الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأحاديث الواردة في ذمّ (الغدر)
1-
* (عن عوف بن مالك- رضي الله عنه قال: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك- وهو في قبّة من أدم- فقال: «اعدد ستّا بين يدي السّاعة: موتي ثمّ فتح بيت المقدس، ثمّ موتان يأخذ فيكم كعقاص الغنم، ثمّ استفاضة المال حتّى يعطى الرّجل مائة دينار فيظلّ ساخطا، ثمّ فتنة لا يبقى بيت من العرب إلّا دخلته، ثمّ هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كلّ غاية اثنا عشر ألفا» ) * «1» .
2-
* (عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» ) * «2» .
3-
* (عن عبد الله بن عبّاس- رضي الله عنهما أنّ أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه. قال:
انطلقت في المدّة الّتي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» قال: فبينا أنا بالشّام إذ جئ بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل- يعني عظيم الرّوم- قال:
وكان دحية «4» الكلبيّ جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى «5» ، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل. فقال هرقل: هل هاهنا أحد من قوم هذا الرّجل الّذي يزعم أنّه نبيّ؟ قالوا: نعم. قال فدعيت في نفر من قريش.
فدخلنا على هرقل. فأجلسنا بين يديه فقال: أيّكم أقرب نسبا من هذا الرّجل الّذي يزعم أنّه نبيّ؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا. فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي. ثمّ دعا بترجمانه «6» : فقال له: قل لهم إنّي سائل هذا عن الرّجل الّذي يزعم أنّه نبيّ. فإن كذبني فكذّبوه، قال: فقال أبو سفيان: وايم الله لولا مخافة أن يؤثر عليّ الكذب «7» لكذبت. ثمّ قال لترجمانه: سله. كيف حسبه فيكم؟ قال قلت: هو فينا
(1) البخاري- الفتح 6 (3176) .
(2)
البخاري- الفتح 1 (34) واللفظ له، ومسلم (58) .
(3)
في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعني الصلح يوم الحديبية. وكانت الحديبية في أواخر سنة ست من الهجرة.
(4)
دحية: هو بكسر الدال وفتحها. لغتان مشهورتان. اختلف في الراجحة منهما. وادعى ابن السكيت أنه بالكسر لا غير. وأبو حاتم السجستاني، أنه بالفتح لا غير.
(5)
بصرى: هي مدينة حوران. ذات قلعة وأعمال قريبة من طرف البرية التي بين الشام والحجاز. والمراد بعظيم بصرى، أميرها.
(6)
بترجمانه: هو بضم التاء وفتحها. والفتح أفصح. وهو المعبر عن لغة بلغة أخرى التاء فيه أصلية. وأنكروا على الجوهري كونه جعلها زائدة.
(7)
لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب: معناه: لولا خفت أن رفقتي ينقلون عني الكذب الى قومي، ويتحدثون به في بلادي، لكذبت عليه. لبغضي إياه ومحبتي نقصه. وفي هذا بيان أن الكذب قبيح في الجاهلية. كما هو قبيح في الإسلام.
ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت:
لا. قال: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: ومن يتّبعه؟ أشراف النّاس «1» أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قال قلت: لا. بل يزيدون. قال: هل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال:
قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال:
فكيف كان قتالكم إيّاه؟ قال قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا «2» ؛ يصيب منّا ونصيب منه. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن منه في مدّة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: فو الله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه. قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟
قال قلت: لا. قال لترجمانه: قل له: إنّي سألتك عن حسبه فزعمت أنّه فيكم ذو حسب. وكذلك الرّسل تبعث في أحساب قومها. وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فزعمت أن لا. فقلت: لو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك آبائه. وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرّسل. وسألتك: هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا.
فقد عرفت أنّه لم يكن ليدع الكذب على النّاس ثمّ يذهب فيكذب على الله. وسألتك: هل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ فزعمت أن لا.
وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب «3» . وسألتك:
هل يزيدون أو ينقصون؟ فزعمت أنّهم يزيدون.
وكذلك الإيمان حتّى يتمّ. وسألتك: هل قاتلتموه؟
فزعمت أنّكم قد قاتلتموه فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا. ينال منكم وتنالون منه. وكذلك الرّسل تبتلى «4» ثمّ تكون لهم العاقبة. وسألتك: هل يغدر؟
فزعمت أن لا. وكذلك الرّسل لا تغدر. وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا. فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله، قلت رجل ائتمّ بقول قيل قبله. قال: ثمّ قال: بم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصّلاة والزّكاة والصّلة والعفاف «5» ، قال: إن يكن ما تقول فيه
(1) أشراف الناس: يعني بأشرافهم، كبارهم وأهل الأحساب فيهم. فيه إسقاط همزة الاستفهام.
(2)
سجالا: أي نوبا. نوبة لنا ونوبة له. قالوا: وأصله أن المستقيين بالسجل، وهي الدلو الملأى، يكون لكل واحد منهما سجل.
(3)
بشاشة القلوب: يعني انشراح الصدور. وأصلها اللطف بالإنسان عند قدومه وإظهار السرور برؤيته. يقال بش به وتبشبش.
(4)
وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة: معناه يبتليهم الله بذلك ليعظم أجرهم بكثرة صبرهم، وبذلهم وسعهم في طاعة الله تعالى.
(5)
والصلة والعفاف: أما الصلة فصلة الأرحام وكل ما أمر الله به أن يوصل. وذلك بالبر والإكرام وحسن المراعاة. وأما العفاف فالكف عن المحارم وخوارم المروءة. قال صاحب المحكم: العفة الكف عما لا يحل ولا يحمد. قال: عف يعف عفة وعفافا وعفافة. وتعفف واستعف. ورجل عف وعفيف. والأنثى عفيفة. وجمع العفيف أعفة وأعفاء.
حقّا فإنّه نبيّ. وقد كنت أعلم أنّه خارج، ولم أكن أظنّه منكم. ولو أنّي أعلم أنّي أخلص إليه، لأحببت لقاءه.
ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. وليبلغنّ ملكه ما تحت قدميّ. قال: ثمّ دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» فقرأه. فإذا فيه «بسم الله الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول الله إلى هرقل عظيم الرّوم، سلام على من اتّبع الهدى، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام «2» أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرّتين، وإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين «3» قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. (آل عمران/ 64) » فلمّا فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللّغط «4» . وأمر بنا فأخرجنا. قال: فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة «5» إنّه ليخافه ملك بني الأصفر «6» . قال: فما زلت موقنا
(1) بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: في هذا الكتاب جمل من القواعد وأنواع من الفوائد منها: دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم. وهذا الدعاء واجب. والقتال قبله حرام إن لم تكن بلغتهم دعوة الإسلام. ومنها استحباب تصدير الكتاب ببسم الله الرحمن الرحيم وإن كان المبعوث إليه كافرا. ومنها التوقي في الكتابة واستعمال الورع فيها، فلا يفرّط ولا يفرط. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى هرقل عظيم الروم، ولم يقل: ملك الروم، لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام. ولم يقل: إلى هرقل فقط. بل أتى بنوع من الملاطفة فقال: عظيم الروم. أي الذي يعظمونه ويقدمونه. وقد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعى إلى الإسلام. فقال تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. وقال تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً. ومنها استحباب البلاغة والإيجاز وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة. ومنها البيان الواضح أن من كان سببا لضلالة، أو سبب منع من هداية كان آثما. لقوله صلى الله عليه وسلم:«وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين» . ومنها استحباب أما بعد في الخطب والمكاتبات.
(2)
بدعاية الإسلام: أي بدعوته، وهي كلمة التوحيد. وقال في الرواية الأخرى: أدعوك بداعية الاسلام وهي بمعنى الأولى. ومعناها الكلمة الداعية إلى الإسلام. قال القاضي: ويجوز أن تكون داعية هنا بمعنى دعوة، كما في قوله تعالى: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ. أي كشف.
(3)
الأريسيين: هكذا وقع في هذه الرواية الأولى، في مسلم: الأريسيين. وهو الأشهر في روايات الحديث وفي كتب أهل اللغة. وعلى هذا اختلف في ضبطه على أوجه: أحدها بياءين بعد السين. والثاني بياء واحدة بعد السين. وعلى هذين الوجهين الهمزة مفتوحة والراء مكسورة مخففة. والثالث: الإريسين، بكسر الهمزة وتشديد الراء وبياء واحدة بعد السين. ووقع في الرواية الثانية في مسلم، وفي أول صحيح البخاري: إثم اليريسيين، بياء مفتوحة في أوله وبياءين بعد السين. واختلفوا في المراد بهم على أقوال: أصحها وأشهرها أنهم الأكارون، أي الفلاحون والزراعون. ومعناه إن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون بانقيادك. ونبه بهؤلاء على جميع الرعايا لأنهم الأغلب، ولأنهم أسرع انقيادا. فاذا أسلم أسلموا، وإذا امتنع امتنعوا. وهذا القول هو الصحيح. الثاني أنهم اليهود والنصارى، وهم أتباع عبد الله بن أريس الذي تنسب إليه الأروسية من النصارى، ولهم مقالة في كتب المقالات. ويقال لهم: الأروسيون. الثالث أنهم الملوك الذين يقودون الناس إلى المذاهب الفاسدة ويأمرونهم بها.
