الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
قال الرازي: في أن المناسبة لا تبطل بالمعارضة
، والدليل عليه: أن كون الوصف مناسبًا، إنما يكون لكونه مشتملًا على جلب منفعة، أو دفع مضرة، وذلك لا يبطل بالمعارضة.
أما الأول: فظاهر، وأما الثاني: فيدل عليه وجوه:
الأول: أن المناسبتين المتعارضتين: إما أن تكونا متساويتين، أو إحداهما أرجح من الأخرى:
فإن كان الأول: لم يكن بطلان إحداهما بالأخرى أولى من العكس، فإما أن نبطل كل واحدة منهما بالأخرى؛ وهو محال؛ لأن المقتضى لعدم كل واحدة منهما وجود الأخرى، والعلة لابد وأن تكون حاصلة مع المعلول، فلو كان كل واحدة منهما مؤثرة في عدم الأخرى، لزم أن تكونا موجودتين حال كونهما معدومتين؛ وذلك محال.
وإما ألا تبطل إحداهما بالأخرى عند التعارض؛ وذلك هو المطلوب، وأما إن كانت إحدى المناسبتين أقوى، فها هنا: لا يلزم التفاسد أيضًا؛ لأنه لو لزم التفاسد، لكان لما بينهما من المنافاة؛ لكنا بينا في القسم الأول: أن لا منافاة بينهما؛ لأنهما اجتمعا، وإذا زالت المنافاة، لم يلزم من وجود أحدهما عدم الآخر.
الثاني: أن المفسدة الراجحة إذا صارت معارضة بمصلحة مرجوحة، فإما أن ينتفي شيء من الراجح؛ لأجل المرجوح، أو لا ينتفي:
والأول: باطل؛ وإلا لزم أن تكون المفسدة المعارضة بمصلحة مرجوحة مساوية للمفسدة الخالصة عن شوائب المصلحة، وذلك باطل بالبديهة.
والثاني أيضًا: باطل: لأن القدر الذي يندفع من المفسدة بالمصلحة يكون مساويًا لتلك المصلحة، فيعود التقسيم الأول في ذينك التقديرين المتساويين؛ في أنه ليس اندفاع أحدهما بالآخر أولى من العكس، فإما أن يندفع كل واحد منهما بالآخر؛ وهو محال، أو لا يندفع واحد منهما بالآخر؛ وهو المطلوب.
وأيضًا فليس اندفاع بعض أجزاء الطرف الراجح بالطرف المرجوح، وبقاء بعضه- أولى من اندفاع ما فرض باقيًا، وبقاء ما فرض زائلًا؛ لأن تلك الأجزاء متساوية في الحقيقة.
الثالث: وهو أنه تقرر في الشرع إثبات الأحكام المختلفة؛ نظرًا إلى الجهات المختلفة؛ مثل الصلاة في الدار المغصوبة؛ فإنها من حيث إنها صلاة سبب الثواب، ومن حيث إنها غصب سبب العقاب، والجهة المقتضية للثواب مشتملة على المصلحة، والجهة المقتضية للعقاب مشتملة على المفسدة، وعند ذلك: نقول: المصلحة والمفسدة: إما أن يتساويا، أو تكون إحداهما راجحة على الأخرى، فعلى تقدير التساوي: يندفع كل واحد منهما بالآخر، فلا تبقى لا مصلحة، ولا مفسدة؛ فوجب ألا يترتب عليها لا مدح، ولا ذم، وقد فرضنا ترتبهما عليها؛ هذا خلف.
وإن كانت الجهتين راجحة، كانت المرجوحة معدومة، فيكون الحاصل: إما المدح وحده، أو الذم وحده، وقد فرضنا حصولهما معًا؛ هذا
خلف، واعلم أن هذا الوجه مبني على قول الفقهاء: الصلاة في الدار المغصوبة عبادة من وجه، معصية من وجه.
الرابع: العقلاء يقولون في فعل معين: (الإتيان به مصلحة في حقي، لولا ما فيه من المفسدة الفلانية) ولولا صحة اجتماع وجهي المفسدة والمصلحة، وإلا لما صح هذا الكلام، والله أعلم).
الفن الثاني من هذا الفصل
في إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على العلية: فنقول: المناسبة تفيد ظن العلية، والظن واجب العمل به.
بيان الأول من وجهين:
الأول: أن الله تعالى شرع الأحكام؛ لمصلحة العباد، وهذه مصلحة؛ فيحصل ظن أن الله تعالى إنما شرعه لهذه المصلحة، فهذه مقدمات ثلاث، لابد من إثباتها بالدليل:
أما المقدمة الأولى: فالدليل عليها وجوه:
أحدها: أن الله تعالى خصص الواقعة المعينة بالحكم المعين؛ لمرجح، أو لا لمرجح: والقسم الثاني باطل؛ وإلا لزم ترجيح أحد الطرفين على الآخر، لا لمرجح؛ وهذا محال؛ فثبت القسم الأول.
