الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني
قال الرازي: في الخبر الذي لا يقطع بكونه
صدقًا أو كذبًا، وفيه أبواب:
الباب الأول
في إقامة الدليل على أنه حجة في الشرع
اختلف الناس فيه، فالأكثرون جوزوا التعبد به عقلًا، والأقلون منعوا منه عقلًا.
أما المجوزون: فمنهم: من قال: وقع التعبد به.
ومنهم من قال: لم يقع التعبد به.
والذين قالوا: وقع التعبد به، اتفقوا على أن الدليل السمعي دل عليه، واختلفوا في أن الدليل العقلي، هل دل عليه؟ فذهب القفال وابن سريج منا وأبو الحسين البصري من المعتزلة: إلى أن دليل العقل دل على وقوع التعبد به.
أما الجمهور منا ومن المعتزلة؛ كأبى على، وأبى هاشم، والقاضي عبد الجبار: فقد اتفقوا على أن دليل التعبد به السمع فقط.
وهو قول أبي جعفر الطوسي من الإمامية.
أما الذين قالوا: لم يرد التعبد به، فهم فرق ثلاث:
الأولى: أنه لم يوجد ما يدل على كونه حجة، فوجب القطع بأنه ليس بحجة.
والثانية: أنه جاء في الأدلة السمعية ما يدل على أنه ليس بحجة.
والثالثة: أن الدليل العقلي قائم على امتناع العمل به.
ثم إن الخصوم بأسرهم اتفقوا على جواز العمل بالخبر الذي لا تعلم صحته؛ كما في الفتوى، وفي الشهادة، وفي الأمور الدنيوية.
لنا النص، والإجماع، والسنة المتواترة، والقياس، والمعقول:
أما النص: فوجهان:
الأول: قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة؛ ليتفقهوا في الدين} [التوبة: 122] وجه الاستدلال: أن الله تعالى أوجب الحذر بإخبار الطائفة، والطائفة هاهنا عدد لا يفيد قولهم العلم، ومتى وجب الحذر بإخبار عدد لا يفيد قولهم العلم، فقد وجب العمل بالخبر الذي لا نقطع بصحته.
وإنما قلنا: إنه أوجب الحذر عند إخبار الطائفة؛ لأنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة، والإنذار هو الإخبار.
وإنما قلنا: إنه أوجب الحذر بإنذار الطائفة؛ لقوله تعالى: {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة: 122] وكلمة (لعل) للترجي؛ وذلك في حق الله تعالى محال، وإذا تعذر حمله على ظاهره، وجب حمله على المجاز؛ وذلك لأن المترجي طالب للشيء، فإذا كان الطلب لازمًا للترجي، وجب حمل هذا اللفظ على الطلب؛ فيلزم أن يكون الله طالبًا للحذر، وطلب الله تعالى هو الأمر؛ فثبت أن الله تعالى أمر بالحذر عند إنذار الطائفة.
وإنما قلنا: إن الإنذار هو الإخبار؛ لأنه عبارة عن الخبر المخوف، والخبر داخل في الخبر المخوف؛ فثبت أن الله تعالى أوجب الحذر عند إخبار الطائفة.
وإنما قلنا: (إن الطائفة هاهنا عدد لا يفيد قولهم العلم) لأن كل ثلاثة فرقة، والله تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة، والطائفة من الثلاثة واحد أو اثنان، وقول الواحد أو الاثنين لا يفيد العلم.
وإنما قلنا: إنه تعالى، لما أوجب الحذر عند خبر العدد الذي لا يفيد قولهم العلم، وجب العمل بذلك الخبر؛ لأن قومًا إذا فعلوا فعلًا، وروى الراوي لهم خبرًا يقتضي المنع من ذلك الفعل: فإما أن يجب عليهم تركه عند سماع ذلك الخبر، أو لا يجب:
فإن وجب، فهو المراد من وجوب العمل بمقتضى ذلك الخبر، وإذا ثبت وجوب العمل بمقتضى ذلك الخبر في هذه الصورة، وجب العمل به في سائر الصور، ضرورة ألا قائل بالفرق.
وإن لم يجب الترك، لم يجب الحذر؛ وذلك ينافي ما دلت الآية عليه من وجب الحذر.
فإن قيل: لا نسلم أنه تعالى أوجب الحذر عند إنذار الطائفة، وأما قوله تعالى:{لعلم يحذرون} قلنا: سلمتم أنه لا يمكن حمله على ظاهرة؛ فلم قلتم: إنه يجب حمله على ذلك المجاز؟ ولم لا يجوز حمله على مجاز آخر؟ لا بد فيه من الدليل.
