الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلك السابع
قال الرازي: وهو المعقول: أن القياس يفيد ظن دفع الضرر؛ فوجب جواز العمل به
.
بيان الوصف: أن من ظن أن الحكم في الأصل معلل بكذا، وعلم أو ظن حصول ذلك الوصف في الفرع، وجب أن يحصل له الظن بأن حكم الفرع مثل حكم الأصل، ومعه علم يقينين بأن مخالفة حكم الله تعالى سبب العقاب، فتولد من ذلك الظن، وهذا العلم: ترك العمل به سبب للعقاب؛ فثبت أن القياس يفيد ظن الضرر.
بيان التأثير: أن العاقل يعلم ببديهة عقله: أنه لا يمكنه الخروج عن النقيضين ولا يمكنه الجمع بينهما، بل يجب، لا محالة: ترجيح أحدهما على الآخر، ونعلم بالضرورة، أن ترجيح ما غلب على ظنه خلوة على المضرة؛ على ما غلب على ظنه اشتماله على المضرة- أولى من العكس، ولا معنى لجواز العمل بالقياس إلا هذا القدر.
فإن قيل: دليلكم مبني على إمكان ما يدجل على أن الحكم في الأصل معلل بعلة؛ ثم على وجود ذلك الوصف في الأصل، ثم على إمكان ما يدل على حصول ذلك الوصف في الفرع، ثم على أنه يلزم من حصول ذلك الوصف في الفرع ظن حصول ذلك الحكم فيه؛ وتقرير هذه المقامات الخمس سيأتي في الأبواب الآتية، إن شاء الله تعالى.
سلمنا حصول هذا الظن؛ فلم قلتم: إن العمل به واجب؟
قوله: (لأن ترجيح الخالي عن الضرر على المشتمل عليه متعين في بديهة العقل):
قلنا: هذا منفوض بما أنه لا يجب على القاضي أن يعمل بقول الشاهد الواحد، إذا غلب على ظنه صدقة، وأن يعمل في الزنا بقول الشاهدين، إذا غلب على ظنه صدقهما، وبما إذا ظهرت مصلحة لا يشهد باعتبارها حكم شرعي البتة، وبما إذا أدعى الرجل الذي غلب على الظن صدقه للنبوة، وبما إذا غلب على ظن الدهري، واليهودي والنصراني والكافر قبح هذه الأعمال الشرعية، فإن غلبة الظن حاصلة في هذه الصورة، ولا يجوز العمل بها.
فإن قلت: المظنة إنما تفيد الظن، إذا لم يقم دليل قاطع على فسادها؛ وفي هذه الصور قد قامت الدلالة على فسادها؛ فلا يبقى الظن.
قلت: فعلى هذا التقدير: القياس إنما يفيد ظن دفع الضرر، إذا لم يوجد دليل يدل على فساد القياس؛ فيصير نفي ما يدل على فساد القياس جزءًا من المقتضى لظن الضرر؛ فعليكم أن تثبتوا أنه لم يوجد ما يدل على نفي القياس، حتى يمكنكم ادعاء حصول ظن الضرر، وبعد المجاوزة عن النقض تقول: متى يجب الاحتراز عن الضرر المظنون، إذا أمكن تحصيل العلم به، أم إذا لم يمكن؟.
الأول: ممنوع؛ فإن الشيء، إذا أمكن تحصيل العلم به، فالاكتفاء بالظن- مع جواز كونه خطأ- إقدام على ما لا يؤمن كونه قبيحًا مع إمكان الاحتراز عنه؛ وهو غير جائز بالاتفاق.
والثاني: مسلم؛ ولكن إنما يجوز الاكتفاء بالظن في الوقائع الشرعية، إذا
بينتم أنه لا طريق إلى تحصيل العلم بها البتة، وذلك إنما يصح لو ثبت أنه لم يوجد في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أحكام تلك الوقائع، ولم يوجد في الزمان إمام المعصوم يعرفنا تلك الأحكام؛ فإن بتقدير وجود أحد هذه الأمور، كان تحصيل اليقين بالحكم ممكنًا.
سلمنا أنه لا طريق إلى تحصيل العلم بها؛ لكن لم قلت: إنه لم يوجد ما يقتضي ظنًا هو أقوى من الظن الحاصل بالقياس؟ فإن بتقدير إمكان ذلك، كان التعويل على القياس اكتفاء بأضعف الظنين مع القدرة على تحصيل الأقوى؛ وإنه غير جائز.
