الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في الطرق الفاسدة وهي خمسة
قال الرازي: الأول: إذا أخبر واحد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء، والرسول ترك الإنكار عليه، قال بعضهم: ذلك يدل على كون ذلك الخبر صدقًا. والحق أن يقال: ذلك الخبر: إما أن يكون خبرًا عن أمر يتعلق بالدين، أو بالدنيا:
فإن كان عن الدين: فسكوته، عليه الصلاة والسلام، عن الإنكار يدل على صدقه، لكن بشرطين: أحدهما: ألا يكون قد تقدم بيان ذلك الحكم، والثاني: أن يجوز تغير ذلك الحكم عما بينه فيما قبل.
وإنما وجب اعتبار هذين الشرطين؛ لأن بيان الحكم، لو تقدم، وأمنا عدم تغيره، كان فيما سبق من البيان ما يغنى عن استئناف البيان؛ ولهذا لا يلزمه، عليه الصلاة والسلام، تجديد الإنكار حالًا بعد حال على الكفار.
وأما القسم الثاني؛ وهو الخبر عن أمر متعلق بالدنيا: فسكوته، عليه الصلاة والسلام، يدل على الصدق بأحد شرطين:
أحدهما: أن يستشهد بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويدعى عليه علمه بالمخبر عنه.
وثانيها: أن يعلم الحاضرون علم النبي صلى الله عليه وسلم بتلك القصة؛ ففي كل واحد من هذين الوجهين يجب صدق الخبر؛ إذ سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم هاهنا يوهم التصديق؛ فلو كان المخبر كاذبًا، لكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوهم تصديقه؛ وإنه غير جائز.
وأما إذا علمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم المخبر عنه، أو جوزنا ذلك، لم يلزم
حينئذ من السكوت عن التكذيب حصول التصديق؛ لأنه، عليه الصلاة والسلام، يجوز سكوته، لاحتمال كونه متوقفًا في الأمر.
الثاني: قالوا: إذا أخبر الواحد بحضرة جماعة كثيرة عن شيء؛ بحيث لو كان كذبًا؛ لما سكتوا عن التكذيب، كان ذلك دليلًا على صدقه فيه؛ لأنهم: إما أن يكونوا سكتوا، مع علمهم بكذبه، أو لا مع علمهم بكذبه:
والأول: باطل؛ لأن الداعي إلى التكذيب قائم، والصارف زائل ومع حصول هذين الشرطين يجب الفعل، فلما لم يوجد، دل على أنهم لم يعملوا كذبه.
وإنما قلنا: (إن الداعي حاصل)؛ لأن من استشهد على خبر كذب، فأراد الصبر على التكذيب، وجد من نفسه مشقة على ذلك الصبر، وذلك يدل على حصول الداعي.
وأما زوال الصارف، فإن ذلك الصارف: إما رغبة، أو رهبة، والجمع العظيم لا يعمهم من الرغبة أو الرهبة ما يحملهم على كتمان ما يعلمونه، ولهذا لا يجتمعون على كتمان الرخص والغلاء العظيمين.
فأما القسم الثاني؛ وهو أن يقال: (سكتوا؛ لعدم علمهم بكذب القائل) فباطل؛ لأنه يبعد عن الجمع العظيم أن لا يطلع واحد منهم عليه.
واعلم أن هذا الطريق لا يفيد اليقين؛ بل الظن؛ لأنه لا يمكننا القطع بامتناع اشتراك الجماعة الذين حضروا في رغبة، أو رهبة مانعة من السكوت، وإن سلمناه؛ لكن لا يستبعد غفلة الحاضرين عن معرفة كونه كذبًا؛ إذا ربما لم يتعلق لهم به غرض؛ فلم يبحثوا عنه.
الثالث: زعم أبو هاشم والكرخي وتلميذهما أبو عبد الله البصري: أن الإجماع على العمل بموجب الخبر يدل على صحة الخبر، وهذا باطل من وجهين:
أحدهما: أن عمل كل الأمة بموجب الخبر لا يتوقف على قطعهم بصحة ذلك الخبر؛ فوجب ألا يدل على صحة ذلك الخبر.
أما الأول: فلأن العمل بخبر الواحد واجب في حق الكل؛ فلا يكون عملهم به متوقفًا على القطع به.
وأما الثاني: فلأنه لما لم يتوقف عليه، لم يلزم من ثبوته ثبوته.