سلمنا: وجوب الحذر عند الإنذار؛ لكن لا نسلم أن الإنذار هو الإخبار؛ فإن الإنذار من جنس التخويف، فنحن نحمل الآية على التخويف الحاصل من
الفتوى، بل هذا أولى؛ لأنه أوجب التفقه؛ لأجل الإنذار، والتفقه إنما يحتاج إليه في الفتوى، لا في الرواية.
فإن قلت: الحمل على الفتوى متعذر؛ لوجهين:
الأول: أنا لو حملناه على الفتوى، لاختص لفظ (القوم) بغير المجتهدين؛ لأن المجتهد لا يجوز له العمل بفتوى المجتهد؛ لكن التقييد غير جائز؛ لأن الآية مطلقة في وجوب إنذار القوم، سواء كانوا مجتهدين، أو لم يكونوا كذلك.
أما لو حملناه على رواية الخبر لا يلزمنا ذلك؛ لأن الخبر كما يروي لغير المجتهد، فقد يروى أيضًا للمجتهد.
والثاني: أن من شرب النبيذ؛ فروى إنسان خبرًا يدل على أن شاربه في النار، فقد أخبره بخبر مخوف، ولا معنى للإنذار إلا ذلك فصح وقوع اسم (الإنذار) على الرواية، ثم بعد ذلك نقول: لا يخلو: إما ألا يقع اسم (الإنذار) الرواية لا الفتوى، وإن وقع، لم يجز جعله حقيقة فيها؛ دفعًا للاشتراك؛ فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك، وهو الخبر المخوف.
وعلى هذا التقدير: يكون متناولًا للرواية والفتوى جميعًا؛ وذلك مما لايضرنا.
قلت: الجواب عن الأول: أنه كما يلزم من حمل الإنذار على الفتوى تخصيص لفظ (القوم) بغير المجتهد، يلزم من حمله على الرواية تخصيص لفظ (القوم) بالمجتهد؛ لإجماعنا على أنه لا يجوز للعامي أن يستدل بالحديث،
فالتقييد لازم عليكم؛ كما أنه لازم علينا؛ فعليكم الترجيح، ثم إنه معنا؛ لأن غير المجتهد أكثر من المجتهد، والتقييد كلما كان أقل، كان أولى.
وعن الثاني: أنه إذا كان المراد من (الإنذار) القدر المشترك بين الفتوى والرواية، والمأمور به إذا كان مشتركًا فيه بين صور كثيرة، كفى في الوفاء بمقتضى الأمر الإتيان بصورة واحدة من تلك الصور؛ لأنه إذا كان المطلوب إدخال القدر المشترك بين الفتوى والرواية في الوجود، وذلك المشترك يحصل في الفتوى-فالقول بكون الفتوى حجة يكفي في العمل بمقتضى النص؛ فلا تبقى للنص دلالة على وجوب العمل بالرواية.
سلمنا أن المراد من (الإنذار) رواية الخبر فقط؛ لكن لم لا يجوز أن يكون المراد رواية أخبار الأولين، وكيفية ما فعل الله تعالى بهم؟ لأن سماع أخبارهم يقتضى الاعتبار؛ على ما قال الله تعالى:{لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب} [يوسف: 111] أو يكون المراد منه التنبيه على وجوب النظر والاستدلال.
سلمنا أن الآية تقتضى وجوب الحذر عند خبر الطائفة؛ فلم قلت: إن (الطائفة) اسم لعدد لا يفيد قولهم العلم؟.
قوله: (لأن كل ثلاثة فرقة، والخارج من الثلاثة واحد أو اثنان):
قلنا: لا نسلم أن كل ثلاثة فرقة؛ فما الدليل؟.
ثم إن الذي يدل على بطلانه وجهان:
الأول: أنه يقال: الشافعية فرقة واحدة، لا فرق، ولو كان كل ثلاثة فرقة، لما كان الشافعية واحدة، بل فرقًا.
الثاني: أنه تعالى أوجب على كل فرقة: أن تخرج منها طائفة للتفقه، ولو كان كل ثلاثة فرقة، لوجب أن يخرج من كل ثلاثة واحد؛ وذلك باطل بالاتفاق.
سلمنا أن (الطائفة) اسم لعدد لا يفيد قولهم العلم؛ فلم قلت: إنه يقتضى وجوب الحذر بقول عدد لا يفيد قولهم العلم؟.