(4)
اللغط: هو بفتح الغين وإسكانها، وهي الأصوات المختلطة.
(5)
لقد أمر أمر ابن أبي كبشة: أما أمر فبفتح الهمزة وكسر الميم، أي عظم. وأما قوله: ابن أبي كبشة، فقيل: هو رجل من خزاعة كان يعبد الشعرى، ولم يوافقه أحد من العرب في عبادتها. فشبهوا النبي صلى الله عليه وسلم به لمخالفته إياهم في دينهم، كما خالفهم ابن أبي كبشة.
(6)
بنو الأصفر: هم الروم.
بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه سيظهر حتّى أدخل الله عليّ الإسلام» ) * «1» .
4-
* (عن أنس بن مالك- رضي الله عنه أنّ رعلا وذكوان وعصيّة وبني لحيان استمدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدوّ، فأمدّهم بسبعين من الأنصار- كنّا نسمّيهم القرّاء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنّهار، ويصلّون باللّيل- حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم فبلغ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصّبح على أحياء من أحياء العرب: على رعل وذكوان وعصيّة وبني لحيان. قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا ثمّ إنّ ذلك رفع: «بلّغوا عنّا قومنا، أنّا لقينا ربّنا فرضي عنّا وأرضانا. وعن قتادة عن أنس بن مالك حدّثه:
«أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرا في صلاة الصّبح يدعو على أحياء من أحياء العرب: على رعل وذكوان وعصيّة وبني لحيان» . زاد خليفة: «حدّثنا ابن زريع حدّثنا سعيد عن قتادة حدّثنا أنس أنّ أولئك السّبعين من الأنصار قتلوا ببئر معونة» ) * «2» .
5-
* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه قال:
إنّ ناسا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تضارّون في رؤية القمر ليلة البدر «3» ؟» قالوا: لا يا رسول الله. قال «هل تضارّون في الشّمس ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال:«فإنّكم ترونه كذلك «4» . يجمع الله النّاس يوم القيامة. فيقول: من كان يعبد شيئا فليتّبعه. فيتّبع من كان يعبد الشّمس الشّمس. ويتّبع من كان يعبد القمر القمر. ويتّبع من كان يعبد الطّواغيت «5» الطّواغيت. وتبقى هذه الأمّة فيها منافقوها. فيأتيهم الله تبارك وتعالى، في صورة غير صورته الّتي يعرفون. فيقول أنا ربّكم.
فيقولون: نعوذ بالله منك. هذا مكاننا حتّى يأتينا ربّنا.
(1) البخاري- الفتح 1 (7) ، ومسلم (1773) واللفظ له.
(2)
البخاري- الفتح 7 (4090) واللفظ له. ومسلم (677) .
(3)
هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر. وفي الرواية الأخرى هل تضامون: وروى تضارون بتشديد الراء وبتخفيفها، والتاء مضمومة فيهما. ومعنى المشدد هل تضارون غيركم في حالة الرؤية بزحمة أو مخالفة في الرؤية أو غيرها لخفائه، كما تفعلون أول ليلة من الشهر. ومعنى المخفف هل يلحقكم في رؤيته ضير، وهو الضرر وروي أيضا تضامون بتشديد الميم وتخفيفها. فمن شددها فتح التاء، ومن خففها ضم التاء. ومعنى المشدد هل تتضامون وتتلطفون في التوصل الى رؤيته. ومعنى المخفف هل يلحقكم ضيم، وهو المشقة والتعب. ومعناه لا يشتبه عليكم وترتابون فيه فيعارض بعضكم بعضا في رؤيته.
(4)
فإنكم ترونه كذلك: معناه تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح وزوال الشك والمشقة.
(5)
الطواغيت: هو جمع طاغوت. قال الليث وأبو عبيدة والكسائي وجماهير أهل اللغة: الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى. قال الواحدي: الطاغوت يكون واحدا وجمعا. ويؤنث ويذكر. قال الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، فهذا في الواحد. وقال تعالى في الجمع: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ. وقال في المؤنث: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها. قال في المصباح: وهو في تقدير فعلوت بفتح العين. لكن قدمت اللام موضع العين. واللام واو محركة مفتوح ما قبلها فقلبت ألفا. فبقى في تقدير فعلوت، وهو من الطغيان قاله الزمخشري.
فإذا جاء ربّنا عرفناه. فيأتيهم الله تعالى في صورته الّتي يعرفون. فيقول أنا ربّكم. فيقولون: أنت ربّنا فيتّبعونه. ويضرب الصّراط بين ظهري جهنّم «1» فأكون أنا وأمّتي أوّل من يجيز «2» . ولا يتكلّم يومئذ إلّا الرّسل ودعوى الرّسل يومئذ: اللهمّ سلّم، سلّم. وفي جهنّم كلاليب مثل شوك السّعدان «3» . هل رأيتم السّعدان؟» قالوا: نعم. يا رسول الله. قال:
«فإنّها مثل شوك السّعدان، غير أنّه لا يعلم ما قدر عظمها إلّا الله، تخطف النّاس بأعمالهم. فمنهم المؤمن بقي بعمله «4» ، ومنهم المجازى حتّى ينجّى.