وذلك المرجح: إما أن يكون عائدًا إلى الله تعالى، أو إلى العبد: والأول باطل؛ بإجماع المسلمين؛ فتعين الثاني، وهو: أنه تعالى إنما شرع الأحكام؛ لأمر عائد إلى العبد، والعائد إلى العبد: إما أن يكون مصلحة العبد، أو مفسدته، أو يكون لا مصلحته، ولا مفسدته:
والقسم الثاني والثالث: باطل؛ باتفاق العقلاء؛ فتعين الأول؛ فثبت أنه تعالى إنما شرع الأحكام؛ لمصالح العباد.
وثانيها: أنه تعالى حكيم؛ بإجماع المسلمين، والحكيم لا يفعل إلا لمصلحة؛ فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثًا، والعبث على الله تعالى محال؛ للنص والإجماع، والمعقول:
أما النص: فقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} [المؤمنون: 115]{ربنا ما خلقت هذا باطلًا} [آل عمران: 191]{ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 39].
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على أنه تعالى ليس بعابث.
وأما المعقول: فهو أن العبث سفه، والسفه صفة نقص، والنقص على الله تعالى محال؛ فثبت أنه لابد من مصلحة، وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله تعالى؛ كما بينا؛ فلابد من عودها إلى العبد؛ فثبت أنه تعالى شرع الأحكام؛ لمصالح العباد.
وثالثها: أن الله تعالى خلق الآدمي مشرفًا مكرمًا؛ لقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70] ومن كرم أحدًا، ثم سعى في تحصيل مطلوبه، كان ذلك السعي ملائمًا لأفعال العقلاء، مستحسنًا فيما بينهم؛ فإذن: ظن كون المكلف مكرمًا يقتضى ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له.
ورابعهما: أن الله تعالى خلق الآدميين للعبادة؛ لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] والحكيم إذا أمر عبده بشيء، فلابد وأن يزيح عذره وعلته، ويسعى في تحصيل منافعه، ودفع المضار عنه؛
والقسم الثاني والثالث: باطل؛ باتفاق العقلاء؛ فتعين الأول؛ فثبت أنه تعالى إنما شرع الأحكام؛ لمصالح العباد.
وثانيها: أنه تعالى حكيم؛ بإجماع المسلمين، والحكيم لا يفعل إلا لمصلحة؛ فإن من يفعل لا لمصلحة يكون عابثًا، والعبث على الله تعالى محال؛ للنص والإجماع، والمعقول:
أما النص: فقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} [المؤمنون: 115]{ربنا ما خلقت هذا باطلًا} [آل عمران: 191]{ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 39].
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على أنه تعالى ليس بعابث.
وأما المعقول: فهو أن العبث سفه، والسفه صفة نقص، والنقص على الله تعالى محال؛ فثبت أنه لابد من مصلحة، وتلك المصلحة يمتنع عودها إلى الله تعالى؛ كما بينا؛ فلابد من عودها إلى العبد؛ فثبت أنه تعالى شرع الأحكام؛ لمصالح العباد.
وثالثها: أن الله تعالى خلق الآدمي مشرفًا مكرمًا؛ لقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70] ومن كرم أحدًا، ثم سعى في تحصيل مطلوبه، كان ذلك السعي ملائمًا لأفعال العقلاء، مستحسنًا فيما بينهم؛ فإذن: ظن كون المكلف مكرمًا يقتضى ظن أن الله تعالى لا يشرع إلا ما يكون مصلحة له.
ورابعهما: أن الله تعالى خلق الآدميين للعبادة؛ لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] والحكيم إذا أمر عبده بشيء، فلابد وأن يزيح عذره وعلته، ويسعى في تحصيل منافعه، ودفع المضار عنه؛
وسادسها: أنه وصف نفسه بكونه رءوفًا رحيمًا بعباده، وقال:{ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156] فلو شرع ما لا يكون للعبد فيه مصلحة، لم يكن ذلك رأفة ولا رحمة.
فهذه الوجوه الستة دالة على أنه تعالى ما شرع الأحكام إلا لمصلحة العباد. ثم اختلف الناس بعد ذلك:
أما المعتزلة: فقد صرحوا بحقيقة هذا المقام، وكشفوا الغطاء عنه، وقالوا: إنه يقبح من الله تعالى فعل القبيح، وفعل العبث؛ بل يجب أن يكون فعله مشتملًا على جهة مصلحة وغرض.
وأما الفقهاء: فإنهم يصرحون بأنه تعالى إنما شرع هذا الحكم لهذا المعنى، ولأجل هذه الحكمة، ولو سمعوا لفظ الغرض، لكفروا قائله؛ مع أنه لا معنى لتلك (اللام) إلا الغرض.
وأيضًا: فإنهم يقولون: إنه وإن كان لا يجب على الله تعالى رعاية المصالح، إلا أنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة لعباده؛ تفضلًا منه وإحسانًا لا وجوبًا، فهذا هو الكلام في تقرير هذه المقدمة.
أما المقدمة الثانية: وهي أن هذا الفعل مشتمل على هذه الجهة من المصلحة، فظاهر؛ لأنا إنما نحكم بعلية الوصف، إذا بينا كونه كذلك.