بيانه: (أن الطائفة) عندكم اسم للواحد، أو الاثنين، وقوله:{ولينذروا قومهم} [التوبة: 122] ضمير جمع، وأقل الجمع ثلاثة؛ على ما تقدم، فإذن: قوله: {ولينذروا} ليس عائدًا إلى كل واحد من تلك الطوائف؛ بل إلى مجموعها؛ فلم قلت: إن مجموع تلك الطوائف ما بلغوا حد التواتر؟.
سلمنا أن الآية تقتضى وجوب الحذر عند خبر من لا يفيد قولهم العلم فلم قلت: إنها تقتضى وجوب العمل بذلك الخبر؟ فإنا إنما نوجب عليهم ذلك الترك للاحتياط؛ حتى إنه لو كان عاميًا وجب عليه الرجوع إلى المفتى، فإن أذن له، جاز له العود إليه، وإن كان مجتهدًا، نظر في سائر الأدلة، فإن وجد فيها ما يقتضى المنع من ذلك الفعل، امتنع منه، وإلا جاز له العود إليه.
والجواب: قوله: (لم قلت: إنه يفيد وجوب الحذر؟):
قلنا: لثلاثة أوجه:
الأول: أنه لا يجوز حمله على ظاهره؛ فوجب حمله على الأمر به.
قوله: (لم قلت: ليس هاهنا مجاز آخر؟):
قلت: لأن الأصل عدم المجاز؛ فإذا وجد هذا المجاز الواحد، فالظاهر عدم سائر المجازات.
الثاني: أن قوله تعالى: {لعلهم يحذرون} [التوبة: 122] يقتضى إمكان تحقق الحذر في حقهم، والحذر هو التوقي من المضرة، والفعل الذي يقتضى خبر الواحد المنع منه، قد لا يكون مضرًا في الدنيا، فلا بد وأن يكون مضرًا في الآخرة، وإلا لم يكن الحذر ممكنًا، ولا معنى لمضرة الآخرة إلا العقاب، فإذا كان هو بحال يحذر عنه، وجب أن يكون بحال يترتب العقاب على فعله، ولا معنى لقولنا:(خبر الواحد حجة) إلا هذا القدر.
الثالث: أن قوله تعالى: {لعلهم يحذرون} ، إن لم يقتض وجوب الحذر فلا أقل من أن يقتضى حسن الحذر؛ وذلك يقتضى جواز العمل بخبر الواحد، والخصم ينكره،؛ صار محجوجًا به.
قوله: (لم لا يجوز أن يكون المراد الفتوى)؟:
قلنا: للوجهين المذكورين:
أحدهما: أنا لو حملناه على الفتوى، لوم تخصيص (القوم) بغير المجتهد.
قوله: (ولو حملناه على الرواية، لزم تخصيصه بالمجتهد):
قلنا: لا نسلم؛ فإن الخبر كما يروى للمجتهد، فقد يروى لغير المجتهد، بلى، لا يجوز لغير المجتهد أن يتمسك به، ولكن ينتفع به من وجوه أخرى: منها: أنه ينزجر عن فعله، ويصير ذلك داعيًا له إلى الرجوع إلى المفتي، وربما بحث عنه، واطلع على معناه.
الوجه الثاني: أنا نحمله على القدر المشترك.
قوله: (يكفى في العمل به ثبوته في صورة واحدة):
قلنا: الجواب عنه من وجهين:
الأول: أنه رتب وجوب الحذر على مسمى الإنذار الذي هو القدر المشترك؛ فوجب كون هذا القدر المشترك علة للحكم؛ فوجب أن يكون الحكم ثابتًا، أينما ثبت هذا المسمى.
والثاني: أن قبل ورود هذه الآية: إما أن يقال: كان الأمر بقبول الفتوى واردًا، أو ما كان واردًا؟ فإن كان واردًا، ولم يجز حمل هذه الآية عليه؛ وإلا كان ذلك تكريرًا من غير فائدة.
وإن قلنا: إنه ما كان واردًا، وجب حمله على الأمر بالصورتين؛ وإلا تطرق الإجمال إلى الآية؛ وهو خلاف الأصل.
قوله: (لم لا يجوز أن يكون المراد من الإنذار رواية أخبار الأولين؟):
قلنا: الجواب عنه كما تقدم على السؤال الأول.
قوله: (لم قلت: كل ثلاثة فرقة؟):
قلنا: لأن الفرقة في أصل اللغة (فعلة) من (فرق) أو (فرق)، كـ (القطعة) من (قطع) أو قطع).
وكل شيء حصل الفرق أو التفريق فيه، كان فرقة، كما أن كل ما حصل القطع أو التقطيع فيه، كان قطعة؛ ولذلك من شق الخشبة، يقال: فرقها فرقًا.
وإذا كان كذلك، فالفرقة في اللغة: تقع على كل واحد من الأشخاص حقيقة، إلا أنا خصصناها في هذه الآية بالثلاثة؛ حتى يمكن خروج الطائفة عنها؛ فوجب أن تبقى حقيقة في الثلاثة.
قوله: (أصحاب الشافعي-رضي الله عنه فرقة واحدة):
قلنا: ذلك لأنهم بحسب المذهب امتازوا عن غيرهم؛ فلأجل هذا الافتراق سموا فرقة واحدة أما بحسب الشخص، فهم فرق.
قوله: (إن الله تعالى أوجب على كل فرقة أن تخرج منها طائفة للتفقه، ولا يجب ذلك على كل ثلاثة):
قلنا: ترك العمل به في حق هذا الحكم؛ فيبقى معمولًا به في الباقي.
قوله: (لم لا يجوز أن يكون المراد أن ينذر مجموع الطوائف قومهم؟):
قلنا: هذا باطل؛ لقوله: {إذا رجعوا إليهم} [التوبة: 122]؛ لأنه لا يجوز أن يقال: فلان رجع إلى ذلك الموضع إلا بعد أن كان فيه؛ ومعلوم أن الطائفة من كل فرقة ما كانت في غير تلك الفرقة، ولا يمكن أن يقال: كل طائفة ترجع إلى كل الفرق؛ بل إنما يمكن رجوعها إلى فرقتها الخاصة.
قوله: (الضمير في قوله: {ولينذروا} ليس ضمير الواحد والاثنين):
قلنا: هذا لا يضرنا؛ لأنه تعالى قابل مجموع الطوائف بمجموع القوم، فيتوزع البعض على البعض.
قوله: (لم قلت: إنه يدل على وجوب الترك بذلك الخبر؟):
قلنا: لما تقدم.
قوله: (يجب عليه الترك في الحال؛ ليستفتى إن كان عاميًا، وليتأمل، إن كان مجتهدًا):
قلنا: هذا باطل؛ لأن العامي لا يجوز له الإقدام على الفعل، إلا بعد أن يعلم أولًا جواز ذلك الفعل من جهة المفتي، ومتى علم الفتوى، لم يجب عليه الاستفتاء مرة أخرى.
وأما المجتهد؛ فإن كان خبر الواحد حجة عليه، فهو المطلوب، وإن لم يكن دليلًا، لم يحب عليه التوقف؛ لانعقاد الإجماع على أن الذي لا يكون دليلًا لا يمنعه عن فعل ما ثبت له جواز فعله؛ بدليل متقدم.
المسلك الثاني: لو وجب في خبر الواحد ألا يقبل، لما كان كون خبر الفاسق غير مقبول معللًا بكونه فاسقًا؛ لكنه معلل به؛ فلم يجب في خبر الواحد ألا يقبل؛ فإذا لم يجب ألا يقبل جاز قبوله في الجملة؛ وهو المقصود.
بيان الملازمة: أن كون الراوي الواحد واحدًا أمر لازم لشخصه المعين، يمنع خلوه عنه عقلًا.
وأما كونه فاسقًا: فهو وصف عرضي يطرأ ويزول؛ وإذا اجتمع في المحل وصفان أحدهما لازم، والآخر عرضي مفارق، وكان كل واحد منهما مستقلًا باقتضاء الحكم-كان الحكم؛ لا محالة، مضافًا إلى اللازم؛ لأنه كان حاصلًا قبل حصول المفارق، وموجبًا لذلك الحكم، وحين جاء المفارق، كان ذلك الحكم حاصلًا بسبب ذلك اللازم، وتحصيل الحاصل مرة أخرى محال، فيستحيل إسناد ذلك الحكم إلى ذلك المفارق.
مثاله: يستحيل أن يقال: الميت لا يكتب؛ لعدم الدواة والقلم عنده؛ لأن الموت، لما كان وصفًا لازمًا مستقلًا بامتناع صدور الكتابة عنه، لم يجز تعليل امتناع الكتابة بالوصف العرضي، وهو عدم الدواة، والقلم.
وإنما قلنا: إنه معلل به؛ لقوله تعالى: {يأيها الذين امنوا إن جاءكم فاسق بنبأ، فتبينوا} [الحجرات: 6] أمر بالتثبت؛ مرتبًا على كونه فاسقًا، والحكم المرتب على الوصف المشتف المناسب، يقتضى كونه معللًا بما منه الاشتقاق،