الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلنا: وقد تقدم أنَّ المراد من كل دليل ظني من أدلة أصول الفقه هو يقيد إضافته لما معه من الأدلة الناشئة عن الاستقراء التام في جميع السنة والكتاب، وأقضية الصحابة، ومناظراتهم وفتاويهم، ونحو ذلك، فالمجموع المركب من الدليل مع هذه الإضافة يفيد القطع.
(سؤال)
قال النقشواني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم استعمل القياس، ولم يقل: (إن القياس حجة، وبينهما فرق عظيم؛ لأنه عليه السلام إذا استعمل القياس كانت مقدماته سالمة عن المطاعن قطعًا
؛ لوفور اطلاعه عليه السلام فيكون هذا القياس مقدماته قطعية، وهذا لا نزاع فيه، إنما النزاع إذا كانت مقدماته ظنية، وقصورنا عن رتبته يوجب حصول الظن لنا فقط.
قلت: ويمكن أن يقال: إنه عليه السلام لما احتج به على عمر رضي الله عنه دل ذلك على أن أصل القياس مقرر عند عمر، وإذا كان أصل القياس معلومًا عند عمر، كان معلومًا عند الصحابة، فيكون حجة مطلقًا.
ويمكن أن يجاب عنه بأن الذي تقرر عند عمر القياس الذي مقدماته قطعية فقط، وعلم أن هذا القياس كذلك؛ لصدوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه معصومًا عن الخطأ بخلاف غيره.
وهذا السؤال يهدم أكثر الأجوبة والتقريرات في هذا المسلك، والذي بعده.
*
…
*
…
*
المسلك الخامس
قال الرازي: الإجماع؛ وهو الذي عول عليه جمهور الأصوليين؛ وتحريره: أن العمل بالقياس مجمع عليه بين الصحابة، وكل ما كان مجمعًا عليه بين الصحابة، فهو حق؛ فالعمل بالقياس حق.
أما المقدمة الثانية: فقد مر تقريرها في باب الإجماع، وأما المقدمة الأولى: فالدليل عليها أن بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به، ولم يظهر من أحد منهم الإنكار على ذلك، ومتى كان كذلك، كان الإجماع حاصلاً.
فهذه مقدمات ثلاث:
المقدمة الأولى: في بيان أن بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به، والدليل عليه وجوه أربعة:
الوجه الأول: ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري في رسالته المشهورة (اعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك) وهذا صريح في المقصود.
الوجه الثاني: أنهم صرحوا بالتشبيه؛ لأنه روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أنكر على زيد قوله: (الجد لا يحجب الإخوة) فقال: (ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الأب أبًا)؟
ومعلوم أنه ليس مراده تسمية الجد أبًا؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما لا
يذهب عليه، مع تقدمه في اللغة: أن الجد لا يسمى أبًا حقيقة؛ ألا ترى أنه ينفى عنه هذا الاسم؛ فيقال: (إنه ليس أبًا للميت، ولكنه جده) فلم يبق إلا أن مراده: أن الجد بمنزلة الأب في حجبه الإخوة؛ كما أن ابن الابن بمنزلة الابن في حجبهم، وعن على وزيد: أنهما شبهاهما بغصنى شجرةٍ، وجدولى نهرٍ، فعرفا بذلك قربهما من الميت، ثم شركا بينهما في الميراث.
الوجه الثالث: أنهم اختلفوا في كثير من المسائل، وقالوا فيها أقوالاً، ولا يمكن أن تكون تلك الأقوال إلا عن القياس.
وأعلم أن الأصوليين أكثروا من تلك المسائل، إلا أن أظهرها أربع:
إحداها: مسألة الحرام؛ فإنهم قالوا فيها خمسة أقوال: فنقل عن على وزيد وابن عمر رضي الله عنهم: أنه في حكم التطليقات الثلاث، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه في حكم التطليقة الواحدة، إما بائنة أو رجعية؛ على اختلاف بينهم، وعن أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم: أنه يمين تلزم فيه الكفارة، وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه في حكم الظهار، وعن مسروق رحمه الله: أنه ليس بشيء؛ لأنه تحريم لما أحله الله تعالى، فصار كما لو قال: هذا الطعام على حرام، والمرتضى روى هذا القول عن علي رضي الله عنه.
وثانيتها: أنهم اختلفوا في الجد مع الإخوة، فبعضهم ورث الجد مع الإخوة، وبعضهم أنكر ذلك.
والأولون اختلفوا: فمنهم من قال: إنه يقاسم الإخوة، ما كانت المقاسمة خيرًا له من الثلث؛ فأجراه مجرى الأم، ولم ينقص حقه عن حقها؛ لأن له مع الولادة تعصيبًا، ومنهم من قال: إنه يقاسم الإخوة؛ ما كانت المقاسمة خيرًا له من السدس، وأجرأه مجرى الجدة في ألا ينقص حقها من السدس.
وثالثتها: اختلافهم في مسألة (المشتركة) وهي: زوج، وأم وإخوة لأم، وإخوة لأب وأم: حكم عمر رضي الله عنه فيها بالنصف للزوج، وبالسدس للأم، وبالثلث للإخوة من الأم، ولم يعط للإخوة من الأب والأم شيئًا، فقالوا:(هب أن أبانا كان حمارًا، ألسنا من أم واحدة؟) فشرك بينهم وبين الإخوة من الأم في الثلث.
ورابعتها: اختلافهم في الخلع، هل يهدم من الطلاق شيئًا، أو يبقى عدد الطلاق على ما كان، ففي إحدى الروايتين عن عثمان رضي الله عنه: أنه طلاق، والرواية الأخرى: أنه ليس بطلاق، وهو محكى عن ابن عباس.
وإذا عرفت هذه المسائل، فنقول: إما أن يكون ذهاب كل واحد منهم إلى ما ذهب إليه، لا عن طريق، أو عن طريق:
والأول: باطل؛ لأن الذهاب إلى الحكم، لا عن طريق - باطل، فلو اتفقوا عليه كانوا متفقين على الباطل؛ وإنه غير جائز.
وأما إن ذهبوا إليها عن طريق، فذلك الطريق: إما أن يكون هو العقل أو السمع، والأول باطلٌ؛ لأن حكم العقل في المسألة شيء واحدٌ، وهو البراءة الأصلية؛ وهذه أقاويل مختلفة، أكثرها يخالف حكم العقل.
وأما الثاني: فلا يخلو: إما أن يكون ذلك الدليل نصًا، أو غيره:
أما النص: فسواء كان قولاً، أو فعلاً، وسواء كان جليًا أو خفيًا، فالقول به باطل؛ لأنهم لو قالوا بتلك الأقاويل؛ لنص، لأظهروه، ولو أظهروه، لاشتهر، ولو اشتهر، لنقل، ولو نقل، لعرفه الفقهاء والمحدثون، ولما لم يكن كذلك، علمنا أنهم لم يقولوا بتلك الأقاويل؛ لأجل نص.
وإنما قلنا: إنهم لو قالوا بتلك الأقاويل؛ لأجل نص؛ لأظهروه؛ لأنا نعلم بالضرورة: أنه كان من عادتهم إعظام نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم، واستعظام مخالفتها؛ حتى نقلوا منها ما لا يتعلق به حكم؛ كقوله عليه الصلاة والسلام:(نعم الإدام الخل) وكان من عاداتهم أيضًا التفحص عن نصوص الرسول عليه الصلاة والسلام والحث على نقلها إليهم؛ ليتمسكوا بها، إن كانت موافقة لمذاهبهم، أو ليرجعوا عن مذاهبهم، إن كانت مخالفة لها؛ وليس يجوز فيمن هذه عادته - أن يحكم في قضية بحكم لنص، ثم يسكت عن ذكر ذلك النص، وذلك معلوم بالضرورة.
وبهذا الطريق: ثبتت المقدمة الثانية، وهي قولنا: (لو أظهر النص، لاشتهر، ولو اشتهر لنقل، ولو نقل، لعرفه الفقهاء والمحدثون.
وأما أن ذلك لم ينقل: فلأنا بعد البحث التام، والطلب الشديد، والمخالطة للفقهاء والمحدثين: ما وجدنا في ذلك ما يدل على نقلها، وذلك يدل على عدمها؛ فثبت أنهم لم يقولوا بتلك الأقاويل؛ لأجل نص، وإذا بطل ذلك، ثبت أنه لأجل القياس.