حتّى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النّار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النّار من كان لا يشرك بالله شيئا، ممّن أراد الله تعالى أن يرحمه ممّن يقول لا إله إلّا الله. فيعرفونهم في النّار. يعرفونهم بأثر السّجود. تأكل النّار من ابن آدم إلّا أثر السّجود. حرّم الله على النّار أن تأكل أثر السّجود. فيخرجون من النّار وقد امتحشوا «5» فيصبّ عليهم ماء الحياة، فينبتون منه «6» كما تنبت الحبّة في حميل السّيل «7» . ثمّ يفرغ الله تعالى من القضاء بين العباد. ويبقى رجل مقبل بوجهه على النّار. وهو آخر أهل الجنّة دخولا الجنّة. فيقول: أي ربّ، اصرف وجهي عن النّار. فإنّه قد قشبني «8» ريحها وأحرقني ذكاؤها. فيدعو الله ما شاء الله أن يدعوه. ثمّ يقول الله تبارك وتعالى: هل عسيت «9» إن فعلت ذلك بك
(1) ويضرب الصراط بين ظهري جهنم: أي يمد الصراط عليها.
(2)
فأكون أنا وأمتي أول من يجيز: معناها يكون أول من يمضي عليه ويقطعه. يقال: أجزت الوادي وجزته، لغتان بمعنى واحد وقال الأصمعي: أجزته قطعته، وجزته مشيت فيه.
(3)
وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان: الكلاليب جمع كلوب وكلاب وهي حديدة معطوفة الرأس يعلق فيها اللحم وترسل في التنور، وأما السعدان فهو نبت له شوكة عظيمة مثل الحسك من كل الجوانب.
(4)
بقى بعمله: ذكر القاضي أنه روى على ثلاثة أوجه: أحدها المؤمن بقى والثاني الموثق والثالث الموبق يعني بعمله. قال القاضي: هذا أصحها، وكذا قال صاحب المطالع: هذا الثالث هو الصواب. قال: وفي بقى، على الوجه الأول ضبطان أحدهما بالباء الموحدة والثاني بالياء المثناة. قال النووي: والموجود في معظم الأصول ببلادنا هو الوجه الأول.
(5)
امتحشوا: احترقوا.
(6)
فينبتون منه: معناه ينبتون بسببه.
(7)
كما تنبت الحبة في حميل السيل: الحبة هي بذر البقول والعشب، تنبت في البراري وجوانب السيول. وجمعها حبب. وحميل السيل ما جاء به السيل من طين أو غثاء، ومعناه محمول السيل. والمراد التشبيه في سرعة النبات وحسنه وطراوته.
(8)
قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها: قشبني معناه سمني وآذاني وأهلكني. كذا قاله الجماهير من أهل اللغة والغريب. وقال الداوديّ: معناه غير جلدي وصورتي. وأما ذكاؤها فمعناه لهبها واشتعالها وشدة وهجها. والأشهر في اللغة ذكاها مقصور. وذكر جماعات أن المد والقصر لغتان.
(9)
هل عسيت: لغتان: بفتح السين وكسرها. قال في الكشاف عند قوله تعالى (البقرة/ 246) هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا. وخبر عسيتم أن لا تقاتلوا. والشرط فاصل بينهما. والمعنى هل قاربتم أن لا تقاتلوا، يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون: أراد أن يقول: عسيتم أن لا تقاتلوا، بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل هل مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون. وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن، وأنه صائب في توقعه.
أن تسأل غيره؟ فيقول: لا أسألك غيره. ويعطي ربّه من عهود ومواثيق ما شاء الله. فيصرف الله وجهه عن النّار. فإذا أقبل على الجنّة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت. ثمّ يقول: أي ربّ، قدّمني إلى باب الجنّة، فيقول الله له: أليس قد أعطيت عهو دك ومواثيقك لا تسألني غير الّذي أعطيتك؟ ويلك يابن آدم ما أغدرك فيقول: أي ربّ، ويدعو الله حتّى يقول له: فهل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره؟
فيقول: لا وعزّتك، فيعطي ربّه ما شاء الله من عهود ومواثيق. فيقدّمه إلى باب الجنّة. فإذا قام على باب الجنّة انفهقت «1» له الجنّة. فرأى ما فيها من الخير والسّرور. فيسكت ما شاء الله أن يسكت ثمّ يقول: أي ربّ أدخلني الجنّة. فيقول الله تبارك وتعالى له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت؟ ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك.
