الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
عقائد تابعة
رأينا فيما سبق عقيدتهم في الإمامة، وأثبتنا بطلانها بأدلة صحيحة صريحة، بل قطعية يقينية. وهذه العقيدة الباطلة هي الطامة الكبرى التي دفعتهم إلى كل غلو وضلال، وقد رأيت هذا واضحاً جليا منذ عشرات السنين عندما كنت أدرس للحصول على درجة الماجستير، وكان عنوان الرسالة " فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة
…
" ولذلك جعلت رسالة الدكتوراه تحت عنوان " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله " وإن كنا في غنى عن مناقشة ما تبع عقيدة الإمامة من عقائد أخرى، فما بنى على باطل فهو باطل، غير أننا آثرنا توضيح أهم العقائد التابعة، وستكون المناقشة موجزة كل الإيجاز، وهذه العقائد أهمها: عصمة الأئمة، والبداء، والرجعة، والتقية.
أولا: عصمة الأئمة
يرى الشيعة الاثنى عشرية وجوب عصمة الإمام " بحيث يحصل للمكلفين القطع بأنه حجة الله، وأن قوله قول الله تعالى، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكمه وجوب طاعته والتسليم له، والرد إليه على جهة القطع. (1)
وأهم أدلتهم على وجوب هذه العصمة ما يأتي: -
1.
وجوب وجود الإمام لطف من الله سبحانه، فبه يتم ارتفاع القبيح وفعل الواجب، وفعل القبيح والإخلال بالواجب لا يكونان إلا ممن ليس بمعصوم، فلابد على هذا من أن يكون الإمام معصوماً، فهو مكان النبي، متصف بكل صفاته إلا النبوة.
(1) جوامع الكلم 1 / 8.
2.
الإمام مقتدى به في جميع الشريعة، فلو كان غير معصوم لم نأمن في بعض أفعاله مما يدعونا إليه أن يكون قبيحاً، ويجب علينا موافقته من حيث وجب الاقتداء به، ولا يجوز من الحكيم تعالى أن يوجب علينا الاقتداء بما هو قبيح، فإذا لم يجز ذلك عليه تعالى دل على أن من أوجب علينا الاقتداء به لا يصدر منه فعل القبيح ولا يكون كذلك إلا المعصوم.
3.
إذا ثبت لنا عصمته في الظاهر، فلابد من عصمته في الباطن، إذ لا يحسن من الحكيم تعالى أن يولى الإمامة ـ وهى منصب يقتضي التعظيم والتبجيل ـ من يجوز أن يكون مستحقا للعنة والبراءة في باطنه.
4.
لابد أن يكون معصوما قبل حال الإمامة لأنه لو لم يكن كذلك لأدى إلى التنفير عنه، وعدم الاطمئنان إليه (1) .
وهم يرون كذلك أن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فيهما ما يؤيد اعتقادهم، فكريمة قوله تعالى:" إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "صريحة في لزوم العصمة في الإمام لمن تدبرها جيدا (2) .
" ومن ذلك مثل قوله تعالى " أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَاّ يَهِدِّيَ إِلَاّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ"
وجه الاستدلال العقلى من دليل الموعظة الحسنة أنه سبحانه أخبرهم بأن من يهدى إلى الحق أولى بالاتباع، ومن فعل الذنب لا يكون هادياً إلى الحق حال معصيته ولا بفعله، أما حال معصيته فلا يقبل منه ولا تؤثر موعظته في القلوب، بل تنكر عليه، وذلك موجب لخلاف دعوته إلى الحق، وأما بفعله ففعله ذنب
(1) انظر تلخيص الشافى ص 318، وجوامع الكلم جـ 1 صفحات: 7، 8، 19، 20.
(2)
انظر أصل الشيعة وأصولها ص 102.
