الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني
قال الرازي: فيما عدا التواتر؛ من الطرق الدالة على كون الخبر صدقًا:
القول في الطرق الصحيحة، وهى ثمانية:
الأول: الخبر الذي عرف وجود مخبره بالضرورة.
الثاني: الخبر الذي عرف وجود مخبره بالاستدلال.
الثالث: خبر الله- تعالي- صدق، باتفاق أرباب الملل والأديان، ولكنهم اختلفوا في الدلالة عليه؛ بحسب اختلافهم في مسألتي الحسن والقبح والمخلوق، أما أصحابنا، فقد قال الغزالي- رحمه الله: يدل عليه دليلان: أقواهما: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن امتناع الكذب على الله- تعالى- والثاني: أن كلامه- تعالى- قائم بذاته، ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل؛ إذا الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم، والجهل على الله تعالى محال.
ولقائل أن يتعرض على الأول: بأن العلم بصدق الرسول موقوف على دلالة المعجزة على صدقه صلى الله عليه وسلم، وذلك إنما كان؛ لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول.
وإذا كان صدق الرسول صلى الله عليه وسلم مستفادًا من تصديق الله تعالى إياه، وذلك إنما يدل أن لو ثبت أن الله صادق؛ إذا لو جاز الكذب عليه، لم يلزم من تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم كونه صادقًا.
فإذن: العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم موقوف على العلم بصدق الله تعالى، فلو استفدنا العلم بصدق الله تعالى من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، للزم الدور.
فإن قلت: لا نسلم أن دلالة تصديق الله تعالى للرسول على كونه صادقًا يتوقف على العلم بكون الله تعالى صادقًا؛ لأن قوله للشخص المعين: (أنت رسولي) جار مجرى قول الرجل لغيره: (أنت وكيلي) فإن هذه الصيغة، وإن كانت إخبارًا في الأصل؛ لكنها إنشاء في المعنى، والإنشاء لا يتطرق إليه التصديق والتكذيب.
وإذا كان كذلك، فقول الله تعالى للرجل المعين:(أنت رسولي) يدل على رسالته، سواء قدر أن الله تعالى صادق، أو لم يقدر ذلك. وعلى هذا ينقطع الدور.
قلت: هب أن قوله في حق الرسول المعين: (إنه رسولي) إنشاء ليس يحتمل الصدق والكذب؛ لكن الإنشاء تأثيره في الأحكام الوضعية، لا في الأمور الحقيقة، وإذا كان كذلك، لم يلزم من قول الله تعالى له:(أنت رسولي) أن يكون الرسول صادقًا في كل ما يقول؛ لأن كون ذلك الرجل صادقًا أمر حقيقي، والأمور الحقيقة لا تختلف باختلاف الجعل الشرعي.
فإذن: لا طريق إلى معرفة كون الرسول صادقًا فيما يخبر عنه، إلا من قبل كون الله تعالى صادقًا؛ وحينئذ يلزم الدور.
وعلى الثاني: أن البحث في أصول الفقه غير متعلق بالكلام القائم بذات الله تعالى، الذي ليس بحرف، ولا صوت، بل عن الكلام المسموع الذي هو الأصوات المقطعة؛ وإذا كان كذلك، لم يلزم من كون الكلام القائم بذاته تعالى صدقًا- كون هذا المسموع صدقًا؛ فعلمنا أن هذه الحجة مغالطة.
وأيضًا: يقال: لم قلت: إن الكلام القائم بذاته تعالى صدق؟
قوله: (لأنه تعالى ليس بجاهل، ومن لا يكون جاهلًا، استحال أن يخبر بالكلام النفساني خبرًا كاذبًا):
قلنا: هذه القضية غير بديهية؛ فما البرهان؟
وأما المعتزلة، فهم ظنوا: أن هذا البحث ظاهر على قواعدهم؛ فقالوا: (الكذب قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح):
والاعتراض أن نقول: إن البحث عن أن الله تعالى لا يصح علية الكذب يجب أن يكون مسبوقًا بالبحث عن ماهية الكذب؛ لأن التصديق مسبوق بالتصور؛ فنقول: إما أن يكون المراد من الكذب الكلام الذي لا يكون مطابقًا للمخبر عنه في الظاهر، سواء كان بحيث لو أضمر فيه زيادة، أو نقصان، أو تغيير، صح.
