الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث
قال الرازي: في الخبر الذي يقطع بكونه كذبًا، وهو أربعة:
الأول: الخبر الذي ينافي مخبره وجود ما علم بالضرورة، سواء كان المعلوم بالضرورة حسيًا أو وجدانيًا، أو بديهيا.
ومن هذا الباب قول القائل الذي لم يكذب قط: (أنا كاذب)؛ فهذا الخبر كذب؛ لأن المخبر عنه بكونه كاذبًا: إما أن تكون الأخبار التي وجدت قبل هذا الخبر، أو هذا الخبر.
والأول: باطل؛ لأن تلك الأخبار، لما كانت كذبًا، فإخباره عن نفسه بكونه كاذبًا فيها- كذب.
والثاني: باطل؛ لأن الخبر عن الشيء يتأخر في الرتبة عن المخبر عنه؛ فإن جعلنا الخبر عين المخبر عنه، لزم تأخر الشيء عن نفسه في الرتبة وهو محال.
الثاني: الخبر الذي يكون مخبره على خلاف الدليل القاطع، ثم ذلك الخبر إما أن يحتمل تأويلًا صحيحًا، أو لا يحتمله: فإن احتمله فإما أن يحتمل تأويلًا قريبًا، أو تأويلًا متعسفًا: فإن كان قريبًا، جاز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تكلم به: لإرادة المعنى؛ كما في متشابهات الكتاب، وإن كان متعسفًا، حكم: إما بكذبه، وإما بأنه كان معه زيادة، أو نقصان يصح الكلام معه، مع أنه لم ينقل، وكذا القول فيما لا يقبل التأويل.
الثالث: وهو في الحقيقة داخل تحت القسم الثاني: الأمر الذي، لو
وجد، لتوفرت الدواعي على نقله، على سبيل التواتر: إما لتعلق الدين به؛ كأصول الشرع، أو لغرابته؛ كسقوط المؤذن من المنارة، أو لهما جميعًا؛ كالمعجزات، ومتى لم يوجد ذلك، دل على كذبه، والخلاف فيه مع الشيعة؛ فإنهم جوزوا في مثل هذا الشيء ألا يظهر لأجل الخوف والتقية.
لنا: لو جوزنا ذلك، لجوزنا أن يكون بين البصرة وبين بغداد بلدة أعظم منهما، مع أن الناس ما أخبروا عنها، ولجوزنا أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب عشر صلوات، لكن الأمة ما نقلت إلا خمسة، ولما كان ذلك باطلًا، فكذا ما أدى إليه، فإن قيل: هذا الكلام ظلم؛ لأن العلم بعدم هذه الأمور: إما أن يكون متوقفًا على العلم بأنه لو كان، لوجب نقله، أو لا يكون متوقفًا عليه:
فإن كان الأول: وجب أن يكون الشاك في الأصل شاكًا في هذه الفروع؛ لكن الناس، كما يعلمون بالضرورة وجود بغداد والبصرة، يعلمون بالضرورة عدم بلدة بينهما أكبر منهما، والعلم الضروري لا يكون متوقفًا على العلم النظري.
وإن كان الثاني: فحينئذ: العلم بعدم هذه البلدة غير متوقفٍ على العلم بأنها، لو كانت، لنقلت؛ فلا يلزم من عدم هذا عدم ذاك.
سلمنا توقف العلم بعدم هذه الأمور على العلم بأنها، لو كانت، لنقلت؛ لكن ما ذكرتموه مثال واحد، ولا يلزم من حصول الحكم في مثال واحد على وفق قولكم حصوله في كل الصور على وفق قولكم، فإن قستم سائر الصور على هذه الصورة، فقد بينا أن القياس لا يفيد اليقين؛ لاحتمال أن يكون ما به فارق الأصل الفرع- شرطًا في الأصل، أو مانعًا في الفرع.
ثم الذي يبين أن الأمر ليس كذلك في كل الصور أمور:
أحدهما: أن إفراد الإقامة وتثنيتها من أظهر الأمور وأجلاها؛ ثم إن ذلك لم ينقل بالتواتر.
وثانيها: القول في هيئات الصلاة؛ من رفع اليدين والجهر بالتسمية، كل ذلك أمور ظاهرة؛ مع أنها لم تنقل نقلًا متواترًا.
وثالثها: انشقاق القمر، وتسبيح الحصى، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، ونبوع الماء من بين الأصابع أمور عظيمة؛ ثم إنها لم تنقل بالتواتر.
فإن قلت: ذلك لأنهم استغنوا بنقل القرآن عن فقلها.
قلت: لا نسلم حصول الاستغناء بنقل القرآن؛ لأن كون القرآن معجزًا أمر لا يعرف إلا بدقيق النظر، والعلم بكون هذه الأشياء معجزاتٍ علم ضروري؛ فكيف يقوم أحدهما مقام الآخر؟.
فإن قلتم: لا نزاع في حصول التفاوت من هذه الجهة؛ ولكن لما كان القرآن دليلًا قاطعًا، جاز أن يصير ظهوره واشتهاره سببًا لفتور الدواعي عن نقل سائر المعجزات، وإن كانت أظهر من القرآن.
فنقول: لم لا يجوز أن يقال: إن دلالة قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله} [المائدة: 55] ودلالة خبر الغدير، والمنزلة على إمامة علي بن أبي طالب- رضي الله عنه وإن كانت خفية، إلا أن ذلك صار سببًا لفتور الدواعي عن نقل النص الجلي؟.
ورابعها: أن أقاصيص الأنبياء المتقدمين والملوك الماضين ما نقلن نقلًا متواترًا؛ وهو يقدح في قولكم.
والجواب: قوله: (العلم بعدم الواقعة العظيمة: إما أن يتوقف على العلم بأنها، لو كانت، لنقلت، أو لا يتوقف):
قلنا: يتوقف عليه.
قوله: العلم بعدم بلدة بين البصرة وبغداد أكبر منهما علم ضروري، وهذه القاعدة نظرية، والضروري لا يستفاد من النظري):
قلنا: لا نسلم انه ضروري؛ ولذلك فإن كل من ادعى نفي هذه البلدة، إذا قيل له:(كيف عرفت عدمها؟) فلا بد، وأن يقول:(لأنها لو كانت موجودة، لاشتهر خبرها؛ كما اشتهر خبر بغداد والبصرة) فعلمنا أن ذلك العدم مستفاد من هذا الأصل.
قوله: (ما ذكرته مثال واحد):
قلنا: لم نذكر ذلك المثال لاختصاص دليلنا به، بل للتنبيه على القاعدة الكلية.
قوله: (ينتقض بالإقامة):
قلنا: اختلف أصحابنا في الجواب عنه على وجهين:
الأول: وهو قول القاضي أبي بكر: لعل المؤذن كان يفرد مرة، ويثني أخرى.
فإن قلت: (فكان يجب أن ينقل بالتواتر كونه كذلك):
قلت: يحتمل أن الراوي روى بعض ما رأى، وأهمل الباقي؛ لاعتقاده أن التساهل في مثل هذا الباب سهل، ولا يتعلق به غرض أصلًا في الدين، نفيًا وإثباتًا.
والثاني: لعلهم عرفوا أن هذه المسألة من الفروع التي لا يوجب الخطأ فيها كفرًا ولا بدعة؛ فلذلك تساهلوا فيها، ولما تساهلوا فيها، نسوا ما شاهدوه؛ لا سيما وكانوا مشتغلين بالحروب العظيمة، والذين شاهدوها في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم قتلوا وقلوا؛ فصارت الرواية من باب الآحاد.
وأما اختلافهم في الجهر بالتسمية، فعنه أيضًا جوابان:
الأول: لعل فعله فيه كان مختلفًا.
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ابتدأ بالقراءة، أخفي صوته، ثم يعلو صوته على التدريج؛ وعلى هذا التقدير: يجوز أن يسمع جهره بالتسمية القريب دون البعيد، وأما سائر المعجزات قلنا: لعل الذين شاهدوا تلك الأشياء كانوا قليلين؛ فلا جرم ما حصل النقل المتواتر.
فأما الذين سمعوا النص الجلي في الإمامة: فإن كانوا قليلين، صارت الرواية من الآحاد؛ فلا تكون حجًة قطعيًة، وإن كانوا بالغين حد التواتر، وجب ظهور النقل.
وأما أقاصيص سائر الأنبياء: فإنما لم تنتقل بالتواتر؛ لأنه لا يتعلق بروايتها غرض أصلي في الدين؛ بخلاف النص الجلي في الإمامة.
الرابع: الخبر الذي يروى في وقت قد استقرت فيه الأخبار، فإذا فتش عنه، فلم يوجد في بطون الكتب، ولا في صدور الرواة، علم أنه لا أصل له، وأما في عصر الصحابة، حين لم تكن قد استقرت الأخبار، فإنه يجوز أن يروي أحدهم ما لم يوجد عند غيره.