ثم نقول: إن دل ما ذكرتموه على صحة القياس، فمعنا ما يدل على فساده، وهو الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، وإجماع العترة، والمعقول:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات: 1] والقول بالقياس تقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [البقرة: 196، والأعراف: 33]{ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36} والقول بالحكم في الفرع لأجل القياس قول بالمظنون، لا بالمعلوم.
وأيضًا: قال الله تعالى: {وأن أحكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] والحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله تعالى.
وأيضًا: قال الله تعالى: {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59]{وما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] فهذه الآية دالة على اشتمال الكتاب على الأحكام الشرعية بأسرها، فإذن: كل ما لبس في الكتاب،
وجب ألا يكون حقًا، وعند ذلك نقول: ما دل عليه القياس، إن دل عليه الكتاب، فهو ثابت بالكتاب، لا بالقياس.
وإن لم يدل عليه الكتاب، كان باطلاً، وأقوى ما تمسكوا به من الآيات قوله تعالى:{إن الظن لا يغني من الحق شيئًا} [يونس: 36] وجه الاستدلال به: أن في القياس الشرعي لابد وأن يكون تعليل الحكم في الأصل، وثبوت تلك العلة في الفرع ظنيًا، ولو وجب العمل بالقياس، لصدق على ذلك الظن: أنه أغنى من الحق شيئًا؛ وذلك يناقض عموم النفي.
فإن قلت: (يشكل التمسك بهذه النصوص بالفتوى، والشهادات، وأمارات القبلة):
قلت: تخصيص العام- في بعض الصور- لا يخرجه عن كونه حجة.
وأما السنة: فخبران:
الأول: قوله- عليه الصلاة والسلام: (تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب، وبرهة بالسنة، وبرهة بالقياس، فإذا فعلوا ذلك، فقد ضلوا).
الثاني: قوله- عليه الصلاة والسلام: (تفترق أمتي على بعض وسبعين فرقة، أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحرمون الحلال، ويحللون الحرام).
فإن قلت: (خبر الواحد لا يعارض الدليل العقلي الذي ذكرناه):
قلت: الدليل الذي ذكرتموه هو أن القياس يفيد الضرر المظنون؛ فيجب
الاحتراز عنه، ولا شك أن خبر الواحد يفيد الظن، فإذا ورد في المنع من القياس، أفاد ظن أن التمسك به سبب الضرر؛ وذلك يوجب الاحتراز عنه.
وأما إجماع الصحابة: فهو أنه نقل عن كثير منهم التصريح بذم القياس؛ على ما تقدم بيانه، ولم يظهر من أحد منهم الإنكار على ذلك الذم، وذلك يدل على انعقاد الاجتماع على فساد القياس.
فإن قلت: (هذا معارض بأنه نقل عنهم: أنهم اختلفوا في مسائل، مع أنه لا طريق لهم إلى تلك المذاهب إلا القياس):
قلت: ما ذكرناه أولى؛ لأن التصريح راجح على ما ليس بتصريح.
وأما إجماع العترة: فلأنا، كما نعلم بالضرورة بعد مخالطة أصحاب النقل:
أن مذهب- الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة ومالك- رحمهما الله-: القول بالقياس، فكذا نعلم بالضرورة أن مذهب أهل البيت؛ كالصادق، والباقر: إنكار القياس، وقد تقدم في- باب الإجماع- أن إجماع العترة حجة.
وأما المعقول: فمن وجوه:
الأول: لو جاز العمل بالقياس، لما كان الاختلاف منهيًا عنه؛ لكنه منهي عنه؛ فالعمل بالقياس غير جائز.
بيان الملازمة: أن العمل بالقياس اتباع الأمارات، وذلك يقتضي وقوع الاختلاف؛ لا محالة، ووقوع ذلك شاهد على صحة ما قلناه.
بيان أنه لا تجوز المخالفة: قوله تعالى: {ولا تنازعوا؛ فتفشلوا، وتذهب ريحكم} [الأنفال: 46].
الثاني: أن الرجل، لو قال:(أعتقت غانمًا لسواده، فقيسوا عليه) لم يعتق سائر عبيده السود؛ فضلاً عما إذا لم يأمر بالقياس.
