الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الثاني
قال الرازي: في طريق معرفة العدالة والجرح وهو أمران:
أحدهما: الاختبار.
وثانيهما: التزكية، والمقصود هاهنا بيان أحكام التزكية والجرح، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: شرط بعض المحدثين العدد في المزكى والجارح؛ في الرواية، والشهادة.
وقال القاضي أبو بكر: لا يشترط العدد في تزكية الشاهد، ولا في تزكية الراوي، وإن كان الأحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكى.
وقال قوم: يشترط في الشهادة، دون الرواية، وهو الأظهر؛ لأن العدالة التي تثبت بها الرواية لا تزيد على نفس الرواية، وشرط الشيء لا يزيد على أصله؛ فالإحصان يثبت بقول اثنين؛ وإن لم يثبت الزنا إلا بقول أربعة، وكذلك نقولك تقبل تزكية العبد والمرأة في الرواية؛ كما يقبل قولهما.
المسألة الثانية: قال الشافعي- رضي الله عنه: يجب ذكر سبب الجرح، دون التعديل؛ لأنه قد يجرح بما لا يكون جارحًا؛ لاختلاف المذاهب فيه، وأما العدالة، فليس لها إلا سبب واحد.
وقال قوم: يجب ذكر سبب التعديل، دون الجرح؛ لأن مطلق الجرح يبطل الثقة، ومطلق التعديل لا يحصل الثقة؛ لتسارع الناس إلى الثناء على الظاهر؛ فلا بد من سبب.
وقال قوم: لابد من السبب فيهما جميعًا؛ أخذًا بمجامع كلام الفريقين.
وقال القاضي أبو بكر: لا يجب ذكر السبب فيهما جميعًا؛ لأنه إن لم يكن بصيرًا بهذا الشأن، لم تصح تزكيته، وإن كان بصيرًا، فلا معنى للسؤال.
والحق: أن هذا يختلف باختلاف أحوال المزكي، فإن علمنا كونه عالمًا بأسباب الجرح والتعديل، اكتفينا بإطلاقه.
وإن علمنا عدالته في نفسه، ولم نعرف إطلاعه على شرائط الجرح والتعديل، استخبرناه عن أسباب الجرح والتعديل.
المسألة الثالثة: إذا تعارض الجرح والتعديل، قدمنا الجرح؛ لأنه اطلاع على زيادة، لم يطلع عليها المعدل، ولا نفاها، فإن نفاها، بطلت عدالة المزكي؛ إذ النفي لا يعلم؛ اللهم إلا إذا جرحه بقتل إنسان، فقال المعدل:(رأيته حيًا) فهاهنا يتعارضان، وعدد المعدل، إذا زاد، قيل: إنه يقدم على الجارح، وهو ضعيف؛ لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على زيادة؛ فلا ينتفي ذلك بكثرة العدد.
المسألة الرابعة: للتزكية مراتب أربعة:: أعلاها: أن يحكم بشهادته، والثانية: أن يقول: هو عدل؛ لأني عرفت منه كيت وكيت، فإن لم يذكر السبب، وكان عارفًا بشروط العدالة، كفى.
والثالثة: أن يروي عنه خبرًا، واختلفوا في كونه تعديلًا.
والحق: أنه إن عرف من عادته، أو بصريح قوله: أنه لا يستجيز الرواية إلا عن عدل، كانت الرواية تعديلًا، وإلا فلا؛ إذ من عادة أكثرهم الرواية عن كل من سمعوه، ولو كلفوا الثناء عليهم، سكتوا.
فإن قلت: (لو عرفه بالفسق، ثم روى عنه، كان غاشًا في الدين):
قلت: إنه لم يوجب على غيره العمل به، بل قال:(سمعت فلانًا يقول كذا) وصدق فيه، ثم لعله لم يعرفه بالفسق، ولا بالعدالة؛ فروى، ووكل البحث إلى من أراد القبول.
والرابعة: العمل بالخبر: إن أمكن حمله على الاحتياط، أو على العمل بدليل آخر، وافق الخبر- فليس بتعديل، وإن عرف يقينًا: أنه عمل بالخبر- فهو تعديل؛ إذ لو عمل بخبر غير العدل، لفسق.
المسألة الخامسة: ترك الحكم بشهادته لا يكون جرحًا في روايته؛ وذلك لأن الرواية والشهادة مشتركان في هذه الشرائط الأربعة، أعني: العقل، والتكليف، والإسلام، والعدالة، واختصت الشهادة بأمور ستة؛ هي غير معتبرة في الرواية وهي: عدم القرابة، والحرية، والذكورة، والبصر، والعدد، والعداوة، والصداقة.
فهذه الستة تؤثر في الشهادة، لا في الرواية؛ لأن الولد له أن يروي عن والده بالإجماع، والعبد له أن يروي أيضًا، والضرير له أن يروي أيضًا، ذلك لأن الصحابة رووا عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنهم في حقهن كالضرير.
(لنوع الثاني
في العدالة)
قال القرافي: قوله: (شرط بعضهم العدد في المزكي والجارح في الرواية، والشهادة).
قلت: هذا الكلام فرع تصور حقيقة الشهادة والرواية؛ فإن الحكم على
الشيء فرع تصوره، ولقد أقمت ثماني سنين، وأنا أجد في فروع الفقه، أن منشأ الخلاف في هذه المسألة دورانها بين الشهادة والرواية، واسأل من أجده من الفضلاء يقول: الفرق بينهما أن الشهادة يشترط فيها العدد، والحرية، والذكورة في بعض الصور، والرواية ليست كذلك في الجميع، فأقول لهم: التزام هذه الشروط فيها فرع تصورهما؟ فكيف يستفاد تصورهما من فروعهما، فلا يحصل في ذلك تصورهما، ولم ازل كذلك حتى وجدته في شرح المازري لـ (البرهان)، فقال:"قاعدة": الخبر يعم الشهادة والرواية، فمتعلق ذلك الخبر وفائدته إن كان عامًا في الأمصار، والأعصار إلى يوم القيامة، فهو الرواية، وغن كان خاصًا بشخص معين، فهو الشهادة، وبهذا السر يظهر اشتراط العدد؛ لأن الشاهد إذا أخبر عن ضرر شخص معين احتمل أن يكون عدوًا له، وما شعرنا به، فاستظهرنا بالعدد لتبعد التهمة، ففي الرواية لا يعادي العدل الخلائق إلى يوم القيامة، فلام نشترط العدد، وبه ظهر اشتراط الحرية؛ فإن إثبات سلطان العبيد على الشخص المعين يتضرر به ذلك المعين، وحكم يعم الخلق أجمعين لا يتضرر به أحد؛ لأنه لم يستشعر أن العبد قصده، والمعين مقصود، فيتألم، ثم المواطن ثلاثة أقسام:
قسم اتفق على أنه من باب العموم الصرف، فهو رواية اتفاقًا، كقوله عليه السلام:(الأعمال بالنيات).
وقسم خصوص صرف، فهو شهادة اتفاقًا، كإخبار العدل من ثبوت الدين على زيد.
وقسم اختلف العلماء فيه، لتردده بين العموم والخصوص، هل هو شهادة أو رواية؟
كشهادة هلال رمضان من جهة أنه يخص هذا العام، فيشبه الشهادة، ومن جهة أنه لا يختص ببلد معين عموم، فيشبه الرواية، ففيه لأجل الشائبة قولان.