الوجه الرابع: نقل عن الصحابة القول بالرأي، والرأي هو القياس؛ وإنما قلنا:(إنهم قالوا بالرأي) لأنه روى عن أبي بكر: أنه قال في الكلالة: (أقول فيها برأيى). وفي الجنين، لما سمع الحديث:(لولا هذا، لقضينا فيه برأينا) وقول عثمان لعمر رضي الله عنهما في بعض الأحكام: (إن اتبعت رأيك، فرأيك رشيد، وإن تتبع رأي من قبلك، فنعم ذو الرأي كان) وعن علي - رضي
الله عنه -: (اجتمع رأيى ورأي عمر في أم الولد على ألا تباع، وقد رأيت الآن بيعهن) وعن ابن مسعود رضي الله عنه في قصة (بروع): (أقول فيها برأيي).
وإنما قلنا: (إن الرأي عبارة عن القياس) لأنه يقال للإنسان: أقلت هذا برأيك، أم بالنص؟ فيجعل أحدهما في مقابلة الآخر؛ وذلك بدل على أن الرأي لا يتناول الاستدلال بالنص، سواء كان جليًا، أو خفيًا؛ فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن بعض الصحابة ذهب إلى القول بالقياس والعمل به.
وأما المقدمة الثانية؛ وهي: أنه لم يوجد من أحدهم إنكار أصل القياس؛ فلأن القياس أصل عظيم في الشرع نفيًا وإثباتًا، فلو أنكر بعضهم، لكان ذلك الإنكار أولى بالنقل من اختلافهم في مسألة الحرام والجد؛ ولو نقل، لاشتهر، ولوصل إلينا، فلما لم يصل إلينا، علمنا أنه لم يوجد، وتقرير مقدمات هذا الكلام ما تقدم مثله في المقدمة الأولى.
وأما المقدمة الثالثة؛ وهي: أنه لما قال بالقياس بعضهم، ولم ينكره أحد منهم، فقد انعقد الإجماع على صحته، فالدليل عليه أن سكوتهم: إما أن يقال: إنه كان عن الخوف، أو عن الرضا:
والأول: باطلٌ؛ لأنا نعلم من حال الصحابة شدة انقيادهم للحق؛ لا سيما فيما لا يتعلق به رغبة ولا رهبة في العاجل أصلاً؛ وذلك يمنع من حمل السكوت على الخوف.
وأيضًا: فلأن بعضهم خالف البعض في المسائل التي حكيناها، ولو كان هناك خوف يمنعهم من إظهار ما فب قلوبهم، لما وقع ذلك؛ فثبت أن سكوتهم كان
عن الرضا، وذلك يوجب كون القياس حجة؛ وإلا لكانوا مجمعين على الخطأ؛ وإنه غير جائز؛ هذا تحرير الأدلة.
فإن قيل: لا نسلم ذهاب أحد من الصحابة إلى القول بالقياس، والوجوه الأربعة المذكورة لا يزيد رواتها على المائة والمائتين، ذلك لا يفيد القطع بالصحة؛ لاحتمال تواطؤ هذا القدر على الكذب؛ كيف والأحاديث التي يتمسك بها أهل الزمان في المسائل الفقهية مشهورة فيما بين الأمة، إلا أن روايتها في الأصل، لما انتهت إلى الواحد والاثنين، لا جرم لم نقطع به؛ فكذا هاهنا.
فإن قلت: الأمة في هذه الروايات على قولين: منهم: من قبلها، واعترف بدلالتها على القياس، ومنهم: من اشتغل بتأويلها؛ وذلك يدل على اتفاقهم على قبولها.
قلت قد مر غير مرة: أن هذا الطريق لا يفيد الجزم بصحتها.
سلمنا صحة هذه الراويات؛ لكن لا نسلم دلالتها على ذهابهم إلى القول بالقياس والعمل به.
وأما الوجه الأول: وهو قول - عمر رضي الله عنه: (اعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك): قلنا: التمسك: إما أن يكون بقوله: (اعرف الأشباه والنظائر) أو بقوله: (قس الأمور برأيك):
أما الأول: فلا حجة فيه؛ لأن الله تعالى، لما نص على حكم كل جنس ونوع، وجب على المستدل معرفة الأشباه والنظائر؛ لئلا يخرج منه ما هو من جنسه،
ولا يدخل فيه ما هو من غير جنسه، وقد يشتبه الشيء بالشيء، فلا بد من التأمل الكثير؛ ليعرف أنه من جنسه، أو من غير جنسه.
وأما الثاني: وهو قوله: (قس الأمور برأيك): فلا يدل أيضًا على الغرض؛ لأن القياس في أصل اللغة: عبارة عن التسوية، فقوله:(قس الأمور برأيك) معناه: اعرض الأشياء على فكرتك وتأملك؛ لأن التفكر في الشيء لا معنى له إلا استحضار علوم، أو ظنون؛ ليتوصل بها إلى تحصيل علوم، أو ظنون، فالمتفكر كأنه يريد التسوية بين المطلوب المجهول، وبين المقدمات المعلومة؛ ليصير المجهول معلومًا.
وهذا التأويل متعين؛ لأن الرأي هو الروية، فقوله:(قس الأمور برأيك) معناه: سو الأشياء برويتك، وتسوية الأشياء بالروية ليست إلا ما ذكرنا؛ فيرجع حاصل الأمر إلى أنه أمره بأن لا يحكم بمجرد التشهي والتمني؛ بل بالاستدلال والنظر، وذلك ليس من القياس الشرعي في شيء.
سلمنا أن المراد منه الأمر بتشبيه الفرع بالأصل؛ لكن يحتمل أن يكون المراد التشبيه في ثبوت ذلك الحكم، وأن يكون المراد منه التسوية في أنه كما لا يثبت حكم الأصل إلا بالنص، فكذا حكم الفرع لا يثبت إلا بالنص؛ فلم قلت: إن الاحتمال الأول أولى من الثاني؟
وأما الوجه الثاني: وهو تشبيه ابن عباس:
قلنا: لم قلت: إن المراد: أنه جمع بين الأمرين بعلة قياسية؟ ولم لا يجوز أن يكون ذلك لأجل أنه كما سمى - النافلة - بالابن مجازًا، واكتفى بهذا الاسم المجازي في اندراج (النافلة) تحت عموم قوله تعالى: {يوصيكم الله في
أولادكم} [النساء: 11]؟ وكذلك سمى الجد أبًا مجازًا؛ حتى يكفي هذا في اندراجه تحت عموم قوله تعالى: {وورثه أبواه} [النساء: 11].
والذي يؤكد هذا الاحتمال: أن ابن عباس نسب زيدًا إلى مفارقة التقوى، وتارك القياس لا يكون كذلك، بل تارك النص يكون كذلك؛ وإنما يكون زيد تاركًا للنص، لو كان الأمر على ما قلنا.
وأما الوجه الثالث: فالكلام عليه: أنه لم لا يجوز أن يقال: إن ذهاب كل واحد إلى ما ذهب إليه في تلك المسائل؛ كان لتمسكه بنص ظنه دليلاً على قوله، سواء أصاب في ذلك الظن، أو أخطأ فيه؟!.
قوله: (لو كان كذلك، لأظهروا ذلك النص، ولاشتهر، ولنقل، ولوصل إلينا، فلما لم يصل إلينا، علمنا عدمه):
قلنا: هذه المقدمات بأسرها ممنوعة.
قوله: (علمنا بالضرورة شدة تعظيمهم لنصوص الرسول عليه الصلاة والسلام ويمتنع ممن هذه حاله أن يحكم بحكم؛ لأجل نص، ثم إنه لا يذكره):
قلنا: لا نسلم أن شدة تعظيمهم للنص يقتضي إظهار النص الذي لأجله ذهبوا إلى ذلك القول.
بيانه: أن شدة التعظيم إنما تقتضي إظهار النص عند الحاجة إلى إظهاره، وهم ما احتاجوا إليه؛ لأن الحاجة: إما أن تكون عند المناظرة، أو مع المستفتي:
والأول: باطلٌ؛ لأنهم لم يجتمعوا في محفلٍ؛ لأجل المناظرة في تلك
المسائل، وما كانت عادتهم جارية بالاجتماع على المناظرات والمجادلات، وأما المستفتي فلا فائدة من ذكر الدليل معه.
سلمنا أن شدة تعظيمهم للنص تقتضي إظهار النص؛ ولكن بشرط أن يكون السامع بحيث يمكنه الانتفاع به، ولم يوجد هذا الشرط هناك؛ لأنه إذا روى ذلك النص، كان ذلك النص خبر واحد في حق السامع، وخبر الواحد ليس بحجة؛ فلا فائدة إذن في إظهار هذا النص.
سلمنا أنه يجب إظهاره؛ ولكن إذا كان النص جليًا، أو مطلقًا، سواءٌ كان جليًا أو خفيًا؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع:
بيانه: أن الإنسان إنما يدعوه الداعي إلى إظهار دليل مذهبه، إذا كان ذلك الدليل ظاهرًا قويًا؛ أما إذا كان خفيًا، فقد لا يدعوه الداعي إلى إظهاره. وبالجملة: فأنتم المستدلون، فعليكم إقامة الدلالة على أنه يجب إظهاره، سواء كان قويًا أو ضعيفًا.
سلمنا ما ذكرتموه؛ لكن نعارضه؛ فنقول: لو كان ذهابهم إلى مذاهبهم لأجل القياس، لوجب عليهم إظهاره؛ ولكن لم ينقل عن أحد من الصحابة القياس الذي لأجله ذهب إلى ما ذهب إليه.
فإن قلت: (الفرق: أن القياس لا يجب اتباع العالم فيه، والنص يجب اتباعه فيه:
قلت: القياس إذا كان ظاهرًا جليًا، فلا نسلم أنه لا يجب الاتباع فيه، ولولا ذلك، لما حسنت المناظرة فيه بين القائسين.
سلمنا أنهم لو تمسكوا بالنصوص، لأظهروها؛ فلم قلت: إنهم لو أظهروها،
لاشتهر؟ فإن ذلك ليس من الوقائع العظام التي يمتنع ألا تتوفر الدواعي على نقلها.
فإن قلت: (لما توفرت دواعيهم على نقل مذاهبهم، مع أنه لا فائدة فيها؛ فلأن تتوفر دواعيهم على نقل تلك الأدلة، مع ما فيها من الفوائد - كان أولى):
قلت: إنا لم نقل: إن الأمور التي لا تكون عظيمة يمتنع نقلها؛ حتى يكون ما ذكرتموه لازمًا علينا، بل قلنا: إنه لا يجب نقلها، ولا يمتنع أيضًا.
سلمنا أنه من الوقائع العظيمة؛ لكن لم قلت: إنه يجب نقله؟ والدليل عليه: أن معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم على جلالة قدرها، وأمر الإقامة في الإراد والتثنية على نهاية ظهورها، لم ينقله إلا الواحد والاثنان، وإذا جاز ذلك، فلم لا يجوز ألا ينقله ذلك الواحد أيضًا؟.
سلمنا أنها لو اشتهرت، لنقلت؛ لكن لا نسلم أنها ما نقلت.
قوله: (لو نقلت، لعرفناها):
قلنا: إما أن تدعيَ أنَّ كل ما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه، فلا بد وأن تعلمه أنت، أو تدعي أنه لا بد وأن يوجد في زمانك من يعلمه!!.
أما الأول: فلا يقول به إنسان سليم العقل.
وأما الثاني: فمسلم؛ ولكن كيف عرفت أنه ليس في زمانك من يعلم تلك النصوص؟ فإن كل أحد إنما يعلم حال نفسه، لا حال غيره.
سلمنا: أنه لو نقل، لعرفه كل واحد منا؛ لكن لا نسلم أنَّا لا نعرفه، فلنتكلم في مسألة الحرام، فنقول: أما من ذهب إلى كونه يمينًا، فيحتمل أنه إنما ذهب
إليه؛ استدلالاً بقوله تعالى: {يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1] إلى قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 2] وأنه عليه الصلاة والسلام حرم على نفسه مارية القبطية، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وسماه يمينًا.
ومن ذهب إلى أنه لا اعتبار به، تمسك بقوله تعالى:{لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة: 87] والنهي يدل على الفساد، أو بالبراءة الأصلية.
ومن ذهب إلى أنه للطلقات الثلاث، زعم أنه قد يجعل كناية عن الطلقات الثلاث؛ فوجب تنزيله على أعظم أحواله، وهو الطلقات الثلاث، ثم أدخله تحت قوله تعالى:{إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]. ومن ذهب إلى أنه للطلقة الواحدة، نزله على أقل أحواله، ومن جعله ظهارًا، جعله كناية عنه، والكنايات في اللغة ليست عبارة عن القياس الشرعي.
سلمنا أن قولهم بتلك المذاهب ليس للنص؛ فلم قلتم: إنه لا بد وأن يكون للقياس، فما الدليل على نفي الواسطة؟ ثم إنا نتبرع بذكر الوسائط:
منها: تنزيل اللفظ على أقل المفهومات، أو على الأكثر، ومنها استصحاب الحال، ومنها: المصالح المرسلة الخالية عن شهادة الأصول، ومنها: الاستقراء؛ والفرق بينه وبين القياس: أن الاستقراء عبارة عن إثبات الحكم في كليٍّ؛ لثبوته في بعض جزئياته، والقياس عبارة عن إثباته في جزئي؛ لأجل ثبوته في جزئي آخر، ومنها: أنه كان من مذهبه أن مجرد قوله حجة، ومستند ذلك الوهم إلى أن قول بعض الأنبياء حجة؛ فيكون قول هذا العالم حجة!!.
بيان الأول: قوله تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا إسرائيل على نفسه} [آل عمران: 93] أضاف التحريم إليه.
بيان الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) فهذه الشبهة تقتضي أن يكون مجرد قول العالم حجة؛ فلعل هذه الشبهة خطرت ببالهم، ومنها الإجماع.
فإن قلت: (حصول الإجماع في محل الخلاف محالٌ):
قلت: المقصود من ذكر الإجماع بيان ثبوت الواسطة بين النص والقياس في الجملة، فهذا هو الكلام على الوجه الثالث.
وأما الوجه الرابع: وهو أن الصحابة قالت بالرأي، والرأي هو القياس: فنقول: لا نسلم أن الرأي هو القياس؛ والدليل عليه وجوه:
الأول: أنه يقال: رأى يرى رؤية ورأيًا؛ فدل هذا على أنه مرادف للرؤية، فإذا ثبت ذلك، وجب ألا يكون حقيقة في القياس؛ دفعًا للاشتراك، وإذا ثبت أنه ما كان في أصل اللغة للقياس، وجب ألا يكون في عرف الشرع له؛ لأن النقل خلاف الأصل.
الثاني: لو كان الرأي اسمًا للقياس، لكان اللفظ المشتق منه دليلاً على القياس، وكان يجب أن يكون قولنا:(فلان يرى كذا) معناه: أنه يقيس، ومعلوم أن ذلك باطلٌ؛ لأن من يذهب إلى الرؤية، والصفات، وخلق الأعمال، يجوز أن
يحكي عن نفسه: (إني أرى القول بهذه الأشياء) وعمن يشاركه في المذهب: (إنه يرى القول بها).
الثالث: أنكم رويتم عن أبي بكر رضي الله عنه: أنه قال في الكلالة: (أقول فيها برأيي) ومعلوم أن تفسير اللفظة اللغوية لا يكون بالقياس.
فثبت بهذه الوجوه الثلاثة: أن الرأي ليس اسمًا للقياس.
وأما الذي تمسكتم به؛ من أنه يقال: أقلت هذا عن رأيك، أو عن النص؟ قلنا: أقصى ما في الباب؛ أن يدل هذا الاستعمال على أن الرأي غير النص؛ لكن من أين يدل على أنه لما كان غير النص، وجب أن يكون قياسًا؟.
بيانه: أن النص: هو اللفظ الدال على الحكم دلالة ظاهرة جلية، فما لا يكون كذلك لا يكون نصًا؛ فلا يلزم من كون الرأي خارجًا عن النص: ألا يكون ذلك الاستدلال لفظيًا؛ لاحتمال أنه لما كان خفيًا، لا جرم لا يسمى بالنص.
سلمنا أن مسمى الرأي ليس هو النص؛ فلم قلتم: إنه هو القياس؛ وما الدليل على هذا الحصر؟
فهذا هو الكلام المختصر على الوجوه الأربعة المذكورة في تقرير المقدمة الأولى.
سلمنا أن بعض الصحابة قال بالقياس، أو عمل به؛ فلم قلت: إن أحدًا منهم ما أنكره؟!.
قوله: (لو أنكروه، لاشتهر، ولنقل، ولوصل إلينا):
قلنا: الكلام على هذه المقدمات قد مر.
والذي نقوله الآن: أنَّا لا نسلم أنه ما وصل ذلك الإنكار إلينا؛ فإنه نقل عنهم تارة: إنكار الرأي، وأخرى: إنكار القياس، وأخرى: ذم من أثبت الحكم لا بالكتاب والسنة، روى عن أبي بكر رضي الله عنه: أنه قال: (أي سماءٍ تظلني، وأي أرض تُقلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي؟).
وعن عمر رضي الله عنه: (إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي؛ فضلوا وأضلوا) وعنه رضي الله عنه: (إياكم والمكايلة) قيل: وما المكايلة؟ قال: (المقايسة) وعن شريحٍ قال: (كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يومئذ من قبله قاضٍ -: (اقض بما في كتاب الله تعالى، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، فاقض بما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن جاءك ما ليس فيها، فاقض بما أجمع عليه أهل العلم، فإن لم تجد، فلا عليك أن تقضي).
وعن علي: (لو كان الدين يؤخذ بالقياس، لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره) وروى عنه: (من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم، فليقل في الجد برأيه). وهذا أيضًا يروى عن عمر رضي الله عنه.
وعن ابن عباس: (يذهب قراؤكم وصلحاؤكم، ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم) وقال: (إذا قلتم في دينكم بالقياس، أحللتم كثيرًا مما حرمه الله تعالى وحرمتم كثيرًا مما حلل الله) وقال: (إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فأحكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 48] ولم يقل: (بما رأيت) وقال: (لو جعل لأحدكم أن يحكم برأيه، لجعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن قيل له: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] وقال: (إياكم والمقاييس؛ فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (السنة: ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا تجعلوا الرأي سنة للمسلمين) وعن مسروق: (لا أقيس شيئًا بشيء، أخاف أن تزل قدمي بعد ثبوتها) وكان ابن سيرين يذم القياس، ويقول:(أول من قاس إبليس) وقال الشعبي لرجل: (لعلك من القياسيين) وقال: (إن أخذتم بالقياس، أحللتم الحرام، وحرمتهم الحلال).
فثبت بهذه الروايات تصريح الصحابة والتابعين بإنكار الرأي والقياس.
فإن قلت: هؤلاء الذين نقلت عنهم المنع من القياس هم الذين دللنا على ذهابهم إلى القول به، فلا بد من التوفيق، وذلك بأن نصرف الروايات المانعة من القياس إلى بعض أنواعه؛ وذلك حق؛ لأن العمل بالقياس لا يجوز عندنا إلا بشرائط مخصوصة.
قلت: هب أن الذين نقلنا عنهم المنع من القياس: هم الذين دللتم على أنهم كانوا عاملين به، إلا أنا نقلنا عنهم التصريح بالرد والمنع على الإطلاق من غير تقييد بصورة خاصة، وأنتم ما نقلتم عنهم التصريح بالقول، بل رويتم عنهم أمورًا، ثم دللتم بوجوه دقيقة غامضة على أن تلك الأمور دالة على قولهم بالقياس، ومعلوم أن التصريح بالرد أقوى مما ذكرتموه؛ فكان قولنا راجحًا.
سلمنا عدم الترجيح من هذا الوجه؛ لكن كما أن التوفيق الذي ذكرتموه
ممكن، فهاهنا توفيق آخر؛ وهو أن يقال: إن بعضهم كان قائلاً بالقياس، حين كان البعض الآخر منكرًا له، ثم لما انقلب المنكر مقرا، انقلب المقر أيضًا منكرًا.
وعلى هذا التقدير: يكون كل واحد منهم مادحًا للقياس، وذامًا له من غير تناقض، مع أنه لا يحصل الإجماع.
سلمنا أن بعض الصحابة قال بالقياس وأن أحدًا منهم ما أظهر الإنكار؛ فلم قلتم: يحصل الإجماع؟.
وبيانه: أن السكوت قد يكون للخوف والتقية.
قوله: (القول بالقياس ليس سببًا لنفع دنيوي؛ فكيف يحصل الخوف من إنكار الحق فيه):
قلنا: لا نسلم عدم الخوف هناك.
قال النظام في هذا المقام: الصحابة ما أجمعوا على القياس، بل القائل به قوم معدودون، وهم: عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبىٌّ، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء وأبو موسى، وأناس قليل من أصاغر الصحابة؛ والباقون ما كانوا عاملين به، ولكن لما كان فيهم عمر وعثمان وعلي، وهؤلاء لهم سلطان، ومعهم الرغبة والرهبة، شاع ذلك في الدهماء، وانقادت لهم العوام، فجاز للباقين السكوت على التقية؛ لأنهم قد علموا أنَّ إنكارهم غير مقبول.
قال: والذي يدل عليه: أنه قال في الفتيا عبد الله بن عباس، والعباس أكبر منه،
ولم يقل في الفتيا شيئًا من غير عجز، ولا عيٍّ، ولا غيبة عن شيءٍ شهده ابنه، وقال في الفتيا عبد الله بن الزبير، والزبير أعظم منه، ولم يقل فيه شيئًا، وكان أبو عبيدة، ومعاذ بن جبل بالشام، فقال معاذٌ، ولم يقل أبو عبيدة؛ مع أن أبا عبيدة أعظم منه؛ فإنه قال عليه الصلاة والسلام:(أبو عبيدة أمين هذه الأمة) وكيف يقال: كان الخوف زائلا، وابن عباس قال:(هبته، وكان - والله - مهيبًا).
وأيضًا: فإن الرجل العظيم؛ إذا اختار مذهبًا، فلو أن غيره أبطل ذلك المذهب عليه، فإنه يشق عليه غاية المشقة؛ ويصير ذلك سببًا للعداوة الشديدة.
قوله: (لو كان الخوف مانعًا من المخالفة لما خالف بعضهم بعضًا في مسألة الجد والحرام):
قلنا: القياس أصل عظيم في الشرع؛ نفيًا وإثباتًا، فكان النزاع فيه أصعب من النزاع في فروع الفقه؛ ولذلك نرى في المختلفين في مسألة القياس يضلل بعضهم بعضًا، والمختلفين في الفروع لا يفعلون ذلك.
سلمنا أن أسباب الخوف ما كانت ظاهرة، ولكن أجمع المسلمون على أنهم ما كانوا معصومين؛ فكيف يمكننا القطع باحترازهم عن كل ما لا ينبغي، غاية ما في الباب حسن الظن بهم، ولكن ذلك [لا] يكفي في القطعيات.
سلمنا زوال الخوف؛ ولكن لعلهم سكتوا؛ لأنه ما ظهر لهم كون القياس حقًا، ولا باطلاً؛ فكان فرضهم السكوت، أو أنهم عرفوا كونه خطأ؛ لكنهم اعتقدوا أنه من الصغائر، فلا يجب الإنكار على العامل به، ولأن كل واحد منهم اعتقد في غيره أنه أولى بإظهار الإنكار.
سلمنا: أنهم بأسرهم رضوا؛ لكن حصل الرضا دفعة واحدة، أو لا دفعة واحدة:
الأول: مما لا يعرفه إلا الله تعالى؛ لأنهم ما جلسوا في محفل واحدٍ قاطعين بصحته دفعة واحدة.
والثاني: لا يفيد الإجماع؛ لأنه ربما كان الأمر بحيث لما صار البعض راضيًا بقلبه، صار الآخر متوقفًا فيه، أو منكرًا عليه بالقلب؛ وذلك يمنع من انعقاد الإجماع.
فإن قلت: (هذا الاحتمال يمنع من انعقاد الإجماع):
قلت: لا نسلم؛ فإن أهل الإجماع كانوا قليلين في زمان الصحابة، وكان يمكنهم أن يجتمعوا في محفل واحدٍ، ويقطعوا بالحكم، فيكون ذلك الإجماع خاليًا عن هذا الاحتمال.
أما إذا لم يجتمعوا في محفل واحد، فإذا سئل بعضهم، فأفتى به، ثم أنه سئل إنسان آخر، في بلد آخر، فلعل المفتي الأول رجع عن فتواه حينما أفتى به المفتي الثاني؛ وحينئذ لا يتم الإجماع، وهذا سؤال أهل الظاهر، ولهذا قالوا: لا حجة إلا في إجماع الصحابة.
سلمنا انعقاد الإجماع على قياس ما؛ لكن لم ينقل إلينا أنهم أجمعوا على النوع الفلاني من القياس، أو على كل أنواعه، ولم يلزم من انعقاد الإجماع على صحة نوع انعقاده على صحة كل نوع؛ فإذن: لا نوع إلا ويحتمل أن يكون النوع الذي أجمعوا عليه هو هذا النوع، وأن يكون غيره، وإذا كان كذلك، صار كل أنواه مشكوكًا فيه؛ فلا يجوز العمل بشيء منه.