فإذا قال الله تعالى: {حرمت الربا في البر} فكيف يجوز القياس عليه؟ فهذا كله كلام من لم يمنع القياس عقلاً.
أما المانعون منه عقلاً: فقد ذكرنا أن منهم: من خص ذلك المنع بهذا الشرع، ومنهم: من منعه في كل الشرائع.
أما الأول: فهو قول النظام؛ واحتج عليه بأن مدار هذا الشرع على الجمع بين المختلفات، والفرق بين المتماثلات، وذلك يمنع من القياس في هذا الشرع.
بيان الأول بصور:
إحداها: أنه جعل بعض الأزمنة والأمكنة أشرف من بعض، مع استواء الكل في الحقيقة؛ قال الله تعالى:{ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3] وفضل الكعبة على سائر البقاع.
وثانيتهما: جعل التراب طهورًا، مع أنه ليس بغسال، بل يزيد في تشويه الخلقة.
وثالثتهما: فرض الغسل من المني، والرجيع أنتن منه.
ورابعتها: نهانا عن إرسال السبع على مثله، وأقوى منه، ثم أباح إرساله على البهيمة الضعيفة.
وخامستها: نقص من صلاة المسافر الشطر مما كان عدده أربعًا، وترك ما كان ركعتين.
وسادستها: أسقط الصوم والصلاة عن الحائض، ثم أوجب عليها قضاء الصوم، مع أن الصلاة أعظم قدرًا من الصوم.
وسابعتها: جعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن، والمائة من الجواري الحسان لا يحصن.
وثامنتها: حرم النظر إلى شعر العجوز الشوهاء، مع أنها لا تفتن الرجال الشبان البتة، وأباح النظر إلى محاسن الأمة الحسناء، مع أنها تفتن الشيخ.
وتاسعتها: قطع سارق القليل، وعفا عن غاصب الكثير.
وعاشرتها: جلد بالقذف بالزنا، ولم يجلد بالقذف بالكفر.
وحادية عشرها: قبل من الكفر والقتل شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلا أربعة، وهو دونهما.
وثانية عشرها: جلد قاذف الحر الفاجر، وعفا عن قاذف العبد العفيف.
وثالثة عشرها: أوجب على الصبية المتوفى عنها زوجها العدة، وفرق في العدة بين الموت والطلاق، مع أن حال الرحم لا يختلف فيهما.
ورابعة عشرها: جعل استبراء الأمة بحيضة، والحرة المطلقة بثلاث حيض.
وخامسة عشرها: يخرج الريح من موضع الغائط، وفرض تطهير موضع أخر، مع أن غسل ذلك المكان أولى.
إذا ثبت هذا، فنقول: إن مدار القياس على أن الصورتين لما تماثلتا في الحكمة والمصلحة، وجب استواؤهما في الحكم؛ لكن هذه المقدمة لو كانت حقة، لامتنع التفريق بين المتماثلات، والجمع بين المختلفات في تلك الصور،
فلما لم يمتنع ذلك، علمنا فساد تلك المقدمة، وإذا فسدت تلك المقدمة، بطل القول بالقياس.
وأما الذين منعوا من القياس في كل الشرائع، فقد عرفت أنهم ثلاث فرق:
الفرقة الأولى: الذين أنكروا كون القياس طريقًا إلى الظن، وهؤلاء قد تمسكوا بوجوه:
أحدها: أن البراءة الأصلية معلومة، والحكم الثابت بالقياس، إما أن يكون على وفق البراءة الأصلية، أولاً على وفقها: فإن كان على وفقها، لم يكن في القياس فائدة، وإن كان على خلافها، كان ذلك القياس معارضًا للبراءة الأصلية؛ لكن البراءة الأصلية دليل قاطع، والقياس دليل ظني، والظني إذا عارض اليقيني كان الظني باطلاً؛ فيلزم كون القياس باطلاً.
وثانيها: أن القياس لا يتم في شيء من المسائل، إلا إذا سلمنا أن الأصل في كل شيء بقاؤه على ما كان؛ إذ لو لم يثبت ذلك، فهب أن الشارع أمر بالقياس، ولكن كيف يعرف أنه بقي ذلك التكليف، وإذا نص على حكم الأصل، فكيف يعرف أن ذلك الحكم باقٍ في هذا الزمان؛ فثبت أن القياس لا يتم إلا مع المساعدة على هذا الأصل.
