الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حبسوا في بيت حمّام فيه هواء حارّ أو في بئر فيه هواء ثقل برطوبة الماء ماتوا غمّا، فإن ابتلي واحد منهم بشيء من ذلك ثمّ نجا ربّما قدّر ذلك نعمة وشكر الله عليها، وهذا غاية الجهل، إذ صار شكرهم موقوفا على أن تسلب عنهم النّعمة ثمّ تردّ عليهم في بعض الأحوال، والنّعمة في جميع الأحوال أولى بأن تشكر في بعضها، فلا ترى البصير يشكر صحّة بصره إلّا أن تعمى (عيناه) فعند ذلك لو أعيد عليه بصره أحسّ به وشكره وعدّه نعمة وهذا الجاهل الّذي لم يقدّر نعمة الله عليه مثل عبد سوء. حقّه أن يضرب دائما حتّى إذا ترك ضربه ساعة تقلّد به منّة. فإن ترك ضربه على الدّوام غلبه البطر وترك الشّكر، فصار النّاس لا يشكرون إلا المال الّذي يتطرّق إليه الاختصاص من حيث الكثرة والقلّة وينسون جميع نعم الله تعالى عليهم. ولو أمعن الإنسان النّظر في أحواله رأى من الله نعما كثيرة تخصّه لا يشاركه فيها النّاس كافّة بل يشاركه عدد يسير من النّاس، وربّما لا يشركه فيها أحد من الخلق، وذلك يتمثّل في ثلاثة أمور يعترف بها كلّ عبد:
أحدها: العقل فإنّه ما من عبد لله تعالى إلّا وهو راض عن الله في عقله يعتقد أنّه أعقل النّاس، وقلّ من يسأل الله العقل، ولذا وجب على كلّ الخلق شكر الله.
والأمر الثّاني: الخلق، فما من عبد إلّا ويرى من غيره عيوبا يكرهها، وأخلاقا يذمّها، وإنّما يذمّها من حيث يرى نفسه بريئا منها فإذا لم يشتغل بذمّ الغير وجب عليه أن يشكر الله إذ حسن خلقه وابتلي غيره بسوء الخلق.
والأمر الثّالث: الّذي يقرّ به كلّ أحد: العلم، فما من أحد إلّا ويعرف بواطن أمور نفسه، وخفايا أفكاره، وما هو منفرد به ولو كشف الغطاء حتّى اطّلع عليه أحد من الخلق لافتضح، فكيف لو اطّلع النّاس كافّة، ألا يوجب ستر القبيح وإخفاؤه عن أعين النّاس شكر هذه النّعمة العظيمة، ولم يصرف الخلق عن شكر هذه النّعمة إلّا الغفلة والجهل، وأعمّ من هذه الأمور أمور أخرى فما من أحد من الخلق إلّا وقد رزقه الله تعالى في صورته أو أخلاقه أو صفاته أو أهله أو ولده أو مسكنه أو بلده أو رفيقه أو زوجه أو عزّه أو جاهه أو في سائر أموره، فإنّه لو سلب ذلك منه وأعطي ما خصّ به غيره فإنّه لا يرضى به. فإذا كان الأمر كذلك فقد وجب على كلّ الخلق أن يشكروه على أن جعلهم على هذه الحالة الّتي هم عليها ولم يجعلهم على حال الآخرين، ولكن غلب عليهم كفر النّعمة. وما سدّ على الخلق طريق الشّكر إلّا جهلهم بضروب النّعم الظّاهرة والباطنة والخاصّة والعامّة أو الغفلة عنها لحصولهم عليها بلا أدنى سبب «1» .
حكم نكران الجميل:
إنّ نكران الجميل أو كفران نعمة المحسن يجيز للمحسن أن يمنّ بنعمته على من أنكرها، يقول الرّاغب: ولحسن ذكرها (النّعمة) عند الكفران قيل:
(1) إحياء علوم الدين (4/ 129- 130) بتصرف، ط الريان.
إذا كفرت النّعمة حسنت المنّة، هذا في الدّنيا أمّا في الآخرة «1» ، فقد عدّها بعض العلماء من الكبائر خاصّة إذا كانت النّعمة من الله سبحانه وتعالى أو ممّن تجب مراعاته كالزّوج. يقول الإمام ابن حجر: ذكر جماعة أنّ كفران نعمة المحسن من الكبائر وهو بعيد، ويتعيّن حمله على كفران نعمة الله- عز وجل إذ هو المحسن على الحقيقة، ويمكن حمله أيضا على كفران نعمة محسن تجب مراعاته كالزّوج لما ورد في ذلك من الوعيد الشّديد «2» . وقال- رحمه الله في موضع آخر: ومن الكبائر كفران نعمة الخلق المستلزم لكفران نعمة الحقّ، وذكر أنّ عدّ ذلك من الكبائر هو ظاهر ما ورد في الحديث الّذي رواه التّرمذي (عن جابر) :«من أعطي عطاء فوجد فليجز به.. ومن كتم فقد كفر (الحديث رقم 14) ومعنى الكفر هنا أنّه يجرّ إلى كفر نعم الله تعالى «3» .
[للاستزادة: انظر صفات: الجحود- الكفر- الغرور- عقوق الوالدين.
وفي ضد ذلك: انظر صفات: الاعتراف بالفضل- الشكر- الحمد- بر الوالدين] .
(1) المفردات للراغب (475) .
(2)
الزواجر لابن حجر (147) .
(3)
المرجع السابق (255) .