والذنب باطل يدعو إلى الباطل، وأما في غير تلك الحال فالعقول تجوز عليه حالاً لمعصيته لما فيها من شائبة النفرة، فلا يتم له هدايته إلى الحق، ولو فرض أنها لا تجوز عليه حال الطاعة حال المعصية، لم يستحق أحقية الاتباع المطلقة المستمرة التي هي مراد في الآية الشريفة، ولو فرض الاستحقاق والحال هذه في الجملة، أو بقول مطلق، لم يكن في الاستحقاق للأتباع مثل إن لم يقع منه ذنب مطلقا، فإذا كان الاتباع إنما هو للهداية للحق والصواب الموجبة للنجاة من عذاب الله وسخطه، وجب في العقل اتباع من لم يجوز عليه العقل شيئاً من المعاصي بالقطع بحصول النجاة في اتباعه، دون من وقع منه الذنب، لعدم القطع بحصول النجاة في اتباعه " (1) .
ومعنى هذا أن الإمام غير المعصوم عندما يعصى ويفعل الذنب لا يصلح للدعوة إلى الحق، وفي غير حال المعصية لا يصلح كذلك، لأن العقول تجوز وقوع المعصية منه. وإذا فرض أنها لا تجوز ذلك في حال طاعته فإن غير المعصوم ـ مع هذا ـ ليس أهلا لأن يتبع الاتباع المطلق المستمر.
وأما السنة الشريفة فهى ـ في رأيهم ـ مستفيضة في الدلالة على العصمة، بل إنه " ما نشأ القول بعصمة الأئمة إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله "(2) .
وهم يرون كذلك أن ما ورد في القرآن الكريم من العتابات المروية في حق الأنبياء عليهم السلام ليست مقصودة على ما هو المعروف عند سائر الناس، " فإن المعروف عندهم أن الشخص إذا عاتب آخر، والسيد إذا عاتب عبده، فإنه في تلك الحال واجد عليه أو مريد لعقوبته، لأجل مخالفته لما أمره به أو نهاه عنه، لأنه عاص له، قادم على مخالفة أمره، وأما عتاب الله عز وجل فإنه ليس من هذا القبيل؛ لأن أنبياءه لا يقدمون على مخالفته، وإن ما يقع منهم بمقتضى الطبيعة
(1) جوامع الكلم 1 / 20.
(2)
الدعوة الإسلامية ص 253.
البشرية ليس مما نهى الله عنه نهى تحريم ليقال كيف يرجحون داعي الطبيعة البشرية على داعي أمر الله وداعي الطبيعة البشرية النفس الأمارة بالسوء، وداعي أمر الله هو العقل. وأصحاب العقول الكاملة لا يطيعون قرين الشيطان. وإنما هو نهى تنزيه وإرشاد ".
والنبي أو الولي " قد يقع منه خلاف الأولى لأنه ينافي الكمال، ولا يستلزم النقصان، لأنه بتلك الصفات الحميدة تام قائم في مقامه ومرتبته التي وضعه الله فيها، فإذا وقع منه خلاف الأولى استوجب العقاب والذم من رب الأرباب لعلم ذلك الولي أنه مرجوح لا ينبغى له أن يفعله، فإذا فعله مع علمه بذلك عرف من نفسه التقصير واستحقاق العتاب، لأن الله سبحانه أقامه مقام القدس الذي هو محل الخلافة والسفارة المقتضى لأن يجرى على الحكمة التي هي مقتضى إرادة المولى سبحانه وفعله، فإذا ورد عليه الذم والعتاب انكسر وأناب، فاستحق بانكساره وذله واستغفاره وتوبته تلك الدرجة العالية "(1) .
" فتلك العتابات والتوبيخات دالة على عظم شأنهم، وجلالة قدرهم عنده لعظيم اعتنائه عز وجل بهم، فإنه قد يعاتبهم ويلومهم على ما ليس بذنب، وإنما هو تكميل على تكميل، وتنزيه لهم عن ملابسة مالا يليق بمقامهم عنده "(2) .
ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل: " عَفَا اللهُ عَنكَ "، فقالوا تفسيرا للعفو:" هذا يستعمل من لطيف المعاتبة، وإن كان العتاب على فعل جائز مثل المراد في هذه الآية، وليس للعفو متعلق إلا التلطف في العتاب "(3) .
(1) جوامع الكلم 1 / 18.
(2)
المرجع السابق 1 / 19.
(3)
المرجع السابق 1 / 24.
وقوله تعالى: " لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ "
خرجوا معنى الآية الكريمة على أنه " محمول على ترك الأولى كما تقدم ". وقيل: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنب أمتك بشفاعتك، وحسنت إضافة ذنوب أمته إليه للاتصال بينه وبينهم.
وعن الصادق رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال ما كان له ذنب ولا هم بذنب، ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له..
وفي رواية ابن طاووس عنهم عليهم السلام أن المراد: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر عند أهل مكة وقريش، يعنى ما تقدم قبل الهجرة وبعدها، فإنك إذا فتحت مكة بغير قتل لهم ولا استيصال، ولا أخذهم بما قدموه من العداوة والقتال، غفروا ما كانوا يعتقدونه ذنبا لك عندهم متقدماً أو متأخراً، وما كان يظهر من عداوته لهم في مقابلة عداوتهم له. فلما رأوه قد تحكم وتمكن، وما استقصى، غفروا ما ظنوه من الذنوب، ونقل أنه صلى الله عليه وسلم وآله حين كسر الأصنام قالوا: ما كان أحد أعظم ذنباً من محمد، كسر ثلثمائة وستين إلهاً، فقال تعالى:" إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ " من عبادتها " وَمَا تَأَخَّرَ"بكسرك إياها، تهكما بهم واستهزاء (1) .
(1) المرجع السابق 1 / 25، والمعروف أن الرسول الكريم لم يعبد الأصنام قط، ولذلك فالمراد بقوله " من عبادتها " أنه صلى الله عليه وسلم أذنب ـ من وجهة نظر الكفار ـ لأنه قصر في عبادة الأصنام فلم يتخذها آلهة.
وفي واقعة آدم رضي الله عنه " لا يقال إنه عصى من حيث هو معصوم ـ كما هو حال ما نحن بصدده ـ بل إنما عصى حين صرف عنه وجه العصمة ليتم مقادير الله عز وجل "(1) .
وتفسير العصيان بأنه راجع إلى ترك الأولى، وهو ليس بذنب في الحقيقة. نعم يسمى معصية وذنباً وسيئة إذا صدر من أصحاب المراتب العالية في القرب من الله عز وجل كالنبيين، ولهذا ورد: حسنات الأبرار سيئات المقربين (2) .
وفي قصة داود رووا عن الرضا أنه قال: " إن داود رضي الله عنه إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقا هو أعلم منه، فبعث الله عز وجل إليه ملكين فتسورا المحراب. فقالا له: خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة، فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب. فعجل داود رضي الله عنه على المدعى عليه فقال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، ولم يسأل المدعى البينة على ذلك، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم حكم "(3) .
هذا هو رأي الإمامية في مسألة العصمة، والذي دفعهم إلى كل هذا نظرتهم إلى الإمام على أنه مكان النبي تماما بفارق واحد هو مسألة النبوة! فلولا وجود الإمام لضلت الأمة، وهذا الذي يعصم الأمة من الضلال لابد أن يكون معصوماً.
وإن كان هؤلاء الغلاة يقصدون أئمتهم على وجه الخصوص دون غيرهم من سائر أئمة المسلمين، فإن أي إمام من الأئمة في الإسلام كائنا من كان منفذ للشرع وليس مشرعا، والذي يعصم الأمة الإسلامية من الضلال هو القرآن الكريم الذي
(1) جوامع الكلم 1 / 26.
(2)
نفس المرجع 1 / 27.
(3)
جوامع الكلم 1 / 32.
تعهد الله سبحانه بحفظه " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"(1) ثم من بعد ذلك السنة النبوية الشريفة. وما تحتاج إليه الأمة ولا تجده في هذين المصدرين، فإنها تعمل عقلها وتجتهر فيما يعرض لها، فإنها لا تجمع على ضلالة بنص قول الرسول صلى الله عليه وسلم (2) ، وهى التي تعصم الإمام من الخطأ، فالإمام فرد يخطئ ويصيب كسائر البشر من لدن آدم عليه السلام، أما الأمة فهى أحقٍ بأن تصيب.
وعندما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن، فوضه في أن يجتهد بعد الرجوع إلى الكتاب والسنة، ومعاذ ليس معصوماً، فلو وجبت العصمة للإمام لوجبت هنا لنفس الأدلة التي ساقوها: من فعل القبيح وترك الواجب، واتباع الناس له، إلى غير ذلك.