إذا ثبت ذلك، فنقول: الحكم المثبت بالقياس: إما أن يكون نفيًا أو إثباتًا: فإن كان نفيًا، فلا حاجة فيه إلى القياس؛ لأنا علمنا أن هذا الحكم، كان معدومًا في الأزل، والأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان، فيحصل لنا الظن ذلك العدم، فيكون إثبات ذلك الظن بالقياس مرة أخرى عبثًا.
فإن قلت: (ثبوته بدليل لا يمنع من ثبوته بدليل آخر).
قلت: نعم؛ ولكن بشرط ألا يفتقر الدليل الثاني إلى الأول، وأما إذا افتقر إليه، كان التمسك بالدليل الثاني تطويلاً محضًا من غير فائدة، وأما إن كان الحكم المثبت بالقياس إثباتًا، فنقول: قد بينا أن قولنا: (إن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان): يقتضي ظن عدم ذلك الحكم في الحال، فلو اقتضى القياس ثبوته في الحال، مع أن القياس متفرع على تلك المقدمة لزم وقوع التعارض بين تلك المقدمة التي هي الأصل، وبين القياس، الذي هو الفرع، ولا شك أن في مثل هذا التعارض يجب ترجيح الأصل على الفرع؛ فوجب القطع ها هنا بسقوط القياس.
وثالثها: أن القياس لا يفيد ظن الحكم إلا إذا ظننا كون الحكم في الأصل معللاً بالوصف الفلاني، وذلك الظن محال؛ لما سيأتي في الباب الثاني: أن تعليل الحكم الشرعي محال.
الفرقة الثانية: الذين سلموا أن القياس يفيد الظن؛ لكنهم قالوا: لا يجوز التكليف باتباع الظن؛ قالوا: لأن الظن قد يخطئ، وقد يصيب؛ فالأمر به أمر بما يجوز أن يكون خطأ؛ وذلك غير جائز.
الفرقة الثالثة: الذين قالوا: يجوز التكليف بإتباع الظن؛ لكنه غير جائز ها هنا؛ قالوا: لأن الاكتفاء بالقياس اقتصار على أدون البابين، مع القدرة على أعلاهما؛ وذلك غير جائز، إنما قلنا:(إنه اقتصار على أدون البابين) لأنا نعلم بالضرورة أن تنصيص صاحب الشرع أظهر في باب البيان من التفويض إلى القياس، وإنما قلنا:(إنه مع القدرة على أعلاهما) لأنه لا امتناع في التنصيص على أحكام القواعد الكلية.
واحترزنا بهذا عن الشهادة، والفتوى، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، والتمسك بالأمارات في معرفة القبلة، والأمراض، والأرباح، والأمور الدنيوية؛ لأن هذه الأشياء تختلف باختلاف الأشخاص، والأوقات، والأمكنة، والاعتبارات، فالتنصيص عليها كالتنصيص على ما لا نهاية له؛ وهو محال.
وإنما قلنا: (إن الاقتصار على أدون البابين، مع القدرة على أعلاهما غير جائز) لأنه إذا لم يقع البيان على أقصى الوجوه، حسن من المكلف أن يحمل اليقين على صعوبة البيان، لا على تقصير نفسه؛ فالإتيان بكمال البيان إزاحة لعذر المكلف، فيكون كاللطف وترك المفسدة في الوجوب.
والجواب: أما النقوض، فقد ذكرنا أن الدليل الشرعي، لما قام على عدم الالتفات إلى تلك المظان- لم يبق الظن.
قوله: (فحينئذ يصير عدم الدليل المبطل للقياس جزءًا من المقتضى).
قلنا: ليس كل ما وجوده يمنع من عمل المقتضى، كان عدمه جزءًا من المقتضى؛ فإن الذي يمنع الثقيل من النزول لا يصير عدمه جزء المقتضى للنزول؛ لاستحالة كونه العدم من العلة الوجودية.
قوله: (جواز الرجوع إلى الظن في الشرعيات مشروط بعدم التمكن من تحصيل العلم):
قلنا: لا نسلم، فإنه إذا حصل الظن الغالب بسبب القياس؛ باشتمال أحد الطرفين عل المفسدة، والآخر على المصلحة- فإلى أن يستقصى في طلب العلم، لابد في الحال من أن يرجح أحد الطرفين على الآخر؛ لامتناع ترك
النقيضين، وصريح العقل يشهد بأنه لا يجوز ترجيح المرجوح؛ فتعين ترجيح الراجح، وهو الجواب أيضًا عن الإمام المعصوم.
وأما المعارضات: فنقول: أما التمسك بالآيات، فالجواب عنها: أن الدلالة لما دلت على وجوب العمل بهذا الظن، صار كأن الله تعال قال: مهما ظننت أن هذه الصورة تشبه تلك الصورة في علة الحكم، فأعلم قطعًا: أنك مكلف بذلك الحكم، وحينئذ يكون الحكم معلومًا، لا مظنونًا البتة.
وأما الأحاديث: فهي معارضة بالأحاديث الدالة على العمل بالقياس، وطريق التوفيق: أن نصرف الأمر بالقياس إلى بعض أنواعه، والنهي إلى نوع آخر، وأما إجماع الصحابة، فقد سبق الجواب عنه، وأما إجماع العترة، فممنوع، وروايات الإمامية معارضة بروايات الزيدية،؛ فإنهم ينقلون عن الأئمة جواز العمل بالقياس.
قوله: (العمل بالقياس يستلزم وقوع الاختلاف).
قلنا: وكذا العمل بالأدلة العقلية والنصوص يستلزم وقوع الخلاف؛ فما هو جوابكم هناك، فهو جوابنا ها هنا.
قوله: (لو قال لوكيله: (اعتق غانمًا لسوداه)، فإنه لا يعتق عليه كل عبيده السود):
قلنا: إنه لو صرح بعد ذلك، فقالك قيسوا عليه سائر عبيدي، لم يعتق عليه سائر عبيده، ولو نص الله تعالى على حكم، ثم قال:(قيسوا عليه)، فلا نزاع في جواز القياس؛ فظهر الفرق بين الصورتين، والسبب فيه أن حقوق العباد
مبنية على الشح والضنة، لكثرة حاجاتهم، وسرعة رجوعهم عن دواعيهم، وصوارفهم.
وأما شبهة النظام: فجوابها: أن غالب أحكام الشرع معلل برعاية المصالح المعلومة، والخصم إنما بين خلاف ذلك في صور قليلة جدًا، وورود الصور النادرة على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن؛ كما أن الغيم الرطب، إذا لم يمطر نادرًا، لا يقدح في ظن نزول المطر منه.
قوله: (البراءة الأصلية معلومة، والقياس دليل ظني، والظن لا يعارض اليقين):
قلنا: ينتقض ذلك بجواز العلم بالفتوى، والشهادة، وتقويم المقومين، وبجواز العمل بالظن في الأمور الدنيوية.
قوله: (القياس: إما أن يرد على وفق حكم الأصل، أو على خلافه):
قلنا: ينتقض بالأمور المذكورة.
قوله: (الظن قد يخطئ، وقد يصيب):
قلنا: ينتقض بالأمور المذكورة.
قوله: (الاكتفاء بالقياس اكتفاء بأدون البابين، مع القدرة على أعلاهما):
قلنا: إنه كذلك؛ فلم لا يجوز؟.
فإن قالوا: لأنه لطف، واللطف واجب.
قلنا: الكلام على هذه الطريقة سبق في باب الإجماع على الاستقصاء.
المسلك السابع
قال القرافي: قوله: (القياس يفيد ظن الضرر، فيجب العمل به .....) إلى آخره.
قلنا: سلمنا أنه يفيد ظن الضرر، لكن لم قلت: إن ظن الضرر معتبر؟
وبيانه: أن العمل بالشاهد الواحد يفيد ظن الضرر، وكذلك النساء منفردات في أحكام الأموال والدماء، وجماعة الكفار والفساق والصبيان، مع وجود هذا الظن، وهو ملغي، فعلمنا أن الشرع لم يعتبر مطلق الظن كيف كان، بل لابد من دليل شرعي يدل على النوع المراد لصاحب الشرع، وأما هذه المقدمة بمفردها، فغير مفيدة.
وأما قوله: (الجمع بين النقيضين ورفعهما محال، وترجيح المرجوح على الراجح مدفوع ببديهية العقل) فلا يتجه؛ لأن الفرق حاصل بين ارتفاع النقيضين وبين عدم الحكم بارتفاع النقيضين، فقد يجهل الواقع منهما أو يشك فيه، وكذلك الحكم في صورة النزاع، فإنا لا نحكم بالراجح ولا بالمرجوح؛ لأنا نقضي بارتفاع الراجح والمرجوح، ولا محال حينئذ.
