الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: (والمراد بالعلة إما المؤثر، أو الداعي، أو المعرف):
تقريره: أن المؤثر هو المحصل للوجود، والناقل للمكن من حيّز العدم إلى حيز الوجود، كما تقول الفلاسفة في الطبائع وغيرها.
والداعي هو: العلم باشتمال الفعل على جلب مصلحة، أو دفع مفسدة، فيدعو ذلك العلم من قام به لفعل ذلك الفعل.
والمعرّف هو: العلامة على الشيء والمرشد له، كتعريف كلّ جزء من أجزاء العالم بوجود الله- تعالى- وصفاته العلى، كما تقرر في أصول الدين.
(فائدة)
قال القاضي عبد الوهّاب في (الملخص)، والشيخ أبو إسحاق في (اللمع): العلة لها معنيان: لغوى واصطلاحي
.
فهو اعتبار اللغة مأخوذ من ثلاثة أشياء:
علّة المرض: وهو الذي يؤثر فيه عادة.
والداعي: من قولهم: علّة إكرام زيد لعمرو، علمه وإحسانه.
وقيل: من الدّوام والتكرر، ومنه العلل لشرب بعد الري، يقال: شرب عللاً بعد نَهَل.
وفي اصطلاح المتكلمين: العلة: ما اقتضى حكمًا لمن قام به، كالعلم علّة للعالمية.
وعند الفقهاء: ما ثبت الحكم لأجله.
قوله: (حكم الله- تعالى- عند أهل السنة مجرد خطابه الذي هو كلامه القديم، فيمتنع تعليله):
قُلنا: لابُدّ مع الكلام القديم من التعلق بالاقتضاء أو التخيير، وبدون هذا
التعلق لا يتصور من الكلام حكم، والحكم هو مجموع المركب من الكلام القديم، والتعلق عدمي؛ لأنه نسبة بين الكلام وأفعال المكلفين، والنسب والإضافات كلها عدمية عند أهل الحق، فيكون الحكم عدميًا؛ لأن المركب من الوجود والعدم عدم، وإذا كان الحكم بهذا الاعتبار عدميًا، أمكن أن يترتب تحقيقه على غيره، ولا تمتنع إضافة محققة للغير، وإنما يمتنع ذلك في الواجب الموجود بجميع أجزائه.
قوله: (وأما على قول من يقول: الأحكام أمور عارضة للأفعال معلّلة بوقوع تلك الأفعال على جهاتٍ مخصوصة، فهو قول المعتزلة، وقد أبطلناه):
تقريره: أن المعتزلة لا تقول بالكلام النفساني، والأحكام عندهم أوامر الشرع ونواهيه الدالة على إرادة عدم ذلك المحرم، ووجود ذلك الواجب؛ لأجل اشتمال المحرم على المفسدة، والواجب على المصلحة، فتلق هذه الألفاظ الخاصة بالأفعال أمور عارضة للأفعال؛ لأجل المصالح والمفاسد، هذا بعد ورود الشرائع بصيغ النصوص.
وأما قبلها، فالأحكام عندهم ثابتة مع أنه لا لفظ من قبل الشرع حينئذ؛ بل المتعلق الإرادة فقط، وتلك الإرادة متعلقة بالفعل في الواجب، والترك في المحرم، والتخيير في المباح، وتعلقت- أيضًا- بالعقاب والثواب على حسب مراتب الأفعال، فهذه هي الأمور العارضة للأفعال.
قوله: (الاستحقاق أمر ثبوتي؛ لأنه مناقضٌ لعدم الاستحقاق):
قلنا: هذا لا يتم؛ لأن الاستحقاق نسبة وإضافة بين المستحق الذي هو العذاب، والمستحق به الذي هو المعصية، والنسب كلها عدمية، وإن كان لفظها لفظ ثبوت، كما تقول: البنوة نقيضها عدم البنوة، وكذلك الأبوة، والفوقية، والتحتية، والتقدم، والتأخر، وغير ذلك من النسب العدمية،
ويمكن أن يقال فيها كلها: هي نقيض عدمها، ولا يقتضي ذلك أنها وجودية في الخارج، وإذا كان الاستحقاق عدميًا، أمكن تعليله بالعدم الذي هو ترك الواجب، ثم هذا لا يتم في المحرم؛ فإن الاستحقاق فيه بالفعل، وهو وجودي، فدليلكم لا يعم جميع صور النزاع.
قوله: (الحكم مع علته المستقلة واجب الحصول لذاته):
تقريره: أن كل مؤثر إذا استجمع لكل ما لا بد منه في التأثير، وجب أثره ضرورة؛ لأنه لو لم يجب لجاز ألا يقع في تلك الحالة، فليفرض وقوعه تارة، وعدم وقوعه تارة أخرى، فاختصاص زمان الوقوع بالوقوع لا بد له من مرجّح، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح وهو محال.
فإذا حصل ذلك المرجح، وإن وجود الفعل لحصل المطلوب، وإلا عاد البحث، ولزم التسلسل، وهو محال، فحينئذ لا بد من حصول الأثر عند الاستجماع من الأسباب، والشروط، وانتفاء جميع الموانع، وهو المراد بالعلة المستقلة.
ومثاله: أن الكاتب (للألف) لا بد له من دواة، وقرطاسٍ، وقلم، وحركة بالإصبع على القرطاس، ومتى حصلت الأسباب كلها والشروط، وانتفت الموانع، وجب حصول (الألف) ضرورة، ولا تتأخر إلا لفقدان بعض ما فرضت وقوعه الآن، وهذا يوضح لك هذا المطلب العقلي.
غير أن قول المصنف: (واجب الحصول لذاته) إن كان الضمير في ذاته عائدًا على الأثر، فليس كذلك، بل هو واجب الحصول لغيره لا لذاته.
وإن كان عائدًا على العلة المستجمعة صح، والأول: هو ظاهر لفظه.
ويمكن تصحيح عبارته بطريق: وهو أن المعلول الذي استجمعت علته لوقوعه يجب وجوده لذاته، من حيث أنه مستجمع له، لا بالنظر إلى ذاته
من حيث هو هو، مع قطع النظر عن الاستجماع، ومن هذا الوجه لا يحتاج إلى مؤثر يوقعه؛ لأنه أخذ بقيد مؤثره، فلو احتاج إلى غيره لزم تحصيل الحاصل.
قوله: (بيان نقيض التالي):
تقريره: أن التالي: هو اللازم، وكأن اللازم معناه: عدم اجتماع العلل على الحكم الواحد في قوله: (إن العلة الشرعية لو كانت مؤثرة لما اجتمع على الحكم الواحد علل)، ونفