الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
قال الرازي: في تقسيم المناسب، وذلك من أوجه:
القسم الأول: المناسب: إما أن يكون حقيقيًا، أو إقناعيًا:
أما الحقيقي: فنقول: كون المناسب مناسبًا: إما أن يكون لمصلحة تتعلق بالدنيا، أو لمصلحة تتعلق بالآخرة:
أما التقسيم الأول: فهو على ثلاثة أقسام؛ لأن رعاية تلك المصلحة: إما أن تكون في محل الضرورة، أو في محل الحاجة، أو لا في محل الضرورة، ولا في محل الحاجة:
أما التي في محل الضرورة: فهي التي تتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمسة، وهي حفظ النفس، والمال، والنسب والدين، والعقل:
أما النفس: فهي محفوظة بشرع القصاص؛ وقد نبه الله تعالى عليه بقوله: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179].
وأما المال: فهو محفوظ بشرع الضمانات والجدود.
وأما النسب: فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الزنا؛ لأن المزاحمة على الأبضاع تفضي إلى اختلاط الأنساب، المفضي إلى انقطاع التعهد عن الأولاد، وفيه التوثب على الفروج بالتعدي والتغلب؛ وهو مجلبة الفساد والتقاتل.
وأما الدين: فهو محفوظ بشرع الزواجر عن الردة، والمقاتلة مع أهل
الحرب؛ وقد نبه الله تعالى عليه بقوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} [التوبة: 29].
وأما العقل: فهو محفوظ بتحريم المسكر؛ وقد نبه الله تعالى عليه بقوله: {
…
أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر
…
} [المائدة: 91].
فهذه الخمسة هي المصالح الضرورية.
وأما التي في محل الحاجة: فتمكين الولي من تزويج الصغيرة؛ فإن مصالح النكاح غير ضرورية لها في الحال إلا أن الحاجة إليه بوجه ما حاصلة، وهي تقييد الكفء الذي لو فات، فربما فات لا إلى بدل.
وأما التي لا تكون في محل الضرورة، ولا الحاجة: فهي التي تجري مجرى التحسينات؛ وهي تقرير الناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، وهذا على قسمين: منه ما يقع، لا على معارضة قاعدة معتبرة؛ وذلك كتحريم تناول القاذورات، وسلب أهلية الشهادة عن الرقيق؛ لأجل أنها منصب شريف، والرقيق نازل القدر، والجمع بينهما غير متلائم، ومنه: ما يقع على معارضة قاعدة معتبرة؛ وهو مثل الكتابة؛ فإنها وإن كانت مستحسنة في العادات، إلا أنها في الحقيقة بيع الرجل ماله بماله؛ وذلك غير معقول.
وأما الذي يكون مناسبًا لمصلحة، تتعلق بالآخرة: فهي الحكم المذكورة في رياضة النفس، وتهذيب الأخلاق، فإن منفعتها في سعادة الآخرة.
فرع: إن كل واحدة من هذه المراتب قد يقع فيه ما يظهر كونه من ذلك القسم، وقد يقع فيه ما لا يظهر كونه منه، بل يختلف ذلك؛ بحسب اختلاف الظنون، وقد استقصى إمام الحرمين- رحمه الله في أمثلة هذه الأقسام،
ونحن نكتفي بواحد منها: قال- رحمه الله: قد ذكرنا أن حفظ النفوس بشرع القصاص من باب المناسب الضروري، ومما نعلم قطعًا: أنه من هذا الباب شرع القصاص في المثقل؛ فإنا كما نعلم أنه لولا شرع القصاص في الجملة، لوقع الهرج والمرج، فكذلك نعلم أنه لو ترك في المثقل، لوقع الهرج، ولأدى الأمر إلى أن كل من أراد قتل إنسان، فإنه يعدل عن المحدد إلى المثقل؛ دفعًا للقصاص عن نفسه؛ إذ ليس في المثقل زيادة مؤنة ليست في المحدد، بل كان المثقل أسهل من المحدد
…
وعند هذا: قال- رحمه الله: لا يجوز في كل شرع تراعى فيه مصالح الخلق- عدم وجوب القصاص بالمثقل.
قال- رحمه الله: فأما إيجاب قطع الأيدي باليد الواحدة، فإنه يحتمل أن يكون من هذا الباب؛ لكنه لا يظهر كونه منه.
أما وجه الاحتمال: فلأنا لو لم نوجب قطع الأيدي باليد الواحدة، لتأدى الأمر إلى أن كل من أراد قطع يد إنسان، استعان بشريك؛ ليدفع القصاص عنه، فتبطل الحكمة المرعية بشرع القصاص.
وأما أنه لا يظهر كونه من هذا الباب: فلأنه يحتاج فيه إلى الاستعانة بالغير، وقد لا يساعده الغير عليه، فليس وجه الحاجة إلى شرع القصاص من هاهنا مثل وجه الحاجة إلى شرعه في المنفرد.
وأما المناسب الإقناعي: فهو: الذي يظن به في أول الأمر كونه مناسبًا؛ لكنه إذا بحث عنه حق البحث، يظهر أنه غير مناسب؛ مثاله: تعليل الشافعية تحريم بيع الخمر والميتة والعذرة بنجاستها، وقياس الكلب والسرجين عليه.
ووجه المناسبة: أن كونه نجسًا يناسب إذلاله، ومقابلته بالمال في البيع يناسب
إعزازه، والجمع بينهما متناقض، وهذا وإن كان يظن به في الظاهر أنه مناسب؛ لكنه في الحقيقة ليس كذلك؛ لأن كونه نجسًا معناه: أنه لا يجوز الصلاة معه، ولا مناسبة ألبتة بين المنع مع استصحابه في الصلاة، وبين المنع من بيعه.
التقسيم الثاني: الوصف المناسب: إما أن يعلم أن الشارع اعتبره، أو يعلم أنه ألغاه، أو لا يعلم واحد منهما:
أما القسم الأول: فهو على أقسام أربعة؛ لأنه: إما أن يكون نوعه معتبرًا في نوع ذلك الحكم، أو في جنسه، أو يكون جنسه معتبرًا في نوع ذلك الحكم أو في جنسه:
مثال تأثير النوع في النوع: أنه إذا ثبت أن حقيقة السكر اقتضت حقيقة التحريم، كان النبيذ ملحقًا بالخمر؛ لأنه لا تفاوت بين العلتين، وبين الحكمين إلا اختلاف المحلين، واختلاف المحل لا يقتضي ظاهرًا اختلاف الحالين.
مثال تأثير النوع في الجنس: أن الأخوة من الأب والأم نوع واحد يقتضي التقدم في الميراث، فيقاس عليه التقدم في النكاح؛ والأخوة من الأب والأم نوع واحد في الموضعين، إلا أن ولاية النكاح ليست كولاية الإرث؛ لكن بينهما مجانسة في الحقيقة.
ولا شك أن هذا القسم دون القسم الأول في الظهور؛ لأن المفارقة بين المثلين بحسب اختلاف المحلين أقل من المفارقة بين نوعين مختلفين.
مثال تأثير الجنس في النوع: إسقاط قضاء الصلاة عن الحائض؛ تعليلًا بالمشقة، فإنه ظهر تأثير جنس المشقة في إسقاط قضاء الصلاة، وذلك مثل تأثير المشقة في السفر في إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين.
مثال تأثير الجنس في الجنس: تعليل الأحكام بالحكم التي لا تشهد لها أصول معينة: مثل أن عليًا- رضي الله عنه: (أقام الشرب مقام القذف) إقامة لمظنة الشيء مقامه؛ قياسًا على إقامة الخلوة بالمرأة مقام وطئها؛ في الحرمة.
ثم أعلم أن للجنسية مراتب، فأعم أوصاف الأحكام كونها حكمًا، ثم ينقسم الحكم إلى تحريم وإيجاب وندب وكراهة.
والواجب ينقسم إلى عبادة وغيرها، والعبادة تنقسم إلى صلاة وغيرها، والصلاة تنقسم إلى فرض ونفل، فما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة، وما ظهر تأثيره في الصلاة أخص مما ظهر وتأثيره في العبادة.
وكذا في جانب الوصف: أعم أوصافه كونه وصفًا تناط به الأحكام؛ حتى تدخل فيه الأوصاف المناسبة، وغير المناسبة.
وأخص منه: المناسب، وأخص منه: المناسب الضروري، وأخص منه: ما هو كذلك في حفظ النفوس.
وبالجملة: فالأوصاف إنما يلتفت إليها، إذا ظن التفات الشرع إليها، وكل ما كان التفات الشرع إليه أكثر، كان ظن كونه معتبرًا أقوى، وكلما كان الوصف والحكم أخص، كان ظن كون ذلك الوصف معتبرًا في حق ذلك الحكم آكد؛ فيكون لا محالة مقدمًا على ما يكون أعم منه.
وأما المناسب الذي علم أن الشرع ألغاه، فهو غير معتبر أصلًا، وأما المناسب الذي لا يعلم أن الشرع ألغاه، أو اعتبره، فذلك يكون بحسب أوصاف أخص من كونه وصفًا مصلحيًا، وإلا فعموم كونه وصفًا مصلحيًا مشهود له بالاعتبار. وهذا القسم هو المسمى بـ (المصالح المرسلة).
واعلم أن كل واحد من هذه الأقسام الأربعة، مع كثرة مراتب العموم والخصوص، قد يقع فيه كل واحد من الأقسام الخمسة، المذكورة في التقسيم الأول، ويحصل هناك أقسام كثيرة جدًا، وتقع فيما بينها المعارضات والترجيحات، ولا يمكن ضبط القول فيها؛ لكثرتها والله تعالى هو العالم بحقائقها.
التقسيم الثالث: الوصف باعتبار الملاءمة، ووقوع الحكم على وفق أحكام أخر، وشهادة الأصل- على أربعة أقسام:
الأول: ملائم شهد له أصل معين، وهو الذي أثر نوع الوصف في نوع الحكم، وأثر جنسه في جنسه، وهذا متفق على قبوله بين القايسين؛ وهو كقياس المثقل على الجارح في وجوب القصاص؛ فخصوص كونه قتلًا معتبر في خصوص كونه قصاصًا، وعموم جنس الجناية معتبر في عموم جنس العقوبة.
وثانيها: مناسب لا يلائم، ولا يشهد له أصل معين، فهذا مردود بالإجماع؛ مثاله: حرمان القاتل من الميراث معارضة له بنقيض قصده، لو قدرنا أنه لم يرد فيه نص.
وثالثها: مناسب ملائم، لا يشهد له أصل معين بالاعتبار، يعني: أنه اعتبر جنسه في جنسه، لكن لم يوجد له أصل يدل على اعتبار نوعه في نوعه، وهذا هو (المصالح المرسلة).
ورابعها: مناسب شهد له أصل معين، ولكنه غير ملائم، أي: شهد نوعه لنوعه، لكن لم يشهد جنسه لجنسه؛ كمعنى الإسكار؛ فإنه يناسب تحريم
تناول المسكر؛ صيانة للعقل، وقد يشهد لهذا لمعنى الخمر باعتباره، لكن لم تشهد له سائر الأصول، وهذا هو المسمى بـ (المناسب الغريب).
المسألة الثانية
في تقسم المناسب
قال القرافي: قوله: (المناسب الضروري ما تضمن حفظ المقاصد الخمسة: النفس، والمال، والنسب، والدين، والعقل):
قلت: غيره عد عوض (الدين)(العرض) فيحصل من ذلك أنه ستة.
(تنبيه)
قال التبريزي: المناسبة ملاءمة بين الوصف والحكم في نظر رعاية المصالح، وإنما يكون ذلك إذا تضمن ترتيب الحكم عليه للإفضاء إلى ما يوافق الإنسان في معاده أو معاشه، والموافق له في الدارين، هو جلب المنفعة، أو دفع مضره، والمنفعة هي اللذة والطريق إليها، والمضرة الألم أو الطريق إليه، وهما المسميان بالمصلحة والمفسدة، ولا حاجة إلى ذكر الطريق؛ فإن طريق اللذة ملذ، وطريق الألم مؤلم، وكل واحد من الجلب والدفع قد يكون تحصيلًا، وقد يكون تكميلًا، وقد يكون إدامة، وقد تفسر المناسب بالملائم لأفعال العقلاء، وعلى هذا تكون المناسبة وصفًا للحكم لا حكمًا للوصف، ثم هو على التحقيق إجمال لما فصلناه.
ثم قال في تقسيم المناسب إلى: الضرورة، والحاجة: والتتمة من القسم الثالث منع إنشاء النكاح عن المرأة، وحفظ العرض بحد القذف، وجاز أن يعد من التكميل في حفظ النفس من نظر ذوي المروءات في دينه عزة النفس.
ثم قال: يتعلق بأذيال كل مرتبة ما يجرى منها مجرى التتمة والتكملة، كتحتيم قتل المرتد، وشرع القصاص بالشركة، وتحريم القليل من الخمر، والخلوة بالأجنبية، وجواز الذب عن المال بالقتل، وقطع يد السارق من قسم الضرورات.
واعتبار الكفاءة ومهر المثل في تزويج الصغيرة، وشرع الخيار العيب، وخيار الخلف، وخيار الشرط في البيع قسم الحاجات.
وكراهة كسب الحجام، وعدم انعقاد الجمعة بالعبد من (التتمات) هذا ما يتعلق بالدنيا.
وأما ما يتعلق بالآخرة: فدخول الجنة، والزحزحة عن النار.
قال: ثم المناسب ينقسم إلى: مقطوع، ومظنون، وموهم.
فالأول: كشرعية القصاص في المثقل؛ فإنا نعلم بالضرورة أن الضرر عن النفس لا يندفع بدون شرعية القصاص في المثقل؛ لأنه لا يعجز أحد عنه في الانتقام من العدو.
والثاني: كالقصاص على الجماعة بقتل الواحد؛ فإنه موقوف على داعية الغير.
والثالث: تعليل الربا في المنصوصات بالطعم؛ توسيعًا للمطعوم على الخلق؛ فإن حاصل الوسع يرجع إلى امتناع القدر الذي كان يتوقع من بيع الجنس متفاضلًا، مع ندرته في بيع الجنس بخلاف الجنس أو بالنقد، ولا يخفى تصوير هذا القدر في التوسع، ثم يقدر ما يتسع على مالك الجنس، فيضع على مالك الجنس.
قلت: معنى قوله: (الطريق يكون مؤديًا، ومكملًا، ومديمًا):
مثلها: إزالة الرأس محصل لمفسدة الموت، ومصلحة القصاص.
وتكمل اللذة- الذي يوجد أصلها اشتراط الكفاءة في النكاح- تكمل