ولو وجبت العصمة للإمام، لوجب نصب إمام معصوم لكل بلد، لأن الإمام الواحد لا يكفي، ولوجب استمرار وجود هؤلاء الأئمة المعصومين في كل زمان ومكان وهذا ـ كما يسلم الجميع ـ لم يحدث.
فاللطف من الله سبحانه إذا ليس في وجود الإمام المعصوم، وإنما في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن الكريم وحفظه لهداية الناس.
(1)
…
سورة الحجر: الآية التاسعة.
(2)
…
" لا تجتمع أمتى على ضلالة ": رواه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه وغيرهم، واختلف في إسناده فتحدث السخاوى عن رواياته المختلفة ثم قال:" حديث مشهور المتن، ذو أسانيد كثيرة، وشواهد متعددة في المرفوع وغيره ". المقاصد الحسنه للسخاوى ص 460.
ونحن إذا تمسكنا بالقرآن الكريم، وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلن نضل أبدا كما قال نبينا صلوات الله عليه في حجة الوداع: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا. كتاب الله وسنة نبيه (1) .
ويقول تعالى في سورة النساء: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"
(فلم يقل: وأطيعوا أولى الأمر، ليبين أن طاعتهم فيما كان طاعة للرسول أيضا، إذ اندراج طاعة الرسول في طاعة الله أمر معلوم، فلم يكن تكرير لفظ الطاعة مؤذنا بالفرق، بخلاف ما لو قيل: أطيعوا الرسول وأطيعوا أولى الأمر منكم، فإنه قد يوهم طاعة كل منهما على حياله.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال " إنما الطاعة في المعروف "، وقال:" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "، وقال:" على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
ولهذا قال سبحانه بعد ذلك: "
(1) راجع الخطبة في السيرة النبوية لابن إسحاق التي جمعها ابن هشام 4، 603 ـ 604. والحديث رواه الإمام مالك في الموطأ، مرسلا، ووصله ابن عبد البر. (انظر تنوير الحوالك 2 / 208) ، ورواه الحاكم عن ابن عباس، وعن أبى هريرة، وبين صحة الحديث ووافقه الذهبي ـ (انظر المستدرك وتلخيصه 1 / 93) .
فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً"
فلم يأمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله والرسول دون الرد إلى أولى الأمر
…
ولو كان غير الرسول معصوماً أو محفوظاً فيما يأمر به ويخبر به لكان ممن يرد إليه مواقع النزاع (1) .
فإذا أمر الإمام بالقبيح فليس على الأمة أن تطيعه وتقتدى به؛ لأن ذلك لا يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله، ولا يعقل أن أمة لا تستطيع أن تميز القبيح من غير القبيح، في حين يستطيع ذلك الإمام وحده حتى لو كان طفلا!
قال ابن تيمية (2)، معقبا على القول بعصمة الإمام الثانى عشر: أجمع أهل العلم بالشريعة على ما دل عليه الكتاب والسنة: أن هذا لو كان موجودا لكان من أطفال المسلمين الذين يجب الحجر عليهم في أنفسهم وأموالهم حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد، كما قال تعالى:(3)" وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ "
وليس في القرآن الكريم، ولا في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على هذه العصمة.
فقوله تعالى: (4)" قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "
(1) جامع الرسائل 1 / 273 ـ 275.
(2)
المرجع السابق 1 / 263.
(3)
سورة النساء: الآية السادسة.
(4)
سورة البقرة: الآية 124.
ليس فيه معنى العصمة، فهناك فرق كبير بين الظلم وعدم العصمة، فغير المعصوم إذا أخطأ فلم يصر على هذا الخطأ وتاب وأناب إلى الله تعالى فليس بظالم. ثم أين هذا من السهو والنسيان الذي لا يحاسب عليه الإنسان، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم:" رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "؟ (1) وقوله تعالى (2)" أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَاّ يَهِدِّيَ إِلَاّ أَن يُهْدَى "
جزء من آية كريمة جاءت في سياق الاستدلال على إبطال دعوى المشركين فيما أشركوا بالله غيره، وعبدوا من الأصنام والأنداد. قال تعالى:(3)" قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَاّ يَهِدِّيَ إِلَاّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ"
فالله سبحانه يهدى للحق وهو أحق أن يتبع، والمشركون ضالون فيما أشركوا بالله، فأين وجوب العصمة للإمام هنا؟!