أما المقدمة الثالثة: وهي أنا لما علمنا أنه لا يشرع إلا لمصلحة، وعلمنا أن هذا المعنى مصلحة، حصل لنا ظن أن الداعي له تعالى إلى شرع ذلك الحكم هو هذه المصلحة؛ فقد استدلوا عليه من وجهين:
الأول: وهو أن المصلحة المقتضية لشرع هذا الحكم: إما هذه المصلحة أو غيرها: ولا جائز أن يكون غيرها؛ لأن ذلك الغير: إما أن يقال: إنه كان مقتضيًا لذلك الحكم في الأزل، أو ما كان مقتضيًا له في الأزل؛ والأول باطل؛ وإلا لكان الحكم ثابتًا في الأزل؛ لكن التكليف بدون المكلف محال؛ فتعين الثاني؛ وهو أنه ما كان مقتضيًا لهذا الحكم في الأزل، وذلك يفيد ظن استمرار هذا السلب؛ لما سنبين، إن شاء الله تعالى: أن العلم بوقوع أمر على وجه مخصوص يقتضى ظن بقائه على ذلك الوجه أبدًا، وإذا ثبت ظن أن غير هذا الوصف ليس علة لهذا الحكم ثبت ظن أن هذا الوصف هو العلة لهذا الحكم، ونحن ما ادعينا إلا الظن.
الثاني: أن الظن بكون الحاكم حكيمًا، مع العلم بأن هذا الحكم فيه هذه الجهة من الحكمة، يفيد في الشاهد ظن أن ذلك الحكيم إنما شرع ذلك الحكم لتلك الجهة؛ وإذا كان الأمر كذلك في الشاهد، وجب أن يكون في الغائب مثله.
بيان المقام الأول: أنا إذا اعتقدنا في ملك البلدة: أنه لا يفعل فعلًا إلا لحكمة، فإذا رأيناه يدفع مالًا إلى فقير، وعلمنا أن فقره يناسب دفع المال إليه، ولم
تخطر ببالنا صفة أخرى فيها مناسبة لدفع المال إليه، غلب على ظننا أنه إنما دفع المال إليه؛ لفقره، نعم لا ننكر أنه يجوز أن يكون له غرض سوى ما ذكرناه؛ لكته تجويز مرجوح، لا يقدح في ذلك الظن الغالب.
أما إذا ظهر وجهان من المناسبة؛ مثل أن كان ذلك الفقير فقيهًا، فها هنا إن تساوى الوجهان في القوة، لا يبقى ظن أنه أعطاه لهذا الوصف، أو لذلك، أولهما جميعًا؛ فثبت أن العلم بكون الفاعل حكيمًا، مع العلم بحصول جهة معينة في الحكم، ومع الغفلة عن سائر الجهات يقتضى ظن أن ذلك الفاعل إنما فعل لتلك الحكمة.
بيان المقام الثاني: أن في الشاهد: دار ذلك الظن مع حصول ذنيك العلمين وجودًا وعدمًا، والدوران دليل العلية ظاهرًا؛ فيحصل ظن أن العلم بكون الفاعل حكيمًا، مع العلم باشتمال هذا الفعل على جهة مصلحة، ومع الغفلة عن سائر الجهات- علة لحصول الظن بأن ذلك الحكيم، إنما أتى بذلك الفعل لتلك الحكمة، والعلة أينما حصلت، حصل الحكم، فإذا حصل ذلك العلمان في أفعال الله تعالى وأحكامه، وجب أن يحصل ظن أنه تعالى، إنما شرع ذلك الحكم لتلك المصلحة؛ فثبت بهذا أن المناسبة تفيد ظن العلية.
الوجه الثاني: في بيان أن المناسبة تفيد ظن العلية: أن نسلم أن أفعال الله وأحكامه يمتنع أن تكون معللة بالدواعي والأغراض، ومع هذا فندعي أن المناسبة تفيد ظن العلية.
وبيانه: أن مذهب المسلمين: أن دوران الأفلاك، وطلوع الكواكب وغروبها، وبقاءها على أشكالها وأنوارها غير واجب؛ ولكن الله تعالى، لما أجرى عادته
بإبقائها على حالة واحدة، لا جرم يحصل ظن أنها تبقى غدًا، وبعد غد على هذه الصفات، وكذلك نزول المطر عند الغيم الرطب، وحصول الشبع عقيب الأكل، والري عقيب الشرب، والاحتراق عند مماسة النار غير واجب؛ لكن العادة لما اطردت بذلك، لا جرم حصل ظن يقارب اليقين باستمرارها على مناهجها.
والحاصل: أن تكرير الشيء مرارًا كثيرة يقتضي ظن أنه متى حصل، لا يحصل إلى على ذلك الوجه.
إذا ثبت هذا، فنقول: إنما لما تأملنا الشرائع، وجدنا الأحكام والمصالح متقارنين؛ لا ينفك أحدهما عن الآخر، وذلك معلوم بعد استقرار أوضاع الشرائع.
وإذا كان كذلك، كان العلم بحصول هذا مقتضيًا ظن حصول الآخر، وبالعكس، من غير أن يكون أحدهما مؤثرًا في الآخر، وداعيًا إليه؛ فثبت أن المناسبة دليل العلية، مع القطع بأن أحكام الله تعالى لا تعلل بالأغراض.
