل شئ، إلا أنه اتخذ ذريعة للتضليل بأن الأئمة يعلمون الغيب، فإذا حدث غير ما أخبروا، فإنما قد بد الله! ومصدق الكذب يؤجر مرتين!
والمسلمون قاطبة - عدا الشيعة - يرفضون هذا القول، ويكفى لبطلانه مثل قوله تعالى:(1)
" وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ "
وأمره سبحانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول: (2)" وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ "
" قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ "(3)
على أن من الشيعة أنفسهم من ينكر علم الأئمة للغيب، بل ينكر نسبة ذلك إلى الشيعة! يقول الشيخ محمد جواد مغنية: وكيف ينسب إلى الشيعة الإمامية القول بأن أئمتهم يعلمون الغيب، وهم يؤمنون بكتاب الله، ويتلون قوله تعالى حكاية عن نبيه:"وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ "، وقوله:" إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ"، وقوله:" قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ".
وذكر قول الشيخ الطبرسي المفسر: لقد ظلم الشيعة الإمامية من نسب إليهم القول بأن الأئمة يعلمون الغيب، ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق.
(1) سورة آل عمران: الآية 179.
(2)
سورة الأعراف: الآية 188.
(3)
الأنعام: الآية 50.