قوله: (لو قال: (أعتقت غانمًا لسواده، فقيسوا عليه) لم يعتق سائر عبيده السود):
قلنا: ما سبب ذلك إلا أن العتق حكم شرعي، والقاعدة أن حكم كل أحد يتبع علته التي هي معتمدة في ذلك الحكم، وهذه العلة لم ينصبها صاحب الشرع، فلا تكون علة له، ولم نقل: كل ما جعله المكلف علة كان علة شرعية، فالعتق حكم شرعي، فلا يتبع إلا ما نصبه الشرع علة، فلو قال المكلف: قد جعلت الخروج من المنزل سبب الطلاق، أو الشتم سبب وجوب الصدقة على، وغير ذلك لم يصر شيء من ذلك علة شرعية؛ لعدم جعل الشارع لها.
نظيره أن يقول لعبده: (إن صديقي إذا دخل عندي، فإني أكره حضورك أو غيبتك)، فإن ذلك يتكرر كلما جاء صديقه؛ لأن العلة والحكم ليس فيهما شرعي، والعلة الشرعية يتبعها الحكم الشرعي، ولا يتبعها حكم غير صاحب الشرع، والعلة التي ليست شرعية يتبعها حكم واضعها، لا حكم الشرع، وعلى هذه القاعدة خرجت هذه المسألة.
قوله: (فرق بين الأزمنة المتساوية):
قلنا: نحن إنما ندعي حسن القياس في الأحكام الشرعية الخمسة، أما التفضيلات، ومقادير الثواب، وغير ذلك، فلا مدخل لقياس فيه، فلا يرد نقضًا.
قوله: (شرع التيمم مع أنه ليس منفيًا).
قلنا: علل الشرع يخلف بعضها بعضًا، ولا ينافي ذلك القياس.
بل تقريره: والعلة التي خلفت- ها هنا- هي ضبط العادة على المكلف إلا يقدم على الصلاة إلا بنقل يتقدمها، فلا تشق عليه الطهارة بعد ذلك عند وجود الماء.
وكذلك الغسل من المني دون الرجيع؛ لأن المني يخرج من جملة الجسد، بخلاف الرجيع، فهو على قاعدة التعليل.
وإرسال اكلب على الصيد معلل بأنه يقبل التعليم، فلا تغلبه عليه قوته، فيصير بذلك كالآلة للصائد، بخلاف السبع على سبع آخر؛ فإنه تعذيب الحيوان لغير المأكلة، مع غلبة المفاسد المانعة من جعله آلة للصائد.
وتخصيص الأربع دون الاثنين في صلاة المسافر؛ لأن الأربع تكثير، بخلاف الاثنين، وسقوط قضاء الصلاة عن الحائض دون الصوم؛ لأن الصلاة تتكرر دون الصوم، فتعظم مشقة قضائها؛ بخلاف الصوم لا يأتي إلا
مرة في السنة، ولعلها لا يصادفها حيض فيه، فلا مشقة حينئذ، والحرة تحصن وإن كان شوهاء، دون الجارية الحسناء؛ بناء على مراعاة العلة في الجنس؛ فإن أصل الإماء أن يردن للخدمة دون الوطء، فوطؤهن على خلاف الدليل، ومقاصد ذوي المروءات، والاتفاق على استيلاء الرقيق لدناءة الأصول، فوطؤهن ليس فيه من كمال النعمة ما في الحرائر.
والرجم إنما هو على من عظمت رتبته بعظيم نعمة الله- تعالى- عليه، فناسب حينئذ تحصبن هذه دون تلك؛ مراعاة للجنس، واعتبار العلة في الجنس من قواعد القياس.
وهو السر في تحريم النظر للحرة الشوهاء، دون الأمة الجميلة؛ نظرًا لعلة في الجنس؛ فإن الإماء جنسهن المالية الغالبة عليهم دون الآدمية، وهو سبب قول جماعة عظيمة: إن القيمة فيهن دون الدية؛ تغليبًا للمالية، والمال لا يحرم النظر إليه.