الثالث: أن عملهم بمقتضى ذلك الخبر يجوز أن يكون لدليلٍ آخر؛ لاحتمال قيام الأدلة الكثيرة على المدلول الواحد.
واحتجوا: بأن المعلوم من عادة السلف فيما لم يقطعوا بصحته- أن يرد مدلوله بعضهم، ويقبله الآخرون.
والجواب: هذه العادة ممنوعة؛ بدليل اتفاقهم على حكم المجوس بخير عبد الرحمن.
الرابع: قال بعض الزيدية: بقاء النقل، مع توفر الدواعي على إبطاله، يدل على صحة الخبر؛ كخبر الغدير، والمنزلة؛ فإنه سلم نقلهما في زمان بني أمية، مع توفر دواعيهم على إبطالهما، وهذا أيضًا ليس بشيء؛ لاحتمال أنه كان من باب الآحاد أولًا، ثم اشتهر فيما بين الناس، بحيث عجز العدو عن إخفائه، ولأن الصوارف من جهة بني أمية، وإن حصلت، لكن الدواعي من جهة الشيعة حصلت، ولأن الناس، إذا منعوا من إفشاء فضيلة إنسانٍ كانت محبتهم له وحرصهم على ذكر مناقبه أشد مما لم يمنعوا.
الخامس: اعتمد كثير من الفقهاء والمتكلمين في تصحيح خبر الإجماع وأمثاله: بأن الأمة فيه على قولين: منهم من احتج به، ومنهم من اشتغل بتأويله؛ وذلك يدل على اتفاقهم على قبوله، وهو ضعيف أيضًا؛ لاحتمال أن يقال: إنهم قبلوه، كما يقبل خبر الواحد.
ويمكن أن يجاب عنه: بأن خبر الواحد يقبل في العمليات، لا في العلميات، وهذه المسألة علمية، فلما قبلوا هذا الخبر فيها، دل ذلك على اعتقادهم في صحته.
والجواب: لا نسلم أن كل الأمة قبلوه، بل كل من لم يحتج به في الإجماع طعن فيه؛ بأنه من باب الآحاد؛ فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية، بل هب أنهم ما طعنوا فيه على التفصيل، لكن لا يلزم من عدم الطعن من جهة واحدة- عدم الطعن مطلقًا.
القول في الطرق الفاسدة وهي خمسة
قال القرافي: قوله: (إذا أخبر بحضرة الرسول عليه السلام، وسكت عن الرد عليه، وقد استشهد به، وعلمنا علمه بذلك، وأمنا التغيير، فإن المخبر حينئذ يجب صدقه؛ لأن سكوته- عليه السلام يوهم التصديق له، فلو كان كاذبًا لأوهم تصديق الكاذب):
قلنا: إن ادعيتم أن هذا يوجب ظن الصدق ظنًا قويًا فمسلم، وأما القطع فممنوع؛ لأنه- عليه السلام غير معصوم من عوارض الأسقام، والأحوال المتعلقة بخصوص البشرية، ومن أين لنا القطع بأنه- عليه السلام في تلك الحالة ما حصل له ذهول، وشاغل نفسي منعه من تأمل معنى كلام ذلك القائل؟
وبالجملة فالاحتمالات ها هنا فيها اتساع، والقطع ليس بظاهر.
قوله: (عمل الأمة بالخبر لا يتوقف على صحة الخبر؛ لأن خبر الواحد يجوز العمل به):
قلنا: مسلم انه يجوز الإقدام على العمل بالخبر الذي لا يقطع بصدقه، لكن إذا عملوا به، وهو عندهم خبر واحد غير معلوم الصدق لهم صار معلوم الصدق لنا؛ لنهم معصومون عن العمل بالخطأ، فيقطع بصدق ما عملوا به، وهو الذي قاله أبو هاشم.
قوله: (إن خبر الغدير والمنزلة بقى مع توافر الدواعي على إبطاله):
تقريره: أما الغدير فهو موضع قال فيه النبي عليه السلام: (من كنت مولاه فغن عليا مولاه).
وحديث المنزلة حديث آخر، وهو قوله- عليه السلام لما خرج من (المدينة) واستخلف عليا- رضي الله عنه فشق عليه ذلك لتأخره عن الجهاد فقال عليه السلام:(أنت منى بمنزلة هارون من موسى) إشارة إلى استخلاف موسى- عليه السلام هارون- عليه السلام على بني إسرائيل لما ذهب للمناجاة. قصد عليه السلام بذلك تسليته، وتسهيل القعود عليه.