الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(تنبيه)
قال التبريزي: هذه المواطن التي صرح الصحابة فيها بالرأي، ما خاضوا فيها إلا بعد اعترافهم بعد النص، واتفاقهم على العجز عنه؛ ولأنهم رددوا الرأي بين الصواب والخطأ على وجل واستشعار، وأضافوا الخطأ لأنفسهم، والصواب إلى الله تعالى، ولم تجز عادتهم بمثل ذلك في النصوص، بل يطلقون الحكم ويسندونه للنص، ويشنعون على مخالفيهم بالتقصير.
ومن أبلغ الوقائع استفتاء عمر- رضي الله عنه في مسألة المغيبة؛ فإنها تدل على أن عمر والصحابة- رضوان الله عليهم- اعتقدوا كون القياس حجة.
أما الصحابة، فلأنهم شرعوا يعللون لا مستمسكين بنص؛ فإن انتفاء الضمان على الوالي، والمؤدب، ليس منصوصًا عليه، ولو كان لاعتصموا به في موضع التخطئة، وعرفه عمر، فاستغنى عن المشاورة.
وأما عمر؛ فلأنه أصغى إليهم مع أنهم لم يسندوه إلى نص، ولم يقل: إنه شرع بالتشهي كما يقوله من يخالفنا بالقياس.
وأما علي- رضي الله عنه فلأنه لم ينكر أصل الرأي كما رد الحكم؛ ولأنه علل بقوله: (أنت أفزعتها)، والإفزاع ليس منصوصًا عليه، ولا متدرجًا تحت نص في تضمين الجنين على من أفرغ أمة، ولا يفهم من تضمينه على من ضرب بطن أمة، تضمينه على من أفزعها، بل رأي أن الإفزاع في معنى الضرب؛ لاشتراكهما في السببية، وصلاحيته للإفضاء إلى الإلقاء، وإن كان أحدهما قولاً والآخر فعلاً، وإن تقاربا في غلبة الإفضاء وندرته؛ لأن المعتبر قرب الإفضاء لا الظهور البالغ، وكونه مؤدبًا غايته أنه مؤثر في جواز الفعل، وجوازه لا ينافي الضمان كأكل مال الغير عند المخمصة، ورأي
الصحابة أن الوالي نائب عن الشرع، فهو كالمحمول بأمر الشرع، فيكون فعله كفعل مستنيبه، وإذا انقطع الفعل عنه انقطع الضمان.
وأما قول الخصم: إن قول أبي بكر في الكلالة تفسير للفظ، وهو لا يكون بالقياس.
فجوابه: أن البحث إنما وقع عن محل استحقاق أولاد الأم الثلث أو السدس؛ لينزل عليه الخطاب، فلاحظ- رضي الله عنه قاعدة التوريث، والحجب، وأن الإخوة لا يرثون مع وجود الأبناء، وحمل لفظ (الكلالة) عليه لا بمحض الوضع؛ فإنه لا يسمى رأيًا.
ولأنهم- رضي الله عنهم نقل عملهم بالرأي تفصيلاً، فمن ذلك حكم الصحابة بإمامة أبي بكر بالاجتهاد، ومن حيث إنه طريق في حفظ المصالح الكلية، كسائر الطرق المحافظة للمصالح، بل هو أولى، ونحن نقطع بعدم النصوص في حق الصديق، وعلي، والعباس؛ فإنه لو وجد لأظهر؛ لأنه موضع الحاجة والداعية، كما أظهروا:(الأئمة من قريش)، وانكف الأنصار وغيرهم بذلك.
وقد أجمعوا على وجوب إمام، واختلفوا في التعيين، فلو قال أحدهم: إن هذا عينه رسول الله- صلى الله عليه وسلم لأذعنوا له.
ومنذ ذلك إلحاق العهد بالبيعة.
وإلحاق الصديق الزكاة بالصلاة، في كونها حقًا من حقوق الكلمة، ورجوعهم إليه.
واتفاقهم على كتب القرآن؛ قياسًا على الدراسة؛ لاشتراكهما في طريق
الحفظ، فاقترحه عمر أولاً، ثم شرح صدر أبي بكر له بعد قوله:(كيف أفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي هذه الكلمة اعتبار لمن تدبر، وأن أبا بكر- رضي الله عنه ما عمل بالرأي إلا وهو عالم على القطع بأنه من مدارك الشرع؛ فإن من يتقيد بالاتباع حتى في كتب القرآن كيف يخترع من قبل نفسه الحكم بالرأي؟
ومن ذلك مسألة الجد الإخوة، اجتهدوا فيها، واختلفت أقيستهم فيها، والاعتراف بعدم النص.
وقول بعض الأنصار وقد ورث أم الأم دون أم الأب: (لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها، وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت)، فرجع أبو بكر إلى التشريك بينهما في السدس.
واختلاف أبي بكر وعمر في التسوية والمفاضلة في العطاء.
ومن ذلك رجوع عمر إلى الاشتراك في مسألة المشتركة؛ لقولهم: (هب أن أبانا كان حمارًا، ألسنا من أم واحدة؟).