فيقول: أي ربّ لا أكون أشقى خلقك. فلا يزال يدعو الله حتّى يضحك الله تبارك وتعالى منه. فإذا ضحك الله منه، قال ادخل الجنّة. فإذا دخلها قال الله له: تمنّه. فيسأل ربّه ويتمنّى. حتّى إنّ الله ليذكره من كذا «2» وكذا. حتّى إذا انقطعت به الأمانيّ. قال الله تعالى: ذلك لك ومثله معه. قال أبو هريرة: وذلك الرّجل آخر أهل الجنّة دخولا الجنّة) * «3» .
6-
* (عن النّعمان بن بشير- رضي الله عنهما قال: أهدي للنّبيّ صلى الله عليه وسلم عنب من الطّائف فدعاني فقال: «خذ هذا العنقود فأبلغه أمّك» فأكلته قبل أن أبلغه إيّاها. فلمّا كان بعد ليال قال لي: «ما فعل العنقود؟ هل أبلغته أمّك؟» قلت: لا. قال: «فسمّاني غدر» ) * «4» .
7-
* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله «5» : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثمّ غدر، ورجل باع حرّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره) * «6» .
8-
* (عن أبي هريرة- رضي الله عنه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عينا وأمّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاريّ جدّ عاصم بن عمر بن الخطّاب، حتّى إذا كانوا بالهدة بين عسفان ومكّة ذكروا لحيّ من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام، فاقتصّوا آثارهم حتّى وجدوا مأكلهم التّمر في منزل نزلوه، فقالوا: تمر يثرب، فاتّبعوا آثارهم. فلمّا حسّ بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع، فأحاط بهم القوم فقالوا لهم: انزلوا
(1) انفهقت: معناه انفتحت واتسعت.
(2)
ليذكره من كذا وكذا: معناه يقول له: تمن من الشيء الفلاني، ومن الشيء الآخر يسمي له أجناس ما يتمنى.
(3)
البخاري- الفتح 2 (806) . ومسلم (182) واللفظ له..
(4)
ابن ماجة (3368) في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات. إلا أنه في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم عكس ما ذكر ههنا. ففيه أنّ أمه بعثته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقطف من عنب فأكل منه قبل أن يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء به أخذ بأذنه فقال: «يا غدر» .
(5)
أي في الحديث القدسي.
(6)
البخاري- الفتح 4 (2227) .
فأعطوا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدا. فقال عاصم بن ثابت: أيّها القوم. أمّا أنا فلا أنزل في ذمّة كافر، ثمّ قال: اللهمّ أخبر عنّا نبيّك صلى الله عليه وسلم: فرموهم بالنّبل فقتلوا عاصما، ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق. منهم خبيب وزيد بن الدّثنة ورجل آخر. فلمّا استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيّهم فربطوهم بها. قال الرّجل الثّالث: هذا أوّل الغدر. والله لا أصحبكم؛ إنّ لي بهؤلاء أسوة. يريد القتلى فجرّروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم. فانطلق بخبيب وزيد بن الدّثنة حتّى باعوهما بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيبا- وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر فلبث خبيب عندهم أسيرا حتّى أجمعوا قتله- فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحدّ بها، فأعارته، فدرج بنيّ لها وهي غافلة حتّى أتاه، فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده. قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب.
فقال: أتخشين أن أقتله؟. ما كنت لأفعل ذلك.
قالت: والله ما رأيت أسيرا قطّ خيرا من خبيب، والله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده وإنّه لموثق بالحديد، وما بمكّة من ثمرة- وكانت تقول: إنّه لرزق رزقه الله خبيبا- فلمّا خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحلّ قال لهم خبيب: دعوني أصلّي ركعتين فتركوه فركع ركعتين فقال: لولا أن تحسبوا أنّ ما بي جزع لزدت، ثمّ قال: اللهمّ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا. ثمّ أنشأ يقول:
فلست أبالي حين أقتل مسلما
…
على أيّ جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
…
يبارك على أوصال شلو ممزّع
ثمّ قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله.
وكان خبيب هو سنّ لكلّ مسلم قتل صبرا الصّلاة.
وأخبر- يعني النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أصيبوا خبرهم. وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت وحين حدّثوا أنّه قتل- أن يؤتوا بشيء منه يعرف، وكان قتل رجلا عظيما من عظمائهم فبعث الله لعاصم مثل الظّلّة من الدّبر «1» فحمته من رسلهم، فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئا» ) * «2» .