فإن قلت: (الأمة على قولين: منهم: من أثبت القياس، ومنهم: من نفاه، وكل من أثبته، فقد أثبت النوع الفلاني مثلاً، فلو أثبتنا قياسًا غير هذا النوع، كان خرقًا للإجماع):
قلت: لا نسلم أن كل من أثبت نوعًا من القياس، أثبت نوعًا معينًا منه؛ لأن القياس إما أن يكون مناسبًا، أو لا يكون: وكل واحد من القسمين مختلف فيه:
أما المناسب: فرده قومٌ؛ قالوا: لأن مبناه على تعليل أحكام الله تعالى بالحكم والأغراض؛ وإنه غير جائز.
وأما غير المناسب: فقد رده الأكثرون؛ فثبت أنه ليس هاهنا قياس مقبول بإجماع القائسين.
سلمنا انعقاد إجماع القائسين على نوع واحدٍ؛ ولكن لم لا يجوز أن يكون ذلك هو قياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف، وما إذا نص الله تعالى على العلة؛ فإن هذا القياس عندنا حجة؟!.
سلمنا انعقاد الإجماع على جواز العمل بالقياس في زمان الصحابة؛ فلم [لا] يجوز في زماننا؟.
والفرق: أن الصحابة، لما شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم والوحي، فربما عرفوا بقرائن الأحوال: أنَّ المراد من الحكم الخاص بصورة معينة - رعاية الحكمة العامة؛ فلا جرم جاز منهم التعبد به، وأما غير الصحابة، فإنهم لما لم يشاهدوا الوحي والرسول والقرائن، لم يكن حالهم كحال الصحابة.
فإن قلت: (كل من جوز العمل بالقياس للصحابة، جوزه لغيرهم):
قلت: كيف يقطع بأنه ليس في فرق الأمة، على كثرتها، أحدٌ يقول بهذا
الفرق مع وضوحه؛ غايته: أنا لا نعرف أحدًا قاله؛ لكن عدم العلم بالشيء لا يقتضي العلم بعدمه.
والجواب: أن أصحابنا ذهبوا إلى أن الروايات المذكورة في اختلافهم في مسألة: الجد، والحرام، والمشركة، والإيلاء، والخلع، وتقدير الحد بشرب الخمر، وقياس العهد على العقد، وقول الصحابة بالتشبيه والرأي، وما نقل من الأحاديث في القياس؛ كخبر معاذ وابن مسعود، وخبر الخثعمية، والسؤال عن قبلة الصائم، وأمر عمر أبا موسى بالقياس، وقول ابن عباس بالتشبيه - قد بلغ مجموعها إلى حد التواتر؛ فإن من خالط أهل الأخبار، وطالع كتبهم، قطع بصحة شيء من هذه الأخبار؛ فإنها باسرها يمتنع أن تكون كذبًا، وأي واحد منها صح القول بالقياس، وهذا الذي قاله الأصحاب جيد، إلا أن الخصم، لو كابر، وقال: لا أسلم خروج هذا المجموع عن كونه خبر واحد.
قلنا: هب أنه كذلك، فأيش يلزم؟.
قوله: (المسألة علمية قطعية؛ فلا يجوز إثباتها بدليل ظني):
قلنا: لا نسلم أنها قطعية؛ بل هي عندنا ظنية؛ لأن هذه المسألة عملية، والظن قائم مقام العلم في وجوب العمل؛ ألا ترى أنه لا فرق بين أن يعلم بالمشاهدة وجود الغيم الرطب المنذر بالمطر، الذي يجب التحرز منه، وبين أن يخبر بوجود مثل هذا الغيم مخبر لمن لا يمكنه مشاهدة الغيم في أنه يلزمه التحرز منه، فكذا هاهنا؛ لا فرق بين أن يتواتر النقل عن الشرع في أنَّا مأمورون بالقياس، وبين أن يخبرنا به من يظن صدقه؛ في وجوب العمل بالقياس، وإن لم نعلم صدق المخبر بذلك؛ وهذا الجواب قاطع للشغب بالكلية.
قوله على الوجه الأول: (لا يجوز أن يكون المراد من قول عمر: (اعرف الأشباه والنظائر) - الأمر بمعرفة ماهية كل جنس؛ لئلا يدخل تحت النص المذكور في ذلك الجنس - ما ليس منه، ولا يخرج عنه ما هو منه):
قلنا: مقدمة هذا الكلام ومؤخرته تبطل هذا الاحتمال؛ وهو قول عمر رضي الله عنه: (الفهم عندما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في كتاب الله، ولا سنة نبيه، ثم اعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك عند ذلك، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله تعالى، وأشبهها بالحق فيما ترى) فمن تأمل هذا الكلام، عرف أنه صريح في الأمر بالقياس الشرعي.
وهو الجواب أيضًا عن قوله: (لم لا يجوز أن يكون المراد منه تشبيه الفرع بالأصل في أنه لا يثبت حكمه إلا بالنص).
قوله على الوجه الثاني: (لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنه، لم لا يسمى الجد أبًا مجازًا؛ حتى يدخل تحت قوله: {وورثه أبواه} [النساء: 11] كما سمى النافلة ابنًا؛ حتى دخل تحت قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11]؟):
قلنا: لا يجوز أن يكون إنكار ابن عباس على زيد؛ لأجل امتناعه من المجاز في أحد الموضعين دون الثاني؛ لأن حسن المجاز في أحد الموضعين لا يوجب حسنه في الموضع الثاني.
وبتقدير التساوي في الحسن؛ لكن القطع به في أحد الموضعين لا يوجب القطع به في الموضع الثاني.
وإذا ثبت أن هذا الإنكار غير متوجه على التفرقة في إطلاق الاسم المجازي،
ثبت أنه متوجه على التفرقة في الحكم الشرعي، فيكون ذلك تصريحًا بالقياس الشرعي.
قوله: (لو كان المراد هو الحكم الشرعي، لما نسبه إلى مفارقة التقوى):
قلنا: لعل هذا القياس كان جليًا عند ابن عباس، وكان من مذهبه أن الخطأ في مثل هذا القياس يقدح في التقوى.
وأيضًا: فذلك محمول على المبالغة.
قوله على الوجه الثالث: (لم قلت: إن مبالغتهم في تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم توجب إظهار النص؟):
قلنا: استقراء العرف يشهد به؛ فإن من حكم بحكم غريب يخالفه فيه جمعٌ، يوافقونه على تعظيم شخص معين، ووجد ذلك الإنسان حجة من قول ذلك الإنسان العظيم؛ فإنه لا بد أن يذكر لهم ذلك القول ويصرح به.
قوله: (إنما يذكر عند الحاجة إلى ذكره):
قلنا: والحاجة إلى ذكره حاصلة مطلقًا؛ لأن من يعتقد أن مذهبه ثابت بالنص، فلا بد أن يعلم: أن مخالفه: إنما خالفه إما لا لطريق، أو لطريق مرجوح بالنسبة إلى طريقه، أو مساوٍ له، أو راجح عليه:
وعلى التقديرين الأولين؛ كان مخالفه مخالفًا للنص.
وعلى التقدير الثالث: يكون فرض كل واحدٍ منهما التوقف؛ فتكون الفتوى بأحدهما محظورًا.
وعلى التقدير الرابع: يكون هو مخالفًا للنص، فإذن: من أثبت مذهبه بالنص، فإنه لا بد وأن يعتقد فيمن خالفه، أو في نفسه - كونه مخالفًا للنص؛
لكن شدة إنكارهم على مخالفة النص تقتضي شدة احترازهم عنها، ولا طريق إلى ذلك الاحتراز إلا بذكر ذلك النص؛ فثبت أن شدة تعظيمهم للرسول صلى الله عليه وسلم توجب عليهم: أن يذكروا نصوصه على الإطلاق.
وبهذا ظهر الجواب عن قوله: (إنه لا يجب ذكر النصوص الخفية؛ لأن الدليل الذي ذكرناه مطرد في الكل).
قوله: (لو أثبتوا مذاهبهم بالقياس، لوجب عليهم أن يذكروه):
قلنا: الفرق من وجوه:
أحدها: أن إنكارهم على مخالف النص أقوى من إنكارهم على مخالف القياس؛ فلم يلزم من ترك أقل الإنكارين ترك أعظمها؟!.