أما المقدمة الثانية من أصل الدليل، وهي: أن المناسبة لما أفادت ظن العلية، وجب أن يكون ذلك القياس حجة، فالاعتماد فيه على ما ذكرنا: أن العمل بالظن واجب؛ لما فيه من دفع الضرر عن النفس، وهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل.
فإن قيل: (لا نسلم أن الله تعالى شرع الأحكام لمصلحة العباد):
قوله: (تخصيص الصورة المعينة لابد وأن تكون لمرجح، وذلك المرجح يمتنع أن يكون عائدًا إلى الله تعالى، فلابد وأن يكون عائدًا إلى العبد):
قلنا: إما أن تدعي أن التخصيص لابد له من مخصص، أو لا تدعي ذلك: وعلى التقديرين: لا يمكن القول بتعليل أحكام الله تعالى بالمصالح: أما على القول بأن التخصيص لابد له من مخصص: فلأن أفعال العباد: إما أن تكون واقعة بالله تعالى، أو بالعبد:
فإن كان الأول: كان الله تعالى فاعلًا للكفر والمعصية، ومع القول بذلك يستحيل القول بأنه لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للعبد.
وإن كانت واقعة بالعبد الفاعل للمعصية مثلا، إما أن يكون متمكنًا من تركها، أو لا يكون: فإن لم يكن متمكنًا من تركها، وتلك القدرة والداعية مخلوقة لله تعالى، كان الله تعالى قد خلق في العبد ما يوجب المعصية، ويمتنع عقلًا انفكاكه عنها، ومع هذا: لا يمكن القول بأن الله تعالى يراعي مصالح العباد، وإن كان العبد متمكنًا من تركها فنقول: لما كان كونه فاعلًا للمعصية، وتاركًا لها أمرين ممكنين، لم يترجح أحدهما على الآخر، إلا لمرجح؛ لأنا نتكلم الآن تفريعًا على تسليم هذه المقدمة، فذلك المرجح: إن كان من فعل العبد، عاد التقسيم الأول، وإن كان من فعل الله تعالى: فإما أن يجب الترجيح عند حصول ذلك المرجح من الله تعالى أو لا يجب: فإن وجب، عاد الأمر إلى أنه تعالى فعل فيه ما يوجب المعصية، ومع هذا: لا يمكن القول بأن الله تعالى يراعي المصالح، وإن لم يجب، كان حصول الترجيح مع ذلك المرجح ممكنًا أن يكون، وألا يكون؛ فيفتقر إلى مرجح آخر، فإما أن يتسلل؛ وهو محال، أو ينتهي إلى الوجوب، فيعود الإشكال.
فإن قلت: (عند حصول المرجح يصير الترجيح أولى بالوقوع؛ لكنه لا ينتهي إلى حد الوجوب):
قلت: حصول الترجيح، ولا حصوله مع ذلك القدر من الأولوية، إن كان ممكنين، فلنفرض وقوعهما، فنسبة ذلك القدر من الأولوية إلى الترجيح، واللاترجيح- على السواء، فاختصاص أحد زماني حصول تلك الأولوية بالوقوع دون الزمان الثاني، يكون ترجيحًا للمكن المساوي من غير مرجح؛ وهو محال؛ لأنا نتكلم الآن؛ تفريعًا على هذه المقدمة؛ فثبت أن القول بافتقار التخصيص إلى المخصص يمنع من تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح.
وأما أن القول بأن التخصيص لا يفتقر إلى المخصص يمنع من القول بتعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح- فذلك ظاهر.
فثبت أن تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح باطل.
وهذا الكلام كما أنه اعتراض على ما قالوه، فهو دلالة قاطعة ابتداء في المسألة؛ وبه يظهر فساد سائر الوجوه التي عولوا عليها؛ لأنها أدلة ظنية، وما ذكرناه برهان قاطع.
ثم نقول: إن دل على ما ذكرتموه على أن تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح واقع، فمعنا أدلة قاطعة مانعة منه؛ وهي من وجوه:
الأول: أنه خالق أفعال العباد، وذلك يمنع من القول بأنه تعالى يراعي المصالح؛ إنما قلنا: إنه تعالى خالق أفعال العباد لوجوه:
أحدها: أن العبد لو كان موجدًا لأفعاله، لكان عالمًا بتفاصيل أفعاله، واللازم باطل؛ فالملزوم مثله.
بيان الملازمة: أن فعل العبد واقع على كيفية مخصوصة وكمية مخصوصة،
مع جواز وقوعه على خلاف تلك الكيفية والكمية؛ فلابد وأن يكون ذلك الاختصاص لمخصص؛ إذ لو عقل الاختصاص، لا لمخصص، لعقل اختصاص حدوث العالم بوقت معين، وقدر معين، مع جواز وقوعه، لا على هذا الوجه، لا لمخصص، وذلك يقتضي القدح في دليل إثبات الصانع؛ فثبت أنه لابد لفعل العبد من مخصص، والتخصيص مسبوق بالعلم؛ فإن التخصيص عبارة عن القصد إلى إيقاعه؛ على ذلك الوجه، والقصد إلى إيقاعه على ذلك الوجه مشروط بالشعور بذلك الوجه، فالغافل عن الشيء استحال منه القصد إلى إيقاعه، فثبت أنه لو كان موجدًا لأفعال نفسه، لكان عالمًا بتفاصيل أفعاله.
وإنما قلنا: (إنه غير عالم بتفاصيل أفعاله) لأن النائم فاعل، مع أنه لا يخطر بباله شيء من تلك التفاصيل، بل اليقظان يفعل أفعالًا كثيرة، مع أنه لا يخطر بباله كيفية تلك الأفعال؛ فإن من فعل حركة بطيئة، فذلك البطء: إنما أن يكون عبارة عن تحلل السكنات، أو عن كيفية قائمة الحركة: فإن كان الأول: فالفاعل للحركة البطيئة فاعل في بعض الأحيان حركة، وفي بعضها سكونًا، مع أنه لم يخطر بباله ذلك.
وإن كان الثاني: كان قد فعل حركة، وفعل فيها عرضًا آخر.
ثم ذلك البطء له درجات مختلفة، فهو قد فعل عرضًا مخصوصًا في عرض آخر، مع جواز أن يحصل سائر مراتب البطء، مع أنه لم يخطر بباله شيء من ذلك، فعلمنا أنه قد يفعل ما لم يخطر بباله؛ فثبت بهذه الدلالة أن العبد غير موجد لأفعال نفسه.
الثاني: أن موجد العبد مقدور لله تعالى، فيجب وقوعه بقدرة الله تعالى.
إنما قلنا: إن مقدور العبد لله تعالى؛ لأنه في نفسه ممكن، والإمكان مصحح للمقدورية.
وإنما قلنا: (إنه لما كان مقدورًا لله تعالى، وجب وقوعه بقدرة الله تعالى؛ لأنا لو قدرنا قدرة العبد صالحة للإيجاد، فإذا فرضنا أن كل واحد منهما أراد الإيجاد؛ فحينئذ: يجتمع على ذلك الفعل مؤثران مستقلان بالإيجاد؛ وذلك محال؛ لأن الأثر مع المؤثر المستقل به يصير واجب الوقوع، وكل ما كان واجب الوقوع في نفسه، استحال استناده إلى غيره، وحينئذ يلزم أن يستغنى بكل واحد منهما عن كل واحد منهما؛ فيلزم انقطاع ذلك المقدور عنهما حال استناده إليهما معًا؛ وهو محال.
والثالث: إذا فرضنا أن العبد أراد تحريك المحل حال ما أراد الله تعالى تسكينه، فإذا كانت قدرة العبد مستقلة في الإيجاد، وقدرة الله تعالى أيضًا مستقلة به- لم يكن وقوع أحد المقدورين أولى من وقوع الآخر، فإما أن يمتنعا؛ وهو محال؛ لأن المانع من وجود كل واحد منهما وجود الآخر، فالمانع حاصل حال تحقق الامتناع؛ فيلزم وجودهما عند عدمهما؛ وهو محال، أو يقعا جميعًا؛ فيلزم حصول الضدين؛ وهو محال.
فإن قلت: (قدرة الله تعالى أقوى، فكانت أولى بالتأثير):
قلت: إنها أقوى بمعنى أنها مؤثرة في أمور أخرى لا تؤثر فيها قدرة العبد، أما فيما يرجع إلى التأثير في ذلك المقدور الواحد، فيستحيل التفاوت؛ لأن ذلك المقدور شيء واحد؛ لا يقبل التفاوت، وإذا لم يكن هو في نفسه قابلًا للتفاوت استحال وقوع التفاوت في التأثير فيه.
الرابع: لو قدر العبد على بعض المقدورات الممكنات، لقدر على الكل؛ لأن المصحح للمقدورية ليس إلا الإمكان، وهو قضية واحدة؛ فيلزم من الاشتراك فيه الاشتراك في المقدورية؛ لكنه غير قادر على كل الممكنات؛ لأنه لا يقدر على خلق السموات والأرض؛ فوجب ألا يقدر على الإيجاد البتة؛ فثبت بمجموع هذه الوجوه: أن العبد غير موجد لأفعاله، بل موجدها هو الله- عز وجل وإذا كان كذلك، فكل ما حصل من الكفر والمعاصي، فهو من فعل الله تعالى، ولا شك أن الغالب على أهل العالم الكفر والمعاصي، ومع هذا القول: لا يمكن القول بأن الله تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للعبد.
فإن قلت: هب أن الله تعالى هو الخالق لفعل العبد، ولكن المكلف مخير في اختيار الكفر والإيمان، والله تعالى أجرى عادته أن يخلق الشيء على وفق اختيار المكلف، فإن اختار المكلف الكفر، خلق فيه الكفر، وإن اختار الإيمان، خلق في الإيمان، فمنشأ المفسدة هو اختيار المكلف.
قلت: حصول اختيار الكفر بدلًا عن اختيار الإيمان، إن كان من المكلف، لا من الله تعالى، لم يكن الله تعالى فاعلًا لكل أفعال العباد، وإن كان من الله تعالى، فقد بطل الاختيار، وتوجه الإشكال.
الدليل الثاني: على أنه لا يجوز تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالمصالح: أن القادر على الكفر، إن لم يقدر على الإيمان، لزم الجبر، وذلك يقدح في رعاية المصالح، وإن قدر عليهما، فلابد وأن ينتهي إلى مرجح واقع بفعل الله تعالى، وعند حصول ذلك المرجح يجب وقوع الكفر، فيكون الجبر لازمًا، وذلك يقدح في رعاية المصالح، وتقرير هذا الوجه قد تقدم.
الدليل الثالث: أنه قد وقع التكليف بما لا يطاق، وذلك يمنع من القول برعاية المصالح.
بيان الأول من وجوه:
الأول: أنه كلف بالإيمان من علم أنه لا يؤمن، فصدور الإيمان منه يستلزم انقلاب العلم جهلًا؛ وهذا الانقلاب محال؛ والمفضي إلى المحال محال؛ فكان هذا التكليف تكليفًا بالمحال.
وثانيها: أنه: إما أن يكلفه حال استواء الدواعي إلى الفعل والترك، أو حال رجحان أحدهما على الآخر: والأول محال؛ لأن الاستواء ما دام يكون حاصلًا، امتنع الرجحان، فالأمر بالترجيح حال حصول الاستواء أمر بالجمع بين الضدين.
والثاني: محال؛ لأن حال الترجيح يكون الراجح واجب الوقوع، والمرجوح ممتنع الوقوع، فحال الرجحان: إن كان مأمورًا بترجيح المرجوح، كان مأمورًا بالجمع بين الضدين، وإن كان مأمورًا بترجيح الراجح، كان مأمورًا بإيقاع الواقع، وكل ذلك تكليف بما لا يطاق.
وثالثها: القدرة إذا حصلت في العبد: فإما أن يؤمر بإيقاع الفعل في ذلك الزمان، أو في الزمان الثاني:
والأول: محال؛ لأنه إذا وجد المقدور في ذلك الزمان، فلو أمر الله تعالى العبد بإيقاعه في ذلك الزمان، كان هذا أمرًا بإيجاد الموجود؛ وإنه محال.
والثاني أيضًا: محال؛ لأنه في الزمان الأول، لما لم يكن متمكنًا من الفعل البتة، كان أمره بالفعل أمرًا لمن لا يقدر.
فإن قلت: (إنه ما أمره في الحال بإيقاع الفعل في الحال؛ حتى يلزم ما قلته، بل أمره في الحال بأن يوقعه في الزمان الثاني):
قلت: هل لقولك: (يوقعه) مفهوم زائد على الفعل أم لا؟.
فإن لم يكن له مفهوم زائد: لم يكن لقولك: (إنه أمره في الحال بإيقاع الفعل في الزمان الثاني) معنى إلا أنه أعلم في الحال بأنه لابد وأن يكون في الزمان؛ بحيث يصدر عنه الفعل، ففي هذا الزمان: لم يحصل إلا الإعلام، فأما الإلزام، فلا يحصل إلا في الزمان الثاني، فيعود الأمر إلى أنه أمره بإيقاع الفعل حال وقوعه فيه.
وإن كان لقولك: (يوقعه) مفهوم زائد على مفهوم الفعل: فذلك الزائد، هل حصل في الزمان الأول، أو ما حصل؟ فإن حصل في الزمان الأول، وقد أمر في الزمان الأول به؛ فحينئذ: يلزم كونه مأمورًا بالشيء حال حصوله، وإن لم يحصل في الزمان الأول، بل في الزمان الثاني، عاد ما ذكرنا؛ من أن الحاصل في الزمان الأول إعلام، لا إلزام، والإلزام لا يحصل إلا في الزمان الثاني؛ فيعود ما ذكرنا؛ من أنه أمر بالفعل حال وقوعه.
ورابعها: أن الله تعالى قال: {إن الذين كفروا سواء عليهم، أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6] فأولئك الذين أخبر الله عنهم بهذا الخبر كانوا مأمورين بالإيمان، ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه، فإذن: كانوا مأمورين بأن يصدقوا الله تعالى في إخباره عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة، وذلك تكليف ما لا يطاق.
وخامسها: ما بينا: أن فعل العبد لا يحصل إلا إذا خلق الله في داعية تلجئه إلى فعله إلجاء ضروريًا، فالكافر إذن ملجأ إلى فعل الكفر، فإذا كلف بالإيمان، كان ذلك تكليف ما لا يطاق.
وسادسها: أن الله تعالى أمر بمعرفته، وذلك تكليف ما لا يطاق؛ لأن الأمر إما أن يتوجه على العبد حال كونه عارفًا بالله تعالى، أولا في هذه الحالة: فإن كان الأول: كان العارف مأمورًا بتحصيل المعرفة؛ فيكون ذلك أمرًا بتحصيل الحاصل؛ وهو محال.
وإن كان الثاني: فحال كونه غير عارف بالله تعالى، استحال أن يكون عارفًا بأمر الله تعالى، فحال كونه بحيث يستحيل عليه أن يعرف أمر الله تعالى لما توجه عليه الأمر، كان ذلك تكليفًا بما لا يطاق.
وسابعها: أنا أمرنا بالترك، والأمر بلترك أمر بما لا قدرة لنا عليه؛ لأنا إذا تركنا الفعل، فلا معنى لهذا الترك إلا أنه بقى معدومًا كما كان، والعدم المستمر لا قدرة لنا عليه:
وبيانه من وجهين: الأول: أن العدم نفي محض، والقدرة مؤثرة؛ فالجمع بينهما متناقض.
وثانيهما: أن العدم، لما كان مستمرًا، لا يمكن التأثير فيه؛ لأن التأثير في الباقي محال.
فإن قلت: (الترك عندي أمر وجودي، وهو فعل الضد):
قلت: الإلزام ها هنا قائم؛ لأن الواحد منا قد يؤمر بترك الشيء الذي لا
يعرف له ضدًا، فلو أمرنا في ذلك الوقت بفعل ضده، لكنا قد أمرنا بفعل شيء لا نعرف ماهيته، فيكون ذلك أيضًا قولاً بتكليف ما لا يطاق؛ فثبت بهذه الوجوه السبعة وقوع تكليف ما لا يطاق، ولا شك أن ذلك يقدح في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بمصالح العباد.
الدليل الرابع: أن تخصيص خلق العالم بالوقت الذي خلق فيه، دون ما قبله، وما بعده- يستحيل أن يكون معللًا بغرض؛ لأن قبل حدوث العالم، لا وقت، ولا زمان، بل ليس إلا الله تعالى والعدم الصرف، ويستحيل أن يحصل في العدم الصرف وقت يكون منشأ المصالح، ووقت آخر يكون منشأ المفاسد.
الدليل الخامس: أن تقدير السموات والكواكب المعينة، وتقدير البحار والأرضين بمقاديرها المعينة لا يجوز أن يكون رعاية لغرض الخلق، فإنا نعلم أنه لو ازداد في خلق لفلك الأعظم مقدار جزء لا يتجزأ، فإنه لا يتغير بذلك البتة شيء من مصالح المكلفين، ولا من مفاسدهم.
الدليل السادس: أنه تعالى خلق الكافر الفقير بحيث يكون في الدنيا من أول عمره إلى آخره في المحنة، وفي الآخرة يكون في أشد العذاب أبد الآبدين ودهر الداهرين، وأنه تعالى كان عالمًا من الأزل إلى البد أنه، إذا خلقه، وكلفه بالإيمان، فإنه لا يستفيد من الخلق والتكليف إلا زيادة المحنة والبلاء، فكيف يقال: إنه تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للمكلف؟!
الدليل السابع: أنه تعالى خلق الخلق، وركب فيهم الشهوة والغضب، حتى إن بعضهم يقتل بعضًا، وبعضهم يفجر ببعض، ولقد كان تعالى قادرًا على أن يخلقنا في الجنة ابتداء، ويغنينا بالمشتهيات الحسنة عن القبيحة.
فإن قلت: (إنه تعالى، إنما فعل ذلك ليعطيه العوض في الآخرة، وليكون لطفًا لمكلف آخر):
قلت: أما العوض: فلو أعطاه ابتداء، كان أولى، وأما اللطف: فأي عاقل يرضى بأن يقال: إنما حسن إيلام هذا الحيوان؛ ليكون لطيفًا بذلك الحيوان؟!
الدليل الثامن: دلت الوجوه المذكورة في أول هذا القسم على أنه يستحيل أن يكون شيء من أفعاله وأحكامه معللًا بالمصالح، فظهر بهذه الوجوه: أنه ليس الغالب في أفعال الله تعالى رعاية مصالح الخلق، وإذا كان كذلك، لم يغلب على الظن أن أحكامه معللة بمصالح الخلق، فإنا إذا رأينا شخصًا يكون أغلب أفعاله رعاية المصالح، ثم رأيناه حكم بحكم غلب على ظننا اشتمال ذلك الحكم على مصلحة، أما إذا رأينا شخصًا يكون أغلب أفعاله عدم الالتفات إلى المصالح، ثم رأيناه حكم بحكم؛ فإنه لا يغلب على ظننا اشتمال ذلك الحكم على مصلحة البتة، هذا في حق الإنسان الذي يكون محتاجًا إلى رعاية المصلحة، أما الإله- سبحانه وتعالى لما كان منزهًا عن المصالح والمفاسد بالكلية، ثم رأينا أن الغالب في أفعاله ما لا يكون مصلحة للخلق، كيف يغلب على الظن كون أفعاله وأحكامه معللة بالمصالح؟!
سلمنا: أن أحكامه تعالى معللة بالمصالح، وأن هذا الفعل مصلحة من هذا الوجه؛ فلم قلت: إن هذا القدر يقتضي ظن كون ذلك الفعل معللًا بهذه المصلحة؟
أما الوجه الأول: فالاعتماد فيه على أن الاستصحاب يفيد الظن.
وأما الوجه الثاني: فالاعتماد فيه على أن الدوران يفيد الظن، والكلام في
هذين الموضعين سيأتي- إن شاء الله تعالى- ثم نقول على الوجه الثاني خاصة: لم قلت: لما حصل الظن في المثال المذكور، وجب حصوله في حق الله تعالى؟!
قوله: (الدوران يفيد الظن):
قلنا: لكن بشرط ألا يظهر وصف آخر في الأصل، وها هنا قد وجد، وبيانه من وجهين:
الأول: أنا إنما حكمنا بذلك في حق الملك؛ لعلمنا بأن طبعه يميل إلى جلب المصالح، ودفع المفاسد، وذلك في حق الله تعالى مفقود.
الثاني: أن المعتبر ليس دفع عموم الحاجة، بل دفع الحاجة المخصوصة، فمن عرف عادة الملك، وأنه يراعي هذا النوع، أو ذاكـ لا جرم: يحصل له ظن أن غرض الملك من هذا الفعل هذا المعنى، أو ذاك، وأما عادات الله تعالى في رعاية أجناس المصالح، وأنواعها، فمختلفة؛ ولذلك قد يكون الشيء قبيحًا في عقولنا، وإن كان حسنًا عند الله تعالى، وقد يكون بالعكس؛ ولهذا المعنى نقطع الآن بقبح جميع الشرائع الواردة في زمان موسى وعيسى- عليهما السلام وبحسن شريعتنا، وإن كان التفاوت فيه غير معلوم لنا الآن، وإذا كان كذلك، ظهر الفرق بين الصورتين.
سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم؛ لكنه معارض بأمور:
أحدها: أن أفعال الله تعالى وأحكامه، لو كانت لدفع حاجة العبد، لكانت الحاجات بأسرها مدفوعة، واللازم باطل؛ فالملزوم مثله.
بيان الملازمة: أن الحاجات المختلفة مشتركة في أصل كونها حاجات،
ومتباينة بخصوصياتها؛ وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، فما به يمتاز كل واحد من أنواع الحاجة عن الآخر منها لا يكون حاجة.
وإذا كان كذلك، كان التعليل بكونه حاجة يوجب سقوط تلك الزوائد عن العلية، وارتباط الحكم بمسمى الحاجة الذي هو القدر المشترك بين كل أنواعه، فإذا كان ذلك المسمى علة؛ لشرع ما يصلح أن يكون دافعًا له، لزم من هذا كون جميع الحاجات مدفوعة، ولما لم يكن كذلك، علمنا أن التعليل بالحاجة غير جائز.
وثانيها: أن تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح يفضى إلى مخالفة الأصل، وذلك لأن العبادات التي كانت مشروعة في زمان موسى وعيسى- عليهما السلام كانت واجبة وحسنة في تلك الأزمنة، وصارت قبيحة في هذا الزمان، فلابد وأن يكون ذلك لأنه حصل شرط في ذلك الزمان، لم يحصل الآن، أو وجد الآن مانع ما كان موجودًا في ذلك الزمان، لكن توقف المقتضى على وجود الشرط، أو تخلف حكمه؛ لأجل المانع- خلاف الأصل.
وثالثها: أن الحكم: إما أن يكون معللًا بنفس الحكمة، أو بالوصف المشتمل على الحكمة.
والأول: باطل؛ لأن الحكمة غير مضبوطة، فلا يجوز ربط الأحكام بها.
والثاني: باطل؛ لأن الوصف: إنما يكون علة للحكم؛ لاشتماله على تلك الحكمة، فيعود الأمر إلى كون الحكمة علة لعلية الوصف؛ فيعود المحذور المذكور.
والجواب: قد بينا أن أحكام الله تعالى مشروعة لأجل المصالح، فأما الوجوه العقلية التي ذكرتموها: فهي لو صحت، لقدحت في التكليف، والكلام في القياس نفيًا وإثباتًا فرع على القول بالتكليف؛ فكانت تلك الوجوه غير مسموعة في هذا المقام.
وهذا هو الجواب المعتمد الكافي في هذا المقام عن كل ما ذكرتموه وأما الفرقان اللذان ذكرتموهما بين الشاهد والغائب، فذلك إنما يقدح في قول من يقول: يجب عقلًا تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح.
أما من يقول: إن ذلك غير واجب؛ ولكنه تعالى فعله على هذا الوجه تفضلًا وإحسانًا، فذلك الفرق لا يقدح في قوله، وأما المعارضات الثلاث الأخيرة، فهي منقوضة بكون أفعالنا معللة بالدواعي والأعراض؛ مع أن جميع ما ذكروه قائم فيها.
المسألة الثالثة
المناسبة لا تبطل بالمعارضة
قال القرافي: قوله: (إن كانت إحدى المناسبتين أقوى لا يلزم التفاسد؛ لأنا بينا عدم المنافاة):
قلنا: بينتم عدم المنافاة في المتساويين، فلقائل أن يقول: ذلك لعدم المساواة وعدم الأولية.
أما إذا رجحت إحداهما؛ فلعل الراجح يقوى على المرجوح فيفسد، المرجوح، فلابد من دفع هذا الاحتمال، وحينئذ يتعين ما قاله تاج الدين في (الحاصل) عدل عن هذه العبارة وقال:(إن انعدمت المرجوحة، فهو محال؛ للزوم انقلاب الراجح مرجوحًا).