وبصفه عامة كل من يدعو للحق أحق أن يتبع سواء أكان إماماً أم غير إمام، ومن دعا إلى الضلال أحق ألا يتبع.
(1) وقع بهذا اللفظ في كتب كثيرين من الفقهاء والأصوليين. له شاهد جيد أخرجه أبو القاسم الفضل بن جعفر التميمى المعروف بأخى عاصم في فوائده، بسنده عن ابن عباس بلفظ: رفع الله. ورواه ابن ماجه وابن أبى عاصم بلفظ: وضع بدل رفع، ورجاله ثقات، ولذا صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما وقال النووى في الروضة وفى الأربعين أنه حسن (انظر المقاصد الحسنة للسخاوى ص 228 ـ 230) .
(2)
سورة يونس: الآية 35.
(3)
سورة يونس: الآيتان 34، 35.
ويقول تعالى في سورة السجدة: (1)" وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ "
فإذا كانت العصمة واجبة للأئمة، فهل هؤلاء جميعا ـ الذين ذكرتهم الآية الكريمة ـ معصومون؟!
إن القرآن الكريم يبين أن لا عصمة لبشر، فهذا آدم رضي الله عنه أبو البشر قد عصى ربه فغوى كما يبين القرآن الكريم، قال تعالى:(2)" وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"
وفي سورة الأعراف: (3) . " فَدَلَاّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"
(1) الآيتان 23، 24.
(2)
سورة البقرة: الآيات: 35، 36، 37.
(3)
الآيتان: 22، 23.
وفي سورة طه (1) : " فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى"
فهذه الآيات الكريمة تذكر أن آدم رضي الله عنه قد أطاع الشيطان وعصى الله تعالى فغوى، وظلم نفسه. فلو كان معصوماً كالعصمة التي تدعى للأئمة ما فعل ذلك.
وكونه " إنما عصى حين صرف عنه وجه العصمة "(2) يمكن أن يقال مثله عن أي إنسان، فكل إنسان معصوم إذن. وإنما يخطئ عندما يصرف عنه وجه العصمة! وليس الأمر كذلك! وإذا لم يكن ذلك ذنبا من آدم ـ كما قيل ـ فلم حاسبه الله تعالى وعاقبه ثم تاب عليه وهداه؟ ولم عد ذلك الذي فعله ظلماً وخسراناً وغياً؟
يقول ابن تيمية: " من زعم أن الله ذم أحدا من البشر أو عاقبه على ما فعله، ولم يكن ذلك ذنبا، فقد قدح فيما أخبر الله به وما وجب له من حكمته وعدله ". (3)
ويقول فخر الدين الرازى ـ وهو يدافع عن مبدأ عصمة الأنبياء ـ إن ما نسب لآدم رضي الله عنه كان قبل النبوة. وأورد رأي أولئك الذين لم يجوزوا صدور المعصية عن الأنبياء قبل النبوة ولكنه لم يستطع أن يسلم بهذا الرأي، وانتهى
…
إلى قوله بلزوم أن يكون اطلاق لفظ العصيان على آدم إنما كان لكونه تاركا للواجب (4) .
(1) الآيتان: 121، 122.
(2)
جوامع الكلم 1 / 26.
(3)
جامع الرسائل 1 / 275.
(4)
انظر عصمة الأنبياء ص 12 ـ 13.
إن تلك الآيات الكريمة واضحة الدلالة في عدم العصمة، ويزيد ذلك وضوحا لا لبس فيه قول الله تعالى:
" وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ. قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "(1)
فقتل موسى للرجل، واعتبار ذلك من عمل الشيطان، واعترافه بظلم نفسه، وطلبه المغفرة من الله تعالى، واستجابة الله له، كل هذا لا تتحقق معه عصمة.
وفي أكثر من موضع في القرآن الكريم لم يقر الرسول صلى الله عليه وسلم على أخطاء وقع فيها.
ففي سورة الأنفال: (2)
" مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"
(1) سورة القصص، الآيتان: 15، 16.
(2)
الآية: 67.
وفي سورة التوبة: (1)" لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ"
وفي سورة الأحزاب (2)"وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ "
وفي سورة عبس: (3)"عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى "
وفي آيات كريمة أخرى ذكر أن له صلى الله عليه وسلم ذنوباً: قال تعالى: (4)"فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ"
(1) الآيتان: 42، 43.
(2)
الآية 37.
(3)
الآيات من 1: 10.
(4)
سورة غافر الآية: 55.
وقال عز وجل: (1)"فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ"
وقال سبحانه: (2)" إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا"
وقال تعالى: (3)" وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ"
وتخريج هذه الآيات الكريمة على أنها من باب ترك الأولى لا يتفق مع دعوى العصمة المطلقة.
وما روى عن الصادق في الآية الثانية من سورة الفتح أنه قال: " ما كان له ذنب ولا هم بذنب ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له ". (4) يعد مبدأ خطيرا يتنافي مع مبادئ الإسلام كلية، فأين هذا من قوله تعالى:(5)
(1) سورة محمد الآية 19.
(2)
سورة الفتح، الآيتان 1، 2.
(3)
سورة الانشراح، الآيتان 2، 3.
(4)
جوامع الكلم 1 / 25.
(5)
سورة فاطر، الآية:18.
"وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ"
ومن قوله سبحانه: (1)" فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"
فالقرآن الكريم إذن ينفي وجوب هذه العصمة المطلقة لخير البشر أجمعين وهم الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم، وإنما عصمتهم مقيدة محددة، فمثلا " اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغونه، فلا يقرون على سهو فيه، وبهذا يحصل المقصود من البعثة ". (2)
قال الإمام فخر الدين الرازى بعد نقل الآراء المختلفة في القول بعصمة الأنبياء: " والذى نقول:
إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد. أما على سبيل السهو فهو جائز. (3)
فالرازى وقد كتب رسالته ـ كما يقول (4) ـ في النضح عن رسل الله وأنبيائه والذب عن خلاصة خلقه وأتقيائه، لم يدع لهم عصمة كتلك التي ادعيت للأئمة.
(1) سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8.
(2)
المنتقى ص 84 ـ 85.
(3)
عصمة الأنبياء ص 4، وانظر الآراء المختلفة حول العصمة في الصفحتين الثانية والثالثة.
(4)
المرجع السابق ص 1.
وبالطبع لا يمكن أن تتعارض السنة الشريفة مع هذا المبدأ. لكن الإمامية يستدلون على عصمة الأئمة بكثير من الأحاديث، بعضها صحيح وبعضها لا يمكن الأخذ به، وقد رأينا فيما سبق نظرة الشيعة إلى الإمام ونحن لا يمكن بحال أن نأخذ بها، فهى ترفعه فوق الأنبياء والبشر جميعا!
فما وجه الاستدلال في الأحاديث الصحيحة التي استدلوا بها؟
من الأحاديث التي استدلوا بها قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلى: " أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى ". وقوله صلى الله عليه وسلم: " لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " ثم أعطاها علياً.
وهذا الحديثان الشريفان ورد معناهما في البخاري ومسلم. (1)
أما الحديث الأول فقد ذكر مسلم بإسناده عن سعد بن أبى وقاص قال: " خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله تخلفنى في النساء والصبيان، فقال: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير انه لا نبي من بعدى ".
فالإمام على كرم الله وجهه يشبه هارون رضي الله عنه في الاستخلاف (2) ، وقد استخلف غيره أيضا. وهذا الحديثان الشريفان يبينان مكانة! على رضي الله عنه، وما أسماها من مكانة ولكنهما لو كانا يوجبان عصمة لوجبت لكل الصحابة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فكلهم يحبون الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويحبهم الله
(1) راجع صحيح البخاري: كتاب المناقب. باب مناقب على بن أبى طالب، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة. باب من فضائل على بن أبى طالب.
(2)
انظر الوشيعة ص م ط وما بعدها ففيه تحليل مفصل لهذا الحديث، وبيان بطلان استدلال الإمامية، وانظر الفصل في الملل ص 94 ـ 95، ومختصر التحفة ص 162 ـ 164، والمنتقى ص 468 ـ 470.
عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولوجبت العصمة كذلك لكل من استخلف على المدينة، فهم جميعا بمنزلة هارون من موسى في الاستخلاف، ولوجبت أيضا لكثيرين غير من ادعيت لهم، مثال ذلك ما جاء في حق أبى بكر الصديق رضي الله عنه من الأحاديث الصحيحة.
روى البخاري ومسلم بإسنادهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من أمن
…
الناس على في صحبته، وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربى لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر " (1) .
وأكثر من هذا صراحة ما روياه أيضاً بإسنادهما أن أمرأة أتت النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمرها أن ترجع إليه. قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول الموت. قال عليه الصلاة والسلام: إن لم تجدينى فأتى أبا بكر " (2) .
وبمنطق الشيعة نقول: إذا جاءت المرأة ولم تجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنها مأمورة بأن تسأل أبا بكر، وتتبعه فيما يقوله لها، فإذا لم يكن معصوماً فربما دلها على قبيح فتتابعه عليه، وهذا غير جائز فلابد إذن أن يكون معصوماً! أظن هذا أكثر منطقية واستدلالاً من استدلال الإمامية، ولكن أحدا لم يقل به، لأن أبا بكر رضي الله عنه بشر كسائر البشر، يصيب ويخطئ، والمرأة مأمورة بأن تتبعه فيما يوافق كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأبو بكر - كغيره - منفذ للشرع وليس مشرعاً. وغير هذا كثير فيما ورد عن فضائل الصحابة رضوان الله عليهم (3) .
(1) صحيح البخاري: " كتاب المناقب – باب مناقب المهاجرين، وصحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل أبى بكر الصديق، واللفظ للبخاري.
(2)
المرجعيين السابقين، وفى مسلم " فإن لم
…
" بزيادة الفاء.
(3)
راجع صحيح البخاري في كتاب المناقب، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة.
نخرج من كل هذا إلى أن عصمة الأنبياء ليست مطلقة، فهم بشر معرضون للخطأ والسهو والنسيان، ولكنهم عليهم السلام لا يقرون على هذا الخطأ " بل لابد من التوبة والبيان، والاقتداء إنما يكون بما استقر عليه الأمر، فأما المنسوخ، والمنهى عنه، والمتوب عنه، فلا قدوة فيه بالاتفاق، فإذا كانت الأقوال المنسوخة لا قدوة فيها، فالأفعال التي لم يقر عليها أولى بذلك"(1) أما باقي البشر فهى أدنى من هذا بكثير جداً.
ودعوى العصمة للأئمة ليس لها سند من الشريعة والعقل، فإنها ترفعهم فوق مستوى الأنبياء عليهم السلام. ولا نقول إن الأئمة جميعاً لا يصلون إلى درجة الأنبياء، فهذا مسلم به، وإنما نقول: إن جميع الأئمة ليس فيهم من يصل إلى منزلة الصديق والفاروق رضي الله عنهما باعتراف الإمام على نفسه كرم الله وجهه، فقد روى الإمام البخاري رضي الله عنه بسنده عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال: " قلت لأبى: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر ". (2)
قال ابن تيمية: " قد روى هذا عن على من نحو ثمانين طريقاً، وهو متواتر عنه "(3) .
والواقع العملي للأئمة يتنافى مع هذه العصمة، مثال ذلك أن الحسن رضي الله عنه هادن مع كثرة أنصاره، والحسين رضي الله عنه حارب مع قلة من أنصاره (4) . فلو كان أحدهما مصيباً، كان الآخر مخطئاً، أي غير معصوم، ولا
(1) جامع الرسائل 1/276.
(2)
…
صحيح البخاري، كتاب المناقب - باب مناقب المهاجرين.
(3)
…
جامع الرسائل 1/261.
(4)
ولذلك حارت فرقة من أصحابه وقالت: قد اختلف علينا فعل الحسن وفعل الحسين، فشكوا في إمامتها، ورجعوا عنها: انظر فرق الشيعة - ص 25-26.