وقطع السارق دون الغاصب؛ لأن السارق يأخذ المال بخفية، فلا يحتاج لمزيد قوة ولا عصبية ولا مشاهدة، والغصب يحتاج إلى ذلك، فيندر بالنسبة إلى السرقة، فتكثر السرقة، فناسب الزجر عنها بالعقوبة دونه، يكتفي فيه بالتعزيز، لظهوره وندرته، فهذه كلها تعاليل من قواعد القياس.
ورد الشاهدين في الزنا؛ لعلة طلب الستر.
وفي القتل لم يحسن إلا إثباته صونًا للدماء والأموال، ولا عار فيه، بخلاف الزنا، وجلد القاذف بالزنا دون الكفر؛ لعدم العار في اكفر؛ لأنه من باب التدين، لا من باب الفواحش.
وقاذف الحر الفاجر يحد، بخلاف العبد العفيف؛ نظرًا إلى شرف الحرية، فهو ملاحظة العلية في الجنس، دون الصور الجزئية.
والتفرقة في العدة بين الموت والطلاق؛ لأن الموت غاب فيه صاحب النسب، فاحتاط له الشارع بالإحداد، وتعميم العدة وتكثيرها، والطلاق صاحب النسب فيه مودود يحفظ عرضه ونسبه، فخفف الشرع فيه؛ لعلة قلة الحاجة لذلك.
واستبراء الحرة ثلاث، والأمة واحدة؛ لأن الحرة أشرف، ونسبها أشرف، فاحتيط للشريف أكثر من الوضيع، فهو على قاعدة التعليل عاضد للقياس لا مناقض له.
والوضوء من الريح دون غسل الموضع لا فائدة فيه؛ لأنه لو غسل لكان لموضع التنجيس، وحينئذ يجب على الثياب كلها كلما خرج ريح، وذلك مشقة عظيمة، مع أن الذي يصحب الريح من النجاسة إنما هو (النتن) لا جوهر له، ولا جرم يستقذر، بخلاف نجاسة الأجرام الحسية. وأما الوضوء فقال بعض العلماء: إنما وجب من جميع هذه الأشياء ملاحظة لإبليس، وما يقع من إغوائه على أكل الشجرة، واستقرت في المعدة، فأوجبت (النتن) لمكان المعصية، وكان المناسب أن يغسل الباطن في كل حين يحدث فيه مثل ذلك، غير أن الشارع أمر بوضع الوضوء دائرًا حوال موضع (النتن) لتعذر وضعه في موضع (النتن)، فأمر بوضعه في الرجلين والرأس، وهما الطرفان، واليدين وهما الجناحان، وصار ذلك كدائرة حول موضع (النتن) ومستقر أثر المعصية.
فهذه كلها تعاليل حسنة مقوية لطلب الحكم ومشروعية القياس، واعتبار المصالح تحصيلاً، والمفاسد دفعًا.
ومن اعتبر الشرائع كلها وجدها مصالح للعباد حاثة على القياس، وتتبع المصلحة في جميع صورها، فما أورده النظام نقوضًا، فهو نصوص على القياس لا نقوض عليه.
قوله: (إن كان القياس على وفق البراءة الأصلية لم يكن فيه فائدة، لأن قوله: (البراءة) دليل قاطع، والقياس ظني):
قلنا: البراءة مقطوع بأصلها، لا لشمولها جميع الأزمنة، بل هي في ذلك مظنونة أضعف من ظن القياس، فتقديم القياس عليها تقديم للظن القوى على الظن الضعيف، ولذلك قدمنا البينة وخبر الواحد عليها؛ لأن ظنها أقوى، ونسبتها للأزمنة والأحوال كنسبة العموم للأشخاص، فكما يخصص العموم المقطوع بأصله بسبب التواتر بخبر الواحد والقياس، كذلك ترفع البراءة الأصلية بهما.
قوله: (إن كان القياس يفيد النفي وهو ثابت في الأزل، فإثباته بالقياس عبث):
قلنا: قد تقدم أنه يفيد قوة الظن فلا عبث، وافتقار القياس لبقاء الشيء على ما كان عليه لا يمنع ذلك؛ فإن بقاء الشيء على ما كان عليه قد يكون في الثبوت، وقد يكون في العدم، فهذه مقدمة مشتركة بين الأدلة، وليست نفس البراءة الأصلية، ثم إن المفتقر للشيء قد يفيد تقويته، فإن الكل مفتقر لجزئه، وهو يقوى وجود الجزء، لأنه يستلزمه، وكذلك المعلول مع العلة، والمشروط مع الشرط.