وثانيها: أن الخواطر مستقلة بمعرفة العلل القياسية؛ فلا يجب التنبيه عليها، وهي غير مستقلة بمعرفة النصوص؛ وذلك يقتضي وجوب التنبيه عليها.
فإن قلت: (لو لم يجب التنبيه على العلل القياسية، لما حسنت المناظرات): قلت: ليس كل ما لا يجب لا يحسن.
وثالثها: أن النصوص يجب اتباعها؛ فيجب نقلها، والأقيسة لا يجب اتباعها فلا يجب نقلها؛ لأن عندنا: كل مجتهد مصيبٌ.
ورابعها: أن النصوص يمكن الإخبار عنها على كل حال، وأما الأمارات: فقد يتعذر التعبير عنها، وإن كانت مفيدة للظن؛ مثل الأمارات في قيم المتلفات، وأروش الجنايات؛ ولذلك لا يتمكن المقوم من أن يذكر أمارة ملخصة في تقدير القيمة بالقدر المعين.
فإن قلت: (أليس أن فقهاء هذا الزمان يعبرون عن هذه الأمارات؟):
قلت: المتأخر في كل علم يلخص ما لم يلخصه المتقدم.
سلمنا أنه يجب عليهم ذكر تلك الأقيسة؛ لكن يجب ذكرها صريحًا، أو تنبيهًا؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم: وهاهنا قد نبهوا على العلل بالإشارة إلى الأصول التي ذكروها:
بيانه: أنهم اتفقوا على أن حكم قوله: (أنتِ عليَّ حرامٌ) إما أن يكون حكمه حكم الطلاق، أو الظهار، أو اليمين، وعلة ذلك ظاهرة، وهي أن قوله:(أنتِ عليَّ حرامٌ) لفظ موضوع للتحريم، فيؤثر فيه إذا توجه إلى الزوجة؛ كهذه المسائل، ثم إن كل واحد منهم رجح الأصل الذي اختاره؛ فمنهم: من رجح الاحتياط؛ فجعله طلاقًا ثلاثًا، ومنهم: من رجح بالمتيقن؛ فجعله طلقة واحدة. ومنهم: من جعله ظهارًا؛ لمشابهته إياه في اقتضاء التحريم ومباينته لصرائح الطلاق، وكناياته، ثم جعل كفارته كفارة الظهار؛ أخذًا بالاحتياط؛ لأنها أغلظ من كفارة اليمين، ومنهم: من رجح بأن كفارة اليمين أقل الكفارات؛ فيوجبها؛ أخذًا بالأقل؛ فظهر أن ذكر هذه الأصول منبه على كيفية قياساتهم.
قوله: (لم قلت: لو أظهروا تلك النصوص، لوجب اشتهارها؟):
قلنا: لأن هذه المسائل من المسائل التي يكثر وقوعها؛ فكانت الحاجة إلى معرفة حكم الله تعالى فيها بالدليل شديدة؛ وما كان كذلك، فإن الدواعي تتوفر على حفظ النصوص الواردة فيها، فهذا إن لم يفد القطع، فلا أقل من الظن.
قوله: (تدعي أن تلك النصوص، لو نقلت، لعرفتها أنت أو لعرفها أحد ممن في هذا الزمان؟!):
قلنا: ندعي قسمًا ثالثًا، وهو أن يكون مشهورًا في الكتب؛ بحيث يجده كل من حاول طلبه.
قوله: (من ذهب إلى أنه يمين، تمسك بقوله تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك} .... إلى قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 1 - 2]):
قلنا: إن قوله تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 2] لا يدل على أنه إذا حرم، فماذا حكمه؟!.
ثم إذا دل، فإنما يدل على مذهب مسروق.
وأما قوله تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} [التحريم: 2] فنقول: ليس في الآية إلا أنه عليه الصلاة والسلام حرم ما أحل الله له، فيجوز أن يكون قد حرمه بلفظ اليمين؛ بأن كان قد حلف بأنه لا يقرب مارية، بل هذا أولى؛ لأن اليمين هو القسم بالله، ولا شبهة في أن قوله:(أنت عليَّ حرام) ليس قسمًا بالله؛ فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها على حكم هذه المسألة.
وأيضًا: فلو نزلت هذه الآية بسبب قوله لمارية: (أنت عليَّ حرام) لكان ذلك نصًا في الباب؛ وذلك يمنع من ذهاب كل واحد منهم في هذه المسألة إلى قول آخر؛ لما بينا أن شدة إنكارهم على من خالف نصوصه يمنع منه.
قوله: (من حمله على الطلقات الثلاث، جعله ككنايات الطلاق):
قلنا: لا شك أن قوله: (أنت عليَّ حرام) ليس من صرائح الطلاق، وما أجمعوا على أنه من كنايات الطلاق؛ فإذن: لا بد وأن يقال: إن حكم هذا
الكلام مثل حكم الصرائح والكنايات؛ وهذا التشبيه نفس القياس؛ بل لا نزاع في أنه بعد ثبوت هذه المشابهة يندرج تحت قوله: {إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1] وقوله: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229].
قوله: (من حمله على الطلقة الواحدة، فإنما حمله عليها؛ أخذًا بالمتيقن):
قلنا: هذا إنما يثبت بعد أن نجعله من صرائح الطلاق أو كناياته؛ وحينئذ فلا بد فيه من القياس.
قوله: (من حمله على الظهار، فقد أجراه مجرى الظهار):
قلنا: إن أردتم به أنه أجراه مجرى الظهار في الحكم، فهذا هو القياس، وإن أردتم غيره، فبينوه.
قوله: (إن مسروقًا تمسك بالبراءة الأصلية):
قلنا: لا نسلم؛ بل قاسه على قصعة من ثريد؛ فإنه حكى عنه أنه قال: (لا فرق عندي بينه وبين قصعة من ثريد).
وأيضًا: فإن مسروقًا كان من التابعين، فإما أن يقال: إنه عاصر الصحابة حين اختلفوا في هذه المسألة، أو ما عاصرهم في ذلك الوقت:
فإن كان الأول: كانت الصحابة تاركين للبراءة الأصلية؛ بسبب القياس؛ لما بيَّنَّا أنهم ما ذهبوا إلى مذاهبهم؛ لأجل النص؛ وذلك يقتضي عمل بعض الصحابة بالقياس، ولا مطلوب في هذا المقام إلا ذلك.
وإن كان الثاني: كان إجماعهم حجة عليه.
قوله: (هب أنهم ما ذهبوا إلى تلك المذاهب؛ لأجل النص، فلم قلت: ذهبوا إليها للقياس؟):
قلنا: لأن كل من قال: الصحابة لم يرجعوا في تلك الأقاويل إلى البراءة الأصلية، ولا النصوص الجلية أو الخفية - قال: إنهم عملوا فيها بالقياس.
هذا تمام الكلام في الوجه الثالث.
قوله على الوجه الرابع: (إن الرأي في أصل اللغة ليس للقياس):
قلنا: هذا مسلم؛ لكنا ندعي أنه في عرف الشرع اختص بالقياس، وهذا وإن كان خلاف الأصل؛ لكن الدليل قام عليه؛ فإنكم رويتم عنهم كلامًا كثيرًا في ذم الرأي، وقد ساعدنا خصومنا على أن المراد منه ذم القياس، فعلمنا أن عرف الشرع يقتضي تخصيص اسم الرأي بالقياس، وهذا تمام الكلام في المقدمة الأولى.
قوله: (إنهم صرحوا بالإنكار):
قلنا: نعم؛ ولكن التوفيق ما ذكروا.
قوله: (روايات الإنكار صريحة، وروايات الاعتراف غير صريحة):
قلنا: هب أنها غير صريحة لفظًا؛ لكنها صريحة بحسب الدلالة المذكورة؛ فلم قلت: إنه يبقى ما ذكرتموه من الترجيح؟.
قوله: (لعل المنكر انقلب مقرا وبالعكس):
قلنا: لو وقع ذلك، لاشتهر؛ لأنه من الأمور العجيبة؛ فحيث لم يشتهر، دل على أنه لم يقع.
قوله: (لعلهم سكتوا؛ خوفًا):
قلنا: استقراء حال الصحابة يفيد ظنًا غالبًا بشدة انقيادهم للحق.
وأما قدح النظام فيهم: فقد سبق الجواب عنه في (باب الأخبار).