وإما أن يكون المراد منه الكلام الذي لا يكون مطابقًا للمخبر عنه في الظاهر، ولا يمكن أن يضمر فيه ما عنده يصير مطابقًا.
فإن أردتم بالكذب: المعنى الأول، لم يمكنكم أن تحكموا بقبحه، وبأنه لا يجوز ذلك على الله تعالى؛ لأن أكثر العمومات في كتاب الله مخصوص، وإذا كان كذلك، لم يكن ظاهر العموم مطابقًا للمخبر عنه.
وكذا الحذف والإضمار واقعان باتفاق أهل الإسلام في كتاب الله تعالى حتى إنه حاصل في أوله؛ فإن الناس اختلفوا في معنى: {بسم الله الرحمن الرحيم} فمنهم من قدم المضمر، وهو الأمر، أو الخبر، ومنهم من أخره، وكذا {الحمد لله رب العالمين} قالوا: معناه: قولوا: (الحمد لله)، فالإضمار متفق عليه.
ولأن المعتزلة اتفقوا على حسن المعاريض؛ على أنه لا معنى لها إلا الخبر الذي يكون ظاهره كذبًا، ولكنه عند إضمار شرط خاص، وقيد خاص يكون صدقًا، وإذا كان كذلك، ثبت أنه لا يمكن تفسير الكذب الممتنع على الله تعالى بالوجه الأول.
وأما التفسير الثاني: فنقول: نسلم أنه قبيح بتقدير الوقوع، ولكنه غير ممكن الوجود؛ لأنه لا خبر يفرض كونه كذبًا إلا، وهو بحال متى أضمرنا فيه زيادة، أو نقصانًا، صار صدقًا، وعلى هذا التقدير، يرفع الأمان عن جميع ظواهر الكتاب والسنة.
فإن قلت: (لو كان مراد الله غير ظواهرها، لوجب أن يبينها، وإلا كان ذلك تلبيسًا؛ وهو غير جائز.
ولأنا لو جوزنا ذلك، لم يكن في كلام الله تعالى فائدة، فيكون عبثًا؛ وهو غير جائز):
قلت: الجواب عن الأول: ما الذي تريد بكونه تلبيسًا؟
إن عنيت به: أنه تعالى فعل فعلًا لا يحتمل إلا التجهيل والتلبيس، فهذا غير لازم؛ لأنه تعالى، لما قرر في عقول المكلفين: أن اللفظ المطلق جائز أن يذكر، ويراد به المقيد بقيد غير مذكور معه، ثم أكد ذلك بأن بين للمكلف وقوع ذلك في أكثر الآيات والأخبار؛ فلو قطع المكلف بمقتضى الظاهر، كان وقوع المكلف في ذلك الجهل من قبل نفسه، لا من قبل الله تعالى؛ حيث قطع، لا في موضع القطع، وهذا كما يقال في إنزال المتشابهات؛ فإنها، وإن كانت موهمة للجهل،
إلا أنها لما لم تكن متعينًة لظواهرها، بل كان فيها احتمال لغير تلك الظواهر الباطلة، لا جرم كان القطع بذلك تقصيرًا من المكلف، لا تلبيسًا من الله تعالى.
وعن الثاني: أنا لو ساعدنا على أنه لابد لله تعالى في كل فعل من غرض معين؛ لكن لم قلت: إنه لا غرض من تلك الظواهر، إلا فهم معانيها الظاهرة؟ أليس أنه ليس الغرض من إنزال المتشابهات فهم ظواهرها؛ بل الغرض من إنزالها أمور أخرى؛ فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك؟
فإن قلت: (جواز إنزال المتشابهات مشروط بأن يكون الدليل قائمًا على امتناع ما أشعر به ظاهر اللفظ، فما لم يتحقق هذا الشرط، لم يكن إنزال المتشابهات جائزًا):
قلت: لا شك أن إنزال المتشابه غير مشروط بأن يكون الدليل المبطل للظاهر معلومًا للسامع، بل هو مشروط بأن يكون ذلك الدليل موجودًا في نفسه، سواء علمه السامع لذلك المتشابه، أو لم يعلمه.
وإذا كان كذلك، فما لم يعلم السامع أنه ليس في نفس الأمر دليل مبطل لذلك الظاهر، لا يمكنه إجراؤه على ظاهره.
ثم لا يكفي في العلم بعدم الدليل العقلي المبطل للظاهر- عدم العلم بهذا الدليل المبطل؛ لأنا بينا في الكتب الكلامية: أنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء العلم بعدم الشيء.
إذا كان كذلك، فلا ظاهر نسمعه إلا ويجوز أن يكون هناك دليل عقلي، أو نقلى يمنع من حمله على ظاهره، وإذا كان هذا التجويز قائمًا، لم يقع الوثوق بشيء من الظواهر؛ على مذهب المعتزلة ألبتة.
ولما بينا ضعف هذه الطرق، فالذي نعول علية في المسألة: أن الصادق أكمل من الكاذب، والعلم به ضروري، فلو كان الله- تعالى جده، وتقدست أسماؤه- كاذبًا، لكان الواحد منا حال كونه صادقًا أكمل وأفضل من الله تعالى، وذلك معلوم البطلان بالضرورة؛ فوجب القطع بكون الله تعالى صادقًا، وهو المطلوب.
الرابع: خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الغزالي، رحمه الله: دليل صدقه دلالة المعجزة على صدقه، مع استحالة ظهور على يد الكذابين؛ لأن ذلك لو كان ممكنًا، لعجز الله تعالى عن تصديق رسله.
ولقائل أن يقول: إذا كان يلزم من اقتدار الله تعالى على إظهار المعجز على يد الكاذب- عجزه تعالى عن تصديق الرسول- فكذا يلزم من الحكم بعدم اقتداره عليه- عجزه؛ فلم كان نفى أحد العجزين عنه أولى من الآخر؟.
وأيضًا: إذا فرضنا أن الله تعالى قادر على إقامة المعجزة على يد الكاذب، فمع هذا الفرض: إما أن يكون تصديق الرسول ممكنًا، أو لا يكون: فإن أمكن، بطل قوله: إنه يلزم من قدرة الله تعالى على إظهار المعجز على يد الكاذب- عجزه عن تصديق الرسول.
وإن لم يكن ذلك ممكنًا، لم يلزم العجز؛ لأن العجز إنما يتحقق عما يصح أن يكون مقدورًا في نفسه؛ ألا ترى أن الله لا يوصف بالعجز عن خلق نفسه.
وأيضًا: فإذا استحال يقدر الله تعالى على تصديق رسله، إلا إذا استحال منه إظهار المعجزة على يد الكاذب، وجب أن ينظر أولًا: أن ذلك، هل هو محال، أم لا؟ وألا يستدل باقتداره على تصديق الرسل على عدم قدرته على إظهاره على يد الكاذب؛ لأن ذلك تصحيح الأصل بالفرع؛ وهو دور.
وأيضًا: إذا تأملنا، علمنا أن ذلك غير ممتنع؛ لأن قلب العصا حية، لما كان مقدورًا لله تعالى وممكنًا في نفسه، لم يقبح من الله تعالى فعله في شيء من الأوقات، وبشيء من الجهات؛ فبأن قال زيد كاذبًا:(أنا رسول الله) يستحيل أن ينقلب الممكن ممتنعًا، والمقدور معجوزًا.
سلمنا ذلك؛ لكن المعجز يدل على كونه صادقًا في ادعاء الرسالة فقط، أو على صدقه في كل ما أخبر عنه؟!.
الأول مسلم، والثاني ممنوع:
بيانه: أن الرجل إذا أدعى الرسالة، وأقام المعجز، كان المعجز دالا على صدقه فيما ادعاه، وهو كونه رسولًا، لا على صدقه في غير ما ادعاه، فإن الرسول ما ادعى كونه صادقًا في جميع الأمور، أو لا يعلم أنه أدعى الصدق في كل الأمور.
فإذن هذا المطلوب لا يتم إلا بإقامة الدلالة على أنه ادعى كونه صادقًا في جميع ما يخبر عنه، ثم أقام المعجزة عليه، وذلك لا يكفي فيه قيام المعجز على ادعاء الرسالة، وكيف، والعلماء اختلفوا في جواز الصغائر على الأنبياء، بل جوز بعضهم الكبائر عليهم، واتفقوا على جواز السهو والنسيان؟!.
بل الصواب أن يقال: إن ظهر المعجز عقيب ادعاء الصدق في كل ما يخبر عنه، وجب الجزم بتصديقه في الكل؛ وإلا ففي القدر المدعى فقط.
الخامس: خبر كل الأمة عن الشيء يجب أن يكون صدقًا؛ لقيام الدلالة على أن الإجماع حجة.
السادس: خبر الجمع العظيم عن الصفات القائمة بقلوبهم من الشهوة والنفرة لا يجوز أن يكون كذبًا.
وأيضًا: الجمع العظيم البالغ إلى حد التواتر، إذا أخبر واحد منهم عن شيء غير ما أخبر عنه صاحبه، فلا بد، وأن يقع فيها ما يكون صدقًا، ولذلك نقطع بأن الأخبار المروية عنه صلى الله عليه وسلم على سبيل الآحاد- ما هو قوله، وإن كنا لا نعرف ذلك بعينه.
السابع: اختلفوا في أن القرائن، هل تدل على صدق الخبر أم لا؟ فذهب النظام وإمام الحرمين والغزالي إليه، والباقون أنكروه.
احتج المنكرون بأمور:
أولها: أن الخبر مع القرائن التي يذكرها النظام، لو أفاد العلم، لما جاز انكشافه عن الباطل، لكن قد ينكشف عنه؛ لأنا قد علمنا أن الخبر عن موت إنسان مع القرائن التي يذكرها النظام من البكاء عليه، والصراخ، وإحضار الجنازة والأكفان، قد ينكشف عن الباطل؛ فيقال:(إنه أغمى عليه، أو لحقته سكتة، أو أظهر ذلك؛ ليعتقد السلطان موته، فلا يقتله).
فثبت أن هذه القرائن لا تفيد العلم.
الثاني: لو كانت القرائن هي المفيدة للعلم، لجاز ألا يقع العلم عند خبر التواتر؛ لعدم تلك القرائن؛ ولما لم يجز ذلك، بطل قوله.
الثالث: لو وجب العلم عند خبر واحد، لوجب ذلك عند خبر كل واحدٍ، كما أن الخبر المتواتر، لما اقتضاه في موضعٍ، اقتضاه في كل موضعٍ.
والجواب عن الأول: أن الذي ذكرتموه لا يدل إلا على أن ذلك القدر من القرائن لا يفيد العلم، ولا يلزم منه ألا يحصل العلم بشيء من القرائن؛ لأن القدح في صورة خاصة لا يقتضي القدح في كل الصور.
وعن الثاني: أن النظام يلتزم، ويقول: خبر التواتر ما لم تحصل فيه القرائن؛ لم يفد العلم، ومن تلك القرائن أن يعلم أنه ما جمعهم جامع؛ من رغبةٍ، أو رهبةٍ، أو التباسٍ.
سلمنا ذلك؛ لكن لا يلزم من قولنا: (القرائن تفيد العلم) قولنا: (إنها هي المفيدة) وبتقدير أن تكون هي المفيدة؛ فلم قلت: يجوز انفكاك خبر التواتر عنها؟!.
وعن الثالث: أن خبر الواحد إنما يفيد العلم، لا لذاته فقط؛ بل بمجموع القرائن؛ فمتى حصل ذلك المجموع، مع أي خبرٍ كان، أفاد العلم.
وأيضًا: فالعلم الحاصل عقيب خبر التواتر عندكم حاصل بالعادة؛ فيجوز أيضًا أن يكون حصوله عقيب القرائن بالعادة، وإذا كان كذلك، جاز أن تكون هذه العادة مختلفة، وإن كانت مطردة في التواتر.
والمختار: أن القرينة قد تفيد العلم، إلا القرائن؛ لا تفي العبارات بوصفها؛ فقد تحصل أمور يعلم بالضرورة عند العلم بها كون الشخص خجلًا، أو وجلًا، مع أنا لو حاولنا التعبير عن جميع تلك الأمور، لعجزنا عنه، والإنسان إذا أخبر عن كونه عطشان، فقد يظهر على وجهه ولسانه من أمارات العطش ما يفيد بكونه صادقًا، والمريض إذا أخبر عن ألمٍ في بعض أعضائه، مع أنه يصيح،
وترى عليه علامات ذلك الألم، ثم إن الطبيب يعالجه بعلاج، لو لم يكن المريض صادقًا في قوله، لكان ذلك العلاج قاتلًا له، فهاهنا يحصل العلم بصدقه.
وبالجملة: فكل من استقرأ العُرف، عرف أن مستند اليقين في الأخبار، ليس إلا القرائن؛ فثبت أن الذي قاله النظام حق.
(الباب الثاني)
في غير التواتر الدال على الصدق مثال، الضروري الإخبار
مثال الاستدلال الإخبار عن كون العالم حادثًا
قال القرافي: قوله: اختلف أرباب الملل في الاستدلال على حسب اختلافهم في مسألتي الحسن والقبح والمخلوق):
تقريره: (أن الكلام هاهنا إنما هو في الكلام اللساني لا في النفساني، واختلف الناس في لفظ القرآن هل هو مخلوق أم لا؟ وفي الحسن والقبح العقليين، فمن قال بهما قال: الكذب قبيح، لما فيه من الإبهام والتضليل عن المصالح.
ومن قال: إن الله- تعالى- له هداية الخلق أجمعين، وإضلالهم أجمعين لا يسأل عما يفعل- وهو مذهبنا- جوز أن يخلق أصواتًا في بعض مخلوقاته غير مطابقة، فيخلق في بعض الأحساب النطق بقول تلك الحيثية: الواحد نصف العشرة، ولفظ القرآن كله مخلوق في جبريل- عليه السلام عندنا، ولا امتناع في خلق الكذب؛ فإن كل كذب في العالم عندنا مخلوق الله- تعالى- لأنه الخالق لكل شيء. هذا وجه التفريع على القبح العقلي، وأما المخلوق، فالمراد أن لفظ القرآن مخلوق أم لا؟ فمن قال إن: لفظ القرآن صفة ذاته، كما مذهب الحشوية وجماعة منهم، استحال فيه الكذب.
ومن قال: إنه ليس صفة ذاته؛ بل مخلوق في عباده جوز بالتفسير المتقدم، وكل من جوز ذلك لعدم قوله بالقبح، أو لاعتقاده أن لفظ القرآن مخلوق في الخلق، قال بالاستحالة لوجه آخر، وهو قرائن السياق، وتكرر الآيات وأمور حالية ومقالية أفادت القطع بأن المراد بالخبر ما يطابقه، ولهذا قال: كلام الله- تعالى- صدق باتفاق أهل الملل، مع أن الخلاف بينهم في القبح والمخلوق، فقد اتفقوا على المقصد، واختلفوا في المدرك الدال على ذلك.
قوله: (يستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل الجهل عليه).
تقريره: أن الله- تعالى- بكل شيء عليم، وتقرر في أصول الدين أن كل عالم يخبر عن معلومه، وذلك في غاية الظهور في العلوم التصديقية؛ لأنا إذا حكمنا أن العالم حادث، فلا بد أن يقوم بنفوسنا إسناد الحدوث إلى العالم، والإسناد خبر، فنحن مخبرون؛ لأنا عالمون.
وأما في العلوم التصويرية فإنا إذا تصورنا حقيقية العالم، فلا بد أن نعلم أنا متصورون للعالم، أو يجوز علينا أن نعلم ذلك، والجائز في حق الله- تعالى- ذاته واجب الوقوع له، فيجب أن يعلم أن الله- تعالى- عالم بحقيقة العالم، وهذا تصديق، فقد تقدم تقرير لزوم الخبر له، فعلمنا أن الخبر لازم لمطلق العلم في حق الله- تعالى- كان العلم علمًا بالمفردات، أو بالتصديقات، فظهر وجوب قيام الصدق بذات الله- تعالى- على وفق العلم، فلو فرضنا ضده به إما أن يكون العلم بخلافه، فيلزم اجتماع الضدين وهو محال، أو لا مع العلم، فيلزم الجهل، وهو محال.
قوله: (المعجز في حق الرسول- عليه السلام قائم مقام التصديق).
تقريره: أن العلماء اختلفوا في المعجزة هل هي قائمة مقام التصديق، أو تدل على الصدق فقط لا على تصديق غيره؟ وتقريره بالمثال الذي ذكروه أن الملك العظيم الجلالة والأبهة والعظمة إذا قام أحد في مجلسه بمحضر رعيته،
وقال: أيها الملك إني قلت لهذه الرعية: إني رسولك إليهم، فطلبوا مني دليلًا على صدقي في ذلك، وأنا أسألك أن تخالف عادتك، وتضع تاجك عن رأسك، أو تتحرك بحركة لم يجر عادتك بها، ففعل الملك ذلك عند سماع قوله، والرعية تعلم أنه سمعه في دعواه الرسالة عليه، وسؤاله ذلك منه، فإن الرعية عقيب ذلك الفعل يحصل لها العلم الضروري، بل الملك إنما فعل ذلك لإجابة دعوته، وأنه صدقه في دعواه عليه، فقد قام فعله مقام قوله:(صدق هذا في دعواه)، فهذا وجه قيام المعجزة مقام التصديق، أن الخارق قرينة تفيد في مجرى العادة القطع بصدق الرسول، وأنه لو لم يكن صادقًا لما خرق العوائد مضافًا إلى قرائن الأحوال من سجاياه الكريمة، وفرط ميله إلى الصدق بطبعه، وفرط نفوره من الكذب، وزهده في الدنيا، وبعده عن طلب الرئاسة إلى غير ذلك من القرائن الحالية التي هي وحدها تفيد العلم بصدقه، ولذلك لم يحتج الصديق- رضي الله عنه في إيمانه غيرها، فقال له: أبعثت؟ فقال: نعم. قال: صدقت؛ لعلمه بأنه بالضرورة لا يقول إلا حقًا، وبهذه القرائن يحصل الفرق بين النبي والساحر وغيره، والقرينة قد تدل على صدق القائل، وإن لم تدل على تصديق غيره له، فإن من ادعى أنه تقدم له مرض، ورأيناه اشتد هزاله واصفراره، وضعف قواه إلى غير ذلك من هذه القرائن المفيدة للعلم قطعنا بصدقه، وإن لم يصدقه غيره، فعلمنا أن القرينة قد تفيد الصدق دون التصديق، ولما كان التصديق هو الإخبار عن الصدق توقف على كون المصدق لغيره متكلمًا، فلا يلزم الدور الذي قال: إنه يلزم من الاستدلال بالنبوة على صدق الرسل الدور، وأما الصدق فلا يلزم منه الدور؛ لأنه يثبت، سواء فرض المدعى عليه الرسالة متكلمًا صادقًا أم لا.
فإن قلت: الرسالة لا تكون إلا كلامًا، فغير المتكلم لا تتأتى منه الرسالة، فالصدق حينئذ يتوقف على الكلام على التقديرين، فيلزم الدور على التقديرين.
قلت: الرسالة تتوقف على الكلام، والدور إنما لزم من توقف الرسالة على صدق المرسل لا على كونه متكلمًا، والرسالة قد تكون أوامر ونواهي، فلا يدخلها الصدق والكذب؛ لأنهما من خصائص الأخبار، ولو فرض المرسل لشخص ما أرسله بأخبارات كاذبة صحت الرسالة، وصدق الرسول، وإن كان مرسله غير صادق، فعلمنا أن الدور إنما يكون من توقف صدق المرسل على صدق الرسول وبالعكس، أما من توقف الرسالة والصدق فيها على الكلام فلا.
قوله: (الرسالة تقوم مقام قول القائل: أنت وكيلي، وهذا إنشاء لا يدخله التصديق والتكذيب).
تقريره: أن قوله: (أنت وكيلي) كقوله: بعت واشتريت، فكما أن بعت واشتريت لا يقبل التصديق، فكذلك أنت وكيلي، وقد تقدم الفرق بين الإخبار والإنشاء من ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن الخبر يقبل التصديق والتكذيب، بخلاف الإنشاء.
ثانيها: أن الخبر تابع لمدلوله، والإنشاء يتبعه مدلوله.
ثالثها: أن الإنشاء سبب لمدلوله، والخبر لا يكون سببًا للمخبر عنه، فإن (بعت واشتريت) سبب لذلك وبيعه الملك.
وقولنا: (قام زيد) ليس سببًا لقيامه، وهو يتبع قيامه.
قوله: (كون الرسول- عليه السلام صادقًا من الأوصاف الحقيقية، فلا يختلف بالجعل الشرعي، فلا طريق إلى صدق الرسول إلا بصدق المرسل، فيلزم الدور).
قلنا: مسلم أن الصفة الحقيقية لا تقبل التغير من حيث الأحكام الشرعية، وإن قبلته من جهة تأثير القدرة في خلو ضدها، لكن لا يلزم حينئذٍ انحصار طرق الصدق في تصديق المرسل، بل بالقرائن الحالية كما تقدم بيانه.
قوله: (قولكم: الحكم إنما يكون ممن يتصور منه الجهل ليست قضية بديهية فما البرهان؟):
قلنا: قد تقدم أنه لو لم يكن منشأ عن الجهل كان مع العلم، والعلم يلزمه الإخبار للصدق، فيجتمع الضدان، فهذا برهان على ذلك.
قوله: (اختلفوا في الضمير في (بسم الله الرحمن الرحيم):
تقريره: أن الجار والمجرور لا بد له من عامل، واختلف في ذلك العامل فقال البصريون: يضمر مبتدأ تقديره ابتداء في بسم الله الرحمن الرحيم.
وقال الكوفيون: يضمر فعل تقديره: ابتدائي بسم الله الرحمن الرحيم.
وقيل: يضمر أمر تقديره: ابتدئوا بسم الله الرحمن الرحمين.
وقيل: لا بضمر إلا متأخرًا من جنس الفعل الذي يبسمل لأجله، فإن كان يأكل قال: بسم الله آكل، أو ينام قال: بسم الله أنام. وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يرجح هذا من وجهين:
الأول: أنه الوارد في السنة في قوله عليه السلام: (اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت، اللهم باسمك ربى وضعت جنبي، وباسمك أرفعه) كان يقول ذلك عند النوم.
والثاني: أن إضمارهم للابتداء، و (أبتدئ) إنما يتناول الفعل؛ لأنه
مبتدؤه، ويبقى بقية الفعل عريًا عن البركة، وعلى ما ذكرناه تكون البركة كاملة لجميعه، فهذه ثلاثة تقديرات خبر، وتقدير أمر.
قوله: (الصادق أكمل من غير الصادق):
قلنا: البحث إنما هو هاهنا عن الكلام اللساني، وقد تقدم أن خلقه غير مطابق من الجائزات على الله تعالى، وما ذكرتموه ينفي جوازه، فيكون باطلًا، ثم ما ذكرتموه ينتقض بأن الذي يغفر أفضل من الذي لا يغفر، والذي يعطى أفضل من الذي لا يعطى، والله- تعالى- قد لا يعطى، وقد لا يغفر، فيلزم أن يكون أحدهما أكمل، وذلك محال، فيلزم أن يكون عدم المغفرة، وعدم العطاء من الله- تعالى- محالًا، ولم يقل أحد به، فيتعين إنما كان من قبيل الجائزات على الله- تعالى- لا يصح ذلك فيه أصلًا، فلا يصح في صورة النزاع لما تقدم أنه من الجائزات.
قوله: (خبر الجم الغفير عن الصفات القائمة بقلوبهم من الشهوة والنفرة لا يجوز أن يكون كذبًا):
تقريره: أنهم إذا أخبروا عن كونهم ينفرون من هذا الشيء المعين، أفاد ذلك القطع بأن هذا الشيء اشتمل على ما يوجب النفرة عنه، وكذلك يجب اشتماله على ما هو يوجب أن يشتهي إن أخبروا عن أنهم يشتهونه، ولولا هذا الحرف فسد هذا الوضع؛ لأن كل واحد منهم إذا أخبر عن شهوة نفسه، أو نفرتها، فمخبر كل واحد منهم غير مخبر الآخر، فلا يحصل القطع بشيء من تلك الشهوات، ولا تلك النفرات؛ لأنه لم يجتمع في واحد منها اثنان، أو يحمل على أن فيهم من صدق فيما أخبر به من الشهوة قطعًا؛ لاستحالة اجتماعهم على الكذب بأجمعهم، وهو الذي تطابق تمثيله بالرواية عن النبي عليه السلام.