9-
* (عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا وساق معه الهدي سبعين بدنة وكان النّاس سبعمائة رجل فكانت كلّ بدنة عن عشرة، قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبيّ فقال يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النّمور يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وهذا خالد بن
(1) فبعث على عاصم مثل الظلة من الدبر: الدبر، هو بسكون الباء: النحل، وقيل الزنابير. والظلة: السحاب.
(2)
البخاري- الفتح 7 (3989) .
الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب.
ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر النّاس؛ فإن أصابوني كان الّذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وفرون، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة؟ فماذا تظنّ قريش؟ والله إنّي لا أزال أجاهدهم على الّذي بعثني الله له حتّى يظهره الله، أو تنفرد هذه السّالفة» ، ثمّ أمر النّاس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه على ثنيّة المرار والحديبية من أسفل مكّة. قال فسلك بالجيش تلك الطّريق؛ فلمّا رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم نكصوا راجعين إلى قريش فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى إذا سلك ثنيّة المرار بركت ناقته فقال النّاس خلأت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خلأت، وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكّة. والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطّة يسألوني فيها صلة الرّحم إلّا أعطيتهم إيّاها. ثمّ قال للنّاس انزلوا. فقالوا يا رسول الله ما بالوادي من ماء ينزل عليه النّاس. فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه فجاش بالماء بالرّواء حتّى ضرب النّاس عنه بعطن، فلمّا اطمأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة، فقال لهم كقوله لبشير بن سفيان.
فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش إنّكم تعجلون على محمّد، وإنّ محمّدا لم يأت لقتال إنّما جاء زائرا لهذا البيت معظّما لحقّه. فاتّهموهم. قال محمّد- يعني ابن إسحاق- قال الزّهريّ: وكانت خزاعة في عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها لا يخفون على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كان بمكّة. قالوا وإن كان إنّما جاء لذلك. فلا والله لا يدخلها أبدا علينا عنوة. ولا تتحدّث بذلك العرب، ثمّ بعثوا إليه مكرز ابن حفص بن الأخيف أحد بني عامر بن لؤيّ فلمّا انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ممّا كلّم به أصحابه. ثمّ رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبعثوا إليه الحلس بن علقمة الكنانيّ. وهو يومئذ سيّد الأحابيش- فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «هذا من قوم يتألّهون فابعثوا الهدي في وجهه» فبعثوا في وجهه الهدي. فلمّا رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محلّه رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى. فقال: يا معشر قريش قد رأيت ما لا يحلّ صدّه. الهدي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محلّه، فقالوا: اجلس إنّما أنت أعرابيّ لا علم لك. فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثّقفيّ فقال: يا معشر قريش إنّي قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمّد إذا جاءكم من التّعنيف وسوء اللّفظ، وقد عرفتم أنّكم والد وإنّي ولد، وقد سمعت بالّذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثمّ جئت حتّى آسيتكم بنفسي. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتّهم.
فخرج حتّى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه فقال: يا محمّد جمعت أوباش النّاس ثمّ جئت بهم لبيضتك لتفضّها. إنّها قريش قد خرجت معها العوذ
المطافيل. قد لبسوا جلود النّمور يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا. وايم الله لكأنّي بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا. قال: وأبوبكر الصّدّيق- رضي الله تعالى عنه- خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد فقال: امصص بظر اللّات. أنحن ننكشف عنه؟ قال: من هذا يا محمّد؟ قال: هذا ابن أبي قحافة. قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ولكن هذه بها. ثمّ تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد- قال يقرع يده ثمّ قال: امسك يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل- والله- لا تصل إليك. قال: ويحك ما أفظّك وأغلظك؟
قال: فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: من هذا يا محمّد؟
قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة قال؟ أغدر. هل غسلت سوأتك إلّا بالأمس؟ قال: فكلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما كلّم به أصحابه فأخبره أنّه لم يأت يريد حربا. قال: فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه: لا يتوضّأ وضوءا إلّا ابتدروه، ولا يبسق بساقا إلّا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلّا أخذوه. فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش إنّي جئت كسرى في ملكه وجئت قيصر والنّجاشيّ في ملكهما، والله ما رأيت ملكا قطّ مثل محمّد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم.
قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل ذلك بعث خراش بن أميّة الخزاعيّ إلى مكّة وحمله على جمل له يقال له الثّعلب، فلمّا دخل مكّة عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش فمنعهم الأحابيش حتّى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عمر ليبعثه إلى مكّة فقال: يا رسول الله إنّي أخاف قريشا على نفسي وليس بها من بني عديّ أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إيّاها وغلظتي عليها، ولكن أدلّك على رجل هو أعزّ منّي، عثمان بن عفّان. قال:
فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه إلى قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب، وأنّه جاء زائرا لهذا البيت معظّما لحرمته.