ومن ذلك - لما بلغه أن سمرة أخذ الخمر من تجار اليهود في العشر، وخللها وباعها-: قاتل الله سمرة! أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم، فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها).
قاس الخمر على الشحم في تحريم الثمن؛ لاشتراكهما في تحريم العين.
ومن ذلك قضاء عثمان- رضي الله عنه في توريث المبتوتة في مرض الموت بالرأي؛ معارضة له بنقيض قصده كالقاتل.
وتصريح علي- رضي الله عنه بتكميل الحد في الشرب بقوله: متى
سكر هذي ومن هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري)، وهو أبعد أنواع القياس؛ فإنه ألحق مظنة الافتراء مع بعده بنفس الافتراء في حكم الزجر؛ لأن الشرع صرف مظنة الحديث بالحدث في انتقاض الوضوء، وشغل الرحم بنفس الشغل في إيجاب العدة.
وقول ابن عباس لما سمع نهيه- عليه السلام عن بيع الطعام قبل أن يقبض (لا أحسب كل شيء إلا مثله).
وقوله في المتطوع بالصوم إذا بدا له: إنه كالمتبرع أراد التصدق بما له، فتصدق ببعضه، ثم بدا له.
قال: فإن قيل: إن إلقاء الجنين بالسبب معلوم بالنص، وإمامة الصديق لم يجمعوا عليها، بل معظمهم لم يحضر، ومن وافق مستنده ظواهر نصوص أفادت عنده القطع؛ لتقديمه عليه السلام أبا بكر للصلاة.
وقوله عليه السلام لعبد الرحمن: (ائتني بلوح، أو كتف أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه).
وقوله- عليه السلام للمرأة حين قالت له: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول: الموت، قال- عليه السلام:(فإن لم تجديني فأت أبا بكر).
بل نقول: علم ضرورة من مقاصده- عليه السلام وقواعد سيرته في الشريعة استحالة إهمال هذه الأمة وتركهم سدى، فرجع حاصل نظرهم إلى تعيين من تجب طاعته مع القطع بوجوبها، فهو كتعيين جهة القبلة مع العلم بوجوب استقبالها، وتعيين الشاهد، وقدر كفاية القريب، وجزاء الصيد.
وإما إقدامه على قتال مانعي الزكاة، فهو تمسك بالنص، وهو قوله تعالى:{خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] والأخذ من الممتنع دون قتاله ممتنع، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، وأبو بكر نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه ما يلزمه، وأما الجد فورثه بالنص، فكيفما قلبوا أمرهم ورثوا بالنص، وحرمان أحدهم عمل بنص استحقاق الآخر، والمقاسمة أو التفضيل عمل بكل واحد من النصين.
قال: قلنا: أما الجنين فلم يرد النص إلا في ضربه، وإمامة الصديق فلا شك في اتفاق الكل آخر الأمر، ثم تعيينه لم يكن إلا باجتهاد، لم ينازع أحد في ذلك، وإنما نازع في إصابته في الاجتهاد.
وقولهم: (فيه نصوص) باطل؛ لأن أحدًا لم يذكره في معرض التمسك، مع أن أبا بكر يقول:(ذروني فلست بخيركم).
وقول القائل: (رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟)، فيجعله من باب القياس، وإلحاق الأدنى بالأعلى، ولو كان ثم نص لأظهروه، كما في تعيين الجنس بالوصف في قوله- عليه السلام:(الأئمة من قريش).
وأما قوله- عليه السلام: (إيت أبا بكر) إخبار عن موجب ما يقع، لا أنه تولية، ولم يصرح- عليه السلام بقوله:(نصبت لكم أفضلكم وأعلمكم، فاجتهدوا أنت في تعيينه) حتى يكون مثل القبلة وغيرها.
وأما قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} [التوبة: 103]، فخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتعدى لغيره إلا بالرأي، وهو القياس.
والجد لو فهم أنه أب من لفظ (الأب) لما اختلفوا فيه، كما لو يختلفوا فيه مع اجتماعه مع الابن.
وقد اختلفوا فيه كثيرًا، حتى قال عبيدة السلماني:(أحفظ لعمر- رضي الله عنه في الجد مائة قضية يخالف بعضها بعضًا).
قلت: ينبغي أن يعلم من كلامه أمرين:
أحدها: أن كثيرًا من استدلاله يرجع إلى القواعد لا إلى القياس، والاستدلال بالقواعد، وبوجود خاصية الشيء عليه، وبانتفاء لازمه على انتفائه، وغير ذلك- إنما هو تنازع في القياس، وهو غير هذه الأمور؛ لأنه يفتقر إلى صورتين تلحق إحداهما بالأخرى، وهذه الأمور لا تحتاج إلى ذلك.
وثانيهما: أن النظائر التي ذكرها شديدة الدلالة على اعتبار الصحابة المصالح المرسلة؛ فإن البيعة والعهد، وجمع القرآن، ونحو ذلك، لا يمكن تخريجه إلا عليها، فإنها مصالح عظيمة لم يرد فيها نص ولا نهي عن اعتبارها، وهذا هو المصلحة المرسلة.
***