قوله: (يجوز أن يكون سكوتهم؛ لعدم علمهم بكونه حقًا أو باطلاً):
قلت: هب أنهم كانوا متوقفين فيه في أول الأمر؛ ولكن الظاهر أن بعد انقضاء الأعصار يظهر لهم كونه حقًا أو باطلاً.
قوله: (لعل كل واحد منهم اعتقد أن غيره أولى بالإنكار):
قلنا: لا بد وأن يكون واحد منهم أولى بذلك، أو يكون الكل في درجة واحدة، وكيفما كان، فإجماعهم على ترك الإنكار إجماع على الخطأ.
قوله: (حصل الرضا دفعة، أو لا دفعة؟):
قلنا: الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان.
قوله: (لا نعلم أنهم بأي أنواع القياس تمسكوا):
قلنا: الإجماع الظاهر حاصل في أن القياس المناسب حجة.
قوله: (لم قلت: إنه يلزم من جواز العمل بالقياس للصحابة جوازه لنا؟):
قلنا: لا نعرف أحدًا قال بالفرق؛ فيكون الإجماع حاصلاً ظاهرًا.
فهذا تمام الكلام في هذه الطريقة، وإنما استقصينا القول فيها جوابًا وسؤالاً؛ لأنَّا رأينا الأصوليين يعولون عليها في كثير من مسائل هذا العلم، قد ذكرناها أيضًا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، فأردنا أن نعرف مقدار قوتها، وقد
ظهر أنها لو أفادت شيئًا ما أفادت إلا ظنًا ضعيفًا، وأنه ليس الأمر كما يعتقده الجمهور؛ من أنه يفيد إجماعًا قاطعًا.
المسلك السادس: تقرير الإجماع على وجه آخر، فنقول: نعلم بالضرورة اختلاف الصحابة في المسائل الشرعية، فإما أن يكون ذهابهم إلى ما ذهبوا إليه، لا لطريق فيكون ذلك إجماعًا على الخطأ؛ وإنه غير جائز، أو لطريق؛ وهو: إما أن يكون عقليًا أو سمعيًا، لا يجوز أن يكون عقليًا؛ لأن العقل لا دلالة فيه إلا على البراءة الأصلية، ويستحيل أن يكون قول كل واحد من المختلفين قولاً بالبراءة الأصلية؛ فثبت أنه كان سمعيًا، وهو إما أن يكون قياسًا، أو نصًا، أو غيرهما:
أما القياس: فهو المطلوب.
وأما النص: فغير جائز؛ لأن مخالف النص يستحق العقاب العظيم؛ لقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها} [النساء: 14] ونحن نعلم بالضرورة أن المختلفين منهم في المسائل الشرعية ما كان كل واحد منهم يعتقد في صاحبه كونه مستحقًا للعقاب العظيم؛ بسبب تلك المخالفة.
وأما الذي ليس بنص، ولا قياس: فباطل؛ لأن كل من قال من الأمة: (إنهم لم يتمسكوا في تقرير أقوالهم بشيءمن النصوص الجلية والخفية، ولا بالبراءة الأصلية) قال: إنهم تمسكوا بالقياس، فلو قلنا: إنهم قالوا بتلك الأقاويل بشيء غير هذين القسمين، كان ذلك قولاً غير قولي كل الأمة؛ وهو باطل.
فهذه الدلالة، وإن كان يتوجه عليها كثير مما توجه على الوجه الذي قبله، إلا أن كثيرًا من تلك الأسئلة ساقط عنها.
المسلك الخامس
قال القرافى: قوله: (وعن علي وزيد أنهما شبهاهما بغصني شجرة، وجدولى نهر):
تقريره: أن الجد يقول: أنا أبو أبيه، والأخ يقول: أنا ابن أبيه، فيجتمعان معًا في أبي الميت، فأبو الميت هو الشجرة، وهما غصناها، والنهر، وهما جدولاه.
قوله: (اختلفوا في مسائل، ولا يمكن أن يكون تلك الأقوال إلا عن القياس):
قلنا: أما قول علي: إن الحرام كالطلاق الثلاث، وقول ابن مسعود: طلقة بائنة أو رجعية، فلا يتعين أن يكون المدرك القياس؛ لإمكان أن يكون ذلك لاختلافهم في نقل العرف لهذه اللفظة، كما قاله المالكية.
فمن رأى أن العرف نقلها للثلاث ألزم الثلاث، أو الواحدة مع البيبونة ألزمها، أو لأصل الطلاق فقط ألزمه، فكانت رجعية.
وقول الصديق: يلزمه الكفارة فقط؛ فلقوله تعالى: {يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} [التحريم: 1]، فروى أنه حرم طعامًا، فأمر بالتكفير كفارة يمين، وبه قال أبو حنيفة. وقول ابن عباس: إنه ظهار؛ فلنقل العرف له كذلك.
وقول مسروق: إنه ليس بشيء؛ فلعدم مشروعيته سببًا لشيء؛ لأن الأصل عدم المشروعية. فهذه كلها مدارك محتملة، لا يتعذر أن تكون مدارك هذه الأقوال، فلا يتعين القياس.
قوله: (لم ينتقص الجد من الثلث كالأم؛ لأنه يرث مع البنين):
قلنا: لا يلزم أن يكون المدرك هذا القياس؛ بل لأنه حجب الإخوة للأم عن الثلث، فاستحقه، لا بالقياس على شيء آخر.
قوله: (ومنهم من قال: للجد السدس لا ينقص منه، ويقاسم مطلقًا ما لم ينقص منه قياسًا على الجدة):
قلنا: بل المدرك عند هذا القائل أن يكون هو الأخذ بأقل ما قيل؛ فإن الجد لايسقط ألبتة، فالسدس لا بد منه، فأمكن أن يكون هذا هو المدرك، لا القياس على الجدة.
قوله: (شرك عمر رضي الله عنه بين الإخوة الأشقاء وإخوة الأم في الثلث في مسألة المشركة):
قلنا: المدرك يمكن أن يكون وجود السبب المقتضى للميراث وهو إخوة الأمومة لا شيئًا آخر، وهو الذي صرحوا به في حجبهم، وهذا ليس بقياس، بل سبب منصوص عليه، كوجوب الظهر لزوال الشمس.
قوله: (قال عثمان: الخلع طلاق):
قلنا: المدرك أنه تلفظ بلفظ الطلاق، فهو حكم سببه الشرعي، لا أنه قياس.
وقوله: (إنه فسخ لا طلاق)؛ فلأنه تخيل فيه اتفاق المتعاوضين على رد ما خرج من أيديهما إليهما، وهذا هو حقيقة الفسخ والإقالة، وترتيب الحكم لوجود سببه الخاص لا يكون قياسًا.
قوله: (إذا ثبت أنهم ما قالوا بهذه الأقاويل لأجل نص، فيتعين القياس):
قلنا: لا نسلم الحصر، وقد تقدم - أن ثم - غير القياس، والنص،
وهو ترتيب للحكم على الأسباب، وملاحظة القواعد الشرعية، وهو غير الأمرين.
قوله: (وعن ابن مسعود في قصة بروع):
تقريره: قال التبريزي: قال ابن مسعود في بروع بنت واشق، وقد فوضت بضعها بعد أن تردد السائل شهرًا: أقول فيها برأييـ فإن أصبت فمن الله - تعالى - وإن أخطأت فمني ومن الشيطان: أرى لها مثل مهر نسائها، لا وكس، ولا شطط.
قال سراج الدين: قال ابن مسعود: (في قصة البروع):
فعرف بلام التعريف، والظاهر أن هذا الاسم علم، فتعريفه بلام التعريف غير صواب، وجميع النسخ، وكلام التبريزي وغيره بغير (لام)، وهو الصةاب إن شاء الله تعالى، وسكت تاج الدين، و (المنتخب) عن هذا الموضع.
قوله: (الرأي: القياس؛ لقولهم: (قلت هذا برأيك أم بالنص)؟ فيجعلون القياس قسيم النص):
قلنا: مسلم، لكن الذي يجعل قسيم الشيء قد يكون أعم من المدعى هذا زوج أو فرد، فيجعل الزوج قسيم الفرد، مع أن الفرد أعم من الخمسة، فمن أدعى أن قسيم الزوج الخمسة ليس إلا، منعناه.
كذلك هاهنا - الرأي أعم من القياس؛ لأنه يندرج فيه القياس، والاستدلال بنفي اللازم على نفي الملزوم، ونفي الشرط على نفي المشروط، وتخريج الفروع على القواعد، كما تقدم، وأنواع كثيرة من الاستحسان وغيره، فما تعين من القول بالرأي القول بالقياس.