فخرج عثمان حتّى أتى مكّة، ولقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابّته، وحمله بين يديه وردف خلفه، وأجاره حتّى بلّغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلق عثمان حتّى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلّغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به. فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به. فقال: ما كنت لأفعل حتّى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله والمسلمين أنّ عثمان قد قتل. قال محمّد:
فحدّثني الزّهريّ أنّ قريشا بعثوا سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤيّ، فقالوا: ائت محمّدا فصالحه، ولا يكون في صلحه إلّا أن يرجع عنّا عامه هذا، فو الله لا تتحدّث العرب أنّه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتاه سهيل ابن عمرو فلمّا رآه النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: قد أراد القوم الصّلح حين بعثوا هذا الرّجل. فلمّا انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلّما، وأطالا الكلام، وتراجعا حتّى جرى بينهما الصّلح. فلمّا التأم الأمر، ولم يبق إلّا الكتاب وثب عمر ابن الخطّاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبابكر أو ليس برسول الله صلى الله عليه وسلم أو لسنا بالمسلمين أو ليسوا بالمشركين؟
قال بلى. قال فعلام نعطي الذّلّة في ديننا؟ فقال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه حيث كان؛ فإنّي أشهد أنّه
رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد، ثمّ أتى رسول الله فقال يا رسول الله أو لسنا بالمسلمين أو ليسوا بالمشركين؟ قال:«بلى» قال فعلام نعطي الذّلّة في ديننا؟ فقال: «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيّعني» . ثمّ قال عمر ما زلت أصوم وأتصدّق وأصلّي وأعتق من الّذي صنعت مخافة كلامي الّذي تكلّمت به يومئذ حتّى رجوت أن يكون خيرا. قال ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم» . فقال سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهمّ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اكتب باسمك اللهمّ هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو» .
فقال سهيل بن عمرو: لو شهدت أنّك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها النّاس، ويكفّ بعضهم عن بعض على أنّه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن أتى قريشا ممّن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردّوه عليه، وإنّ بيننا عيبة مكفوفة إنّه لا إسلال ولا إغلال، وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب أنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن مع عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، وتواثبت بنوبكر فقالوا
…
في عقد قريش وعهدهم وإنّك ترجع عنّا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكّة، وإنّه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك، وأقمت فيهم ثلاثا معك سلاح الرّاكب لا تدخلها بغير السّيوف في القرب. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب إذ جاءه أبو جندل بن سهيل بن عمرو في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلمّا رأوا من الصّلح والرّجوع وما تحمّل رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه دخل النّاس من ذلك أمر عظيم حتّى كادوا أن يهلكوا. فلمّا رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه، ثمّ قال يا محمّد: قد لجّت القضيّة بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت. فقام إليه فأخذ بتلبيبه «1» قال:
وصرخ أبو جندل بأعلى صوته يا معاشر المسلمين:
أتردونني إلى أهل الشّرك فيفتنوني فى ديني؟ قال: فزاد النّاس شرّا إلى ما بهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا جندل: اصبر واحتسب؛ فإنّ الله- عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا.
إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدا، وإنّا لن نغدر بهم» قال فوثب إليه عمر بن الخطّاب مع أبي جندل فجعل يمشي إلى جنبه وهو يقول: اصبر أبا جندل فإنّما هم المشركون، وإنّما دم أحدهم دم كلب. قال: ويدني قائم السّيف منه قال: يقول رجوت أن يأخذ السّيف
(1) يقال لبّبه: أخذ بتلبيبه وتلابيبه إذا جمعت ثيابه عند نحره وصدره ثم جررته. (لسان العرب (مادة لبب) .
فيضرب به أباه. قال: فضنّ الرّجل بأبيه، ونفذت القضيّة فلمّا فرغا من الكتاب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي في الحرم وهو مضطرب في الحلّ قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيّها النّاس انحروا واحلقوا» . قال:
فما قام أحد. قال: ثمّ عاد بمثلها فما قام رجل حتّى عاد بمثلها فما قام رجل، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على أمّ سلمة فقال:«يا أمّ سلمة ما شأن النّاس؟» . قالت:
يا رسول الله قد دخلهم ما قد رأيت فلا تكامن منهم إنسانا. واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق فلو قد فعلت ذلك فعل النّاس ذلك. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلّم أحدّا حتّى أتى هديه فنحره، ثمّ جلس فحلق فقام النّاس ينحرون ويحلقون. قال:
حتّى إذا كان بين مكّة والمدينة في وسط الطّريق فنزلت سورة الفتح» ) * «1» .
