الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(القول فيما ظن أنه شرط في هذا الباب وليس بشرط)
المسألة الأولى: خبر الواحد، إذا عارضه: القياس فإما أن يكون خبر الواحد يقتضي تخصيص القياس، أو القياس يقتضي تخصيص خبر الواحد
، وإما أن يتنافيا بالكلية:
فإن كان الأول: فمن يجيز تخصيص العلة، يجمع بينهما، ومن لا يجيزه، يجرى هذا القسم مجرى ما إذا تنافيا بالكلية.
وإن كان الثاني: كان ذلك تخصيصًا لعموم خبر الواحد بالقياس؛ وإنه جائز؛ لان تخصيص عموم الكتاب، والسنة المتواترة بالقياس، لما كان جائزًا، فهاهنا أولى.
وأما الثالث: وهو ما إذا كان كل واحد منهما مبطلًا لكل مقتضيات الآخر: فنقول: ذلك القياس لابد وان يكون أصله قد ثبت بدليل، وذلك الدليل: إما أن يكون هو ذلك الخبر، أو غيره:
فإن كان الأول: فلا نزاع أن الخبر مقدم على القياس.
وإن كان الثاني: فهذا يحتمل وجوهًا ثلاثة؛ وذلك أن القياس يستدعي أمورًا ثلاثة:
أحدها: ثبوت حكم الأصل.
وثانيها: كونه معللاً بالعلة الفلانية.
وثالثها: حصول تلك العلة في الفرع.
ثم لا يخلو كل واحد من هذه الثلاثة: إما أن تكون قطعية، أو ظنية، أو بعضها قطعي، وبعضها ظني:
فإن كان الأول: كان القياس مقدمًا على خبر الواحد؛ لا محالة؛ لأن هذا القياس يقتضي القطع، وخبر الواحد يقتضي الظن، ومقتضى القطع مقدم على مقتضى الظن.
وإن كان الثاني: كان الخبر؛ لا محالة، مقدمًا على القياس؛ لان الظن، كلما كان أقل، كان بالاعتبار أولى.
وإن كان الثالث: فهذا يحتمل أقسامًا كثيرة، ونحن نعين منها صورة واحدة؛ وهي: أن يكون دليل ثبوت الحكم في الأصل قطعيًا، إلا أن كونه معللًا بالعلة المعينة، ووجود تلك العلى في الفرع ظنيًا، فها هنا اختلفوا: فعند الشافعي- رضي الله عنه: الخبر راجح، وعند مالك- رحمه الله القياس راجح.
وقال عيسى بن أبان: إن كان راوي الخبر ضابطًا، عالمًا- وجب تقديم خبره على القياس؛ وإلا كان في محل الاجتهاد.
وقال أبو الحسين البصري: طريق ترجيح أحدهما على الآخر الاجتهاد؛ فإن كانت أمارة القياس أقوى عنده من عدالة الراوي، وجب المصير إليها؛ وإلا فبالعكس، ومن الناس من توقف فيه.
لنا وجوه:
الأول: أن الصحابة كانوا يتركون اجتهادهم لخبر الواحد: من ذلك: قصة عمر- رضي الله عنه في الجنين؛ حتى قال: "كدنا نقضي فيه برأينا، وفيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأيضًا: ترك اجتهاده في المنع من توريث المرأة من دية زوجها.
وأيضًا قال: (أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها؛ فقالوا بالرأي؛ فضلوا وأضلوا).
وأيضًا: فإن أبا بكر- رضي الله عنه نقض حكمًا حكم فيه برأيه؛ لحديث سمعه من بلال.
فإن قلت: (إن ابن عباس رد خبر أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه
…
) حتى قال: (فما نصنع بمهراسنا؟!):
قلت: ظاهر هذا القول لا يقتضي رد الخبر، وإنما هو وصف للمشقة في العمل بموجبه؛ مع عظم المهراس.
سلمنا أنه ترك هذا الحديث؛ لكن إنما تركه؛ لأنه لا يمكن الأخذ به، من حيث لا يمكن قلب المهراس على اليد.
فإن قلت: (ليس فيه تكليف ما لا يطاق؛ لأنه كان يمكنهم غسل أيديهم من إناء آخر، ثم إدخالها في المهراس):
قلت: ومن أين يعلم أن قياس الأصول يقتضي غسل اليدين من ذلك الإناء؛ حتى يكون قد رد الخبر لذلك القياس.
الثاني: أن قصة معاذ تقتضي تقديم الخبر على القياس.
الثالث: أن التمسك بالخبر لا يتم إلا بثلاث مقدمات:
إحداها: ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثانيتها: دلالته على الحكم.
وثالثتها: وجوب العمل به.
والمقدمة الأولى: ظنية، والثانية والثالثة: يقينية.
وأما التمسك بالقياس: فلا يتم إلا بخمس مقدمات:
إحداها: ثبوت حكم الأصل.
وثانيتها: كونه معللاً بالعلة الفلانية.
وثالثتها: حصول تلك العلة في الفرع.
ورابعتها: عدم المانع في الفرع عند من يجيز تخصيص العلة.
وخامستها: وجوب العمل بمثل هذه الدلالة.
والمقدمة الأولى والخامسة: يقينية، وأما الثانية والثالثة والرابعة: فظنية؛ وإذا كان كذلك، كان العمل بالخبر أقل ظنًا من العمل بالقياس؛ فوجب أن يكون الخبر راجحًا.
فإن قلت: (إذا كانت الأمارة الدالة على ثبوت الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ضعيفة، والأمارات الدالة على المقدمات الثلاثة الظنية في جانب القياس- قوية؛ بحيث يتعارض ما فر احد الجانبين من الكمية، بما في الجانب الآخر من الكيفية -فها هنا يتعين الاجتهاد، والرجوع غلى الترجيح):
قلت: لو خلينا والعقل، لكان الأمر كما ذكرت، إلا أن الدليلين الأولين منعا منه.
القسم الثاني
في البحث عن الأمور العائدة إلى المخبر عنه
ثم انتهى الكلام إلى قوله: (القول فيما ظن أنه شرط في هذا المعنى، وليس شرطًا).
قوله: قال القرافي: (من قال بتخصيص العلة قال بتقديم الخبر على القياس):
تقريره: أن تخصيص العلة عبارة عن وجودها بدون حكمها، وهو النقض على العلة، فيبطل الحكم عنها في الصور التي يتناولها الخبر، فيحصل تخصيصها.
قوله: (إن كان أصل القياس هو ذلك الخبر قدم الخبر على القياس).
تقريره: أن القياس إذا نافى أصله بالكلية، فقد بطل أصله إن اعتبرناه، وإذا بطل أصله بطل القياس في نفسه، فإذا عاد على نفسه ببطلان صار باطلًا على كل تقدير، فتعين عدم اعتباره.
قال سيف الدين: قال أبو الحسين البصري: إن كانت على القياس منصوصة بنص مقطوع عمل بالعلة؛ لأن النص على العلة نص على حكمها، والنص مقدم على خبر الواحد؛ لأنه مظنون، وإن كان نص العلة غير مقطوع، وحكم الأصل غير مقطوع وجب الرجوع لخبر الواحد؛ لاستواء النصين في الظن، واختصاص خبر الواحد بالدلالة على الحكم بصريحه من غير واسطة، بخلاف النص الدال على العلة يدل على الحكم بواسطة العلة، فإن كان حكمها ثابتًا قاطعًا، فذلك موضع الاجتهاد.
فإن كانت العلة مستنبطة، وحكمها ثابت بخبر الواحد قدم الخبر، وإن كان ثابتًا قطعًا، فينبغي أن يكون هذا موضع الاختلاف بين الناس، فيكون محل الاجتهاد.
قال سيف الدين: والمختار أن متن خبر الواحد إن كان قطعيًا، والعلة منصوصة، وقلنا: إن التنصيص على علة القياس لا يخرجه عن القياس، فالنص الدال عليها إما أن يكون مساويًا في الدلالة بخبر الواحد، أو راجحًا
عليه، فإن ساواه فالخبر أولى لدلالته من غير واسطة، وإن كان راجحًا، فوجود العلة في الفرع إن كان مقطوعًا به قدم القياس، أو مظنونًا فالوقف.
قوله: (إذا كانت مقدمات القياس ظنية، وهي ثبوت الحكم في الأصل، وكونه معللًا، وجود تلك العلة في الفرع كان الخبر مقدمًا عليه).
قلنا: مالك وأبو حنيفة قالا بتقديم القياس مطلقًا في أحد القولين لهما.
وتقريره: أن النصوص إنما ترد تابعة لاقتضاء الحكم والمصالح، وإذا تعارض النص والقياس كانت المسلحة مع القياس؛ لأنه لابد فيه من المناسبة، وإن كانت الحكمة والمصلحة في القياس وجب ألا يكون في الخبر؛ لأن المصلحة الخالصة، أو الراجحة يستحيل أن تكون في الطرفين، فتعين تقديم القياس على الخبر.
قوله: (من أين يعلم أن قياس الأصول يقتضي غسل اليدين من ذلك الإناء حتى يكون) قد رد الخبر لذلك القياس؟).
تقريره: أن السائل قال: ابن عباس يقدم القياس على خبر الواحد، قال له المستدل: إنما رده؛ لأن قلب المهراس على اليد متعذر، فما رد الخبر لمظنون، بل لمقطوع، والنزاع إنما وقع في الأول.
أما ترك الخبر للقطع، فلا نزاع فيه.
قال السائل: ليس ما ذكرته من باب التعذر، بل بغسل اليد من إناء آخر.
فقال له المستدل: فحينئذ عندك ترك الخبر لا لأجل ترك الغسل من الإناء؛ لأنه متعذر كما سلمته، بل لأنه يغسلها من إناء آخر، فإنك لم تجب عن القطع إلا بهذا الجواب، فيصير الخبر إنما ترك للغسل من إناء آخر، والغسل من إناء آخر ليس هو قياسًا؛ لعدم أصل يقتضي ذلك، فكأنه يلزم الخصم أحد الأمرين على تقدير ترك الخبر.