قوله: (القياس أصل عظيم في الشرع نفيًا وإثباتًا).
يريد نفي القياس وإثباته، لا إثبات الحكم به ونفيه به.
قوله: (سكوت البعض إما أن يكون عن الخوف، أو عن الرضا، والأول باطل):
قلنا: لا نسلم الحصر، لأن السكوت قد يكون لأنه في مهلة النظر لم يتضح له سبب الإنكار، أو لظنه أن غيره قام بذلك الإنكار، وغير ذلك من الوجوه التي تقدم ذكرها في الإجماع السكوتي.
قوله: (لو أبدى الصحابي في تلك المسائل لكان خبر واحدٍ في حق السامع فلا يقيد):
قلنا: لا نسلم أنه لا يفيد، بل خبر الواحد حجة.
قوله: (الاستقراء إثبات الحكم في كلى؛ لثبوته في بعض جزئياته، والقياس إثباته في جزئي؛ لثبوته في جزئي آخر):
تقريره: أن مراده بالكلى الكلية، مثل أن تجد هذه البغلة لا تلد، وهي جزئية بالنسبة إلى ذلك النوع، وتلك البغلة- أيضًا- لا تلد، وكذلك صور كثيرة، فيحصل لنا علم عادي أن كل بغلة لا تلد، فثبت الحكم بالكلية؛ لثبوته في الجزئيات.
والقياس نحو: ثبوت التحريم في النبيذ، وهو جزئي؛ لثبوته في الخمر، وهو جزئي آخر.
قال الإمام في (المحصل): الاستدلال إما بجزئي على كلى، وهو الاستقراء، أو بكلى على جزئي، وهو القياس المنطقي، أو بالأمرين، وهو القياس الفقهي، أما الأول فتقدم بيانه.
وأما الثاني: إذا قلنا: كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فالمقدمة الكبرى كلية، ويلزم من ثبوت الجسم لموضوعها، وهو (الحيوان)، ثبوته للإنسان؛ لأنه بعض الكلية، التي هي الحيوان، فاستفدنا ثبوت الحكم في الجزئي من الكلى.
وأما الثالث؛ فلأنا نستدل بورود التحريم في الخمر، وهو جزئي، على أن كل مسكر حرام، فقد استفدنا الكلى من الجزئي، ثم يلزم من تلك الكلية التي استفدناها أن النبيذ يحرم، وحينئذ يحصل القياس الشرعي من ثبوت الحكم من جزئي الكلي، ومن كلي الجزئي، وهو معنى ما قاله، فظهر أن القياس الفقهي مركب من الاستقراء، والقياس المنطقي، وهو تلخيص حسن ذكره في (المحصل)، ولا ينافي قوله- ها هنا- فإنه- ها هنا- اختصر ذلك، وأخذ الجزئي، وأسقط الكلية المتوسطة.
قوله: (يقال: رأى يرى رؤية ورأيا، والرأي مرادف للرؤية):
قلنا: إن أردتم أنه مرادف لرؤية القلب، فمسلم، أو لرؤية العين، فممنوع، والأول يحتمل القياس؛ لأنه فكر واعتبار بالقلب، فلا بد من مقدمة، وهو أن يقول: ورؤية البصر قدر عام، وإذا كان اللفظ حقيقة في العام، لا يكون حقيقة في أحد أنواعه بخصوصه، وإلا لزم المجاز أو الاشتراك.
وإنما يصدق لفظ العام على أحد أنواعه من حيث اشتماله على ذلك المعنى العام، لا من حيث خصوصه، كما أنه لا يصدق لفظ الحيوان على الإنسان إلا من حيث اشتماله على الحيوانية، لا من حيث إنه ناطق.
قوله: (قال الصديق- رضي الله عنه: (أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله رأيي)، وذكر معه آثارًا أخرى:
قلنا: المعنى بهذه الآثار نفي الرأي الكائن عن الهوى بغير مدرك شرعي، وإلا فكل دليل لابد فيه من فكرة من جهة العقل، ورأى في أي شيء ينتهي أمر ذلك النظر إليه.
وقول علي- رضي الله عنه: (لو كان الدين يؤخذ قياسًا، لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره).
جوابه: أن الدين- بلام التعريف- للعموم، ونحن نقول: ليس الدين كله يؤخذ بالقياس، بل بعضه.
قوله: (قال الله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49]، ولم يقل: بما رأيت، وعن ابن عباس: (لو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم):
قلنا: معناه: وأن أحكم بينهم بما أنزل الله فيما فيه وحي منزل، وهو الذي يفهم عند سماع هذا القول، وبقي ما لا وحي فيه مسكوت عنه، فتتناوله أدلة القياس.
وقول ابن مسعود: (لا أقيس شيئًا بشيء مخافة أن تزل قدم بعد ثوبتها).
محمول على القياس الخفي؛ فإن الخوف إنما يتحقق فيه، وليس في ذلك نص على أنه كان يخاف من القياس الجلي.
قوله: (اعتقدوا أنه من باب الصغائر، فلم ينكروا):
قلنا: الإنكار واجب في ترك كل واجب، وفعل كل محرم، صغيرة كانت أو كبيرة، وما علمت في هذا خلافًا.
قوله: (احتمال الرجوع لا يقدح في الإجماع؛ لأن الصحابة كان يمكنهم الاجتماع في محفل واحد، ويصرحوا بالحكم، فيزول احتمال رجوع البعض الأول عند فتيا الثاني بخلاف القياس):
قلنا: لم ينقل عن الصحابة أنهم اجتمعوا في محفل واحد قط، فليلزم على ذلك ألا يحصل إجماع البتة، مع أن ذلك إن صح فيمكنه فرضه في القياس، فيجمعوا ويصرحوا بأن القياس حجة، من غير احتمال انقلاب الراضي منكرًا، والمنكر راضيًا.
قوله: (قياس العهد على العقد):
تقريره: أن الذي تقدم في الإمامة للصديق إنما هو عقد البيعة، ثم إن الصديق- رضي الله عنه عهد لعمر بن الخطاب، وهذا العهد ليس بعقد بيعة، فألحقه الصحابة بالعقد الواقع للصديق؛ في معناه، من جهة أن الإمام وكيل الأمة، وولي لهم، فإذا أبرم أمرًا، فهم أبرموه من حيث المعنى.
قوله: (هذه المسألة عندنا ظنية):
قلنا: هذا خلاف ما عليه الأصوليون، بل أصول الفقه كل مسائله قطعية، ومداركها قطعية.
قوله: (كما سمى النافلة ابنًا):
تقريره: أن الابن يسمى نافلة، لأن النافلة الزيادة، ومنه قوله تعالى:{فتهجد به نافلة لك} [الإسراء: 79]، أي زيادة على فرضك، وابن الابن رائد على الابن.
قوله: (النصوص يجب اتباعها بخلاف الأقيسة):
قلنا: لا نسلم الفرق، بل كل حجة راجحة أو سالمة عن المعارض يجب اتباعها عند من ظهرت له، ولا تجب عند من لم تظهر له، كان نصًا أو غيره، فلا فرق، فالتفرقة باطلة.
قوله: (أنت على حرام، ليس من صريح الطلاق، وأجمعوا على أنه من كناياته، فجعلوا حكمه مثل حكم الصريح، وهذا التشبيه قياس، وبعد المشابهة يندرج تحت قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1]).
قلنا: بل إنما لزم الطلاق بالتحريم؛ لأن لفظ (التحريم) انتقل إلى الطلاق بالعرف، أو قصد بالنية، إن وقفنا اللزوم به على النية.
أما لو استعمل لفظ (التحريم) في نفس التحريم، لم يلزمه طلاق بنطقه بهذه الصيغة كالظهار، وسببه أنها إنشاء، والإنشاء لا يدخله الكذب ولا الصدق؛ لأنه ليس خيرًا، وهما من خواص الخبر، فحينئذ لابد من النقل العرفي لمعنى الطلاق، أو القصد إليه بالنية.
أما استعماله في موضوعه اللغوي فلا، وهذا الموضع قل أن يتنبه له في الفقه، فاعلمه.
ثم قوله بعد: (التشبيه يندرج في الآية) ممنوع؛ لأن اللفظ إنما يتناول ما وضع له حقيقة دون المجاز، والتقدير أنه إنما يتناول الطلاق مجازًا، فلا يتناوله حتى يدل دليل من خارج على أن اللفظ استعمل في حقيقته ومجازه، لا بمجرد اللفظ.