10-
* (عن بريدة- رضي الله عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سريّة «2» ، أوصاه في خاصّته «3» بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا. ثمّ قال:«اغزوا باسم الله في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغلّوا «4» ، ولا تغدروا «5» ، ولا تمثّلوا «6» ، ولا تقتلوا وليدا «7» ، وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) .
فأيّتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم. ثمّ ادعهم إلى الإسلام «8» ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، ثمّ ادعهم إلى التّحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنّهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحوّلوا منها فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الّذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلّا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فسلهم الجزية. فإن هم أجابوك فاقبل منهم، وكفّ عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمّة الله «9» وذمّة نبيّه فلا تجعل لهم ذمّة الله ولا ذمّة نبيّه، ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أصحابك، فإنّكم أن تخفروا «10» ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمّة الله وذمّة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن
(1) أحمد (4/ 323، 224، 225، 226) واللفظ له. وأصله عند البخاري الفتح 7 (4180) وعند مسلم (1807) من حديث سلمة بن الأكوع.
(2)
سرية: وهي قطعة من الجيش تخرج منه تغير وتعود إليه. قال إبراهيم الحربي: هي الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها. قالوا: سميت سرية لأنها تسري في الليل ويخفى ذهابها. وهي فعيلة بمعنى فاعلة. يقال: سرى وأسرى، إذا ذهب ليلا.
(3)
في خاصته: أي في حق نفس ذلك الأمير خصوصا.
(4)
ولا تغلوا: من الغلول. ومعناه الخيانة في الغنم. أي لا تخونوا في الغنيمة.
(5)
ولا تغدروا: أي ولا تنقضوا العهد.
(6)
ولا تمثلوا: أي لا تشوهوا القتلى بقطع الأنوف والآذان.
(7)
وليدا: أي صبيا، لأنه لا يقاتل.
(8)
ثم ادعهم إلى الإسلام: هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم: ثم ادعهم. قال القاضي عياض رحمه الله: صواب الرواية: ادعهم، بإسقاط ثم. وقد جاء بإسقاطها على الصواب في كتاب أبي عبيد وفي سنن أبي داود وغيرهما لأنه تفسير للخصال الثلاث، وليست غيرها. وقال المازريّ: ليست ثم، هنا زائدة. بل دخلت لاستفتاح الكلام والأخذ.
(9)
ذمة الله: الذمة، هنا، العهد.
(10)
أن تخفروا: يقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده. وخفرته أمنته وحميته.
تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنّك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» ) * «1» .
11-
* (عن أبي سعيد- رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكلّ غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره. ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامّة» ) * «2» .
12-
* (عن نافع قال: لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال: إنّي سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «ينصب لكلّ غادر لواء يوم القيامة، وإنّا قد بايعنا هذا الرّجل على بيع الله ورسوله، وإنّي لا أعلم أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثمّ ينصب له القتال، وإنّي لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلّا كانت الفيصل بيني وبينه» ) * «3» .
13-
* (عن جابر- رضي الله عنه قال: لمّا رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر قال: «ألا تحدّثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟» قال فتية منهم: بلى يا رسول الله! بينا نحن جلوس، مرّت بنا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلّة من ماء. فمرّت بفتى منهم. فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثمّ دفعها: فخرّت على ركبتيها. فانكسرت قلّتها. فلمّا ارتفعت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم، يا غدر إذا وضع الله الكرسيّ، وجمع الأوّلين والآخرين، وتكلّمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك، عنده غدا. قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقت. صدقت. كيف يقدّس الله أمّة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم» ) * «4» .
14-
* (عن رفاعة بن شدّاد القتبانيّ قال:
لولا كلمة سمعتها من عمرو بن الحمق الخزاعيّ لمشيت فيما بين رأس المختار وجسده. سمعته يقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أمّن رجلا على دمه فقتله فإنّه يحمل لواء غدر يوم القيامة» ) * «5» .
(1) مسلم (1731) .
(2)
مسلم (1738) واللفظ له. وعند البخاري (3188) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(3)
البخاري- الفتح 13 (7111) واللفظ له. وعند مسلم (1735) ما عدا كلام الراوي.
(4)
ابن ماجة (4009)، وفي الزوائد: اسناده حسن. وسعيد بن سويد مختلف فيه، وأخرجه أبو يعلي (2003) وله شاهد عند البزار (1596) والبيهقي في السنن (6/ 95)(10/ 94) وابن حبان في صحيحه (5058) .
(5)
أحمد: 5/ 223، 224، 437، وابن ماجه (2688) . واللفظ له. وفي الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات. إلّا رفاعة بن شداد، أخرجه النسائي في سننه ووثقه وذكره ابن حبان في الثقات. وباقي رجال الإسناد على شرط مسلم. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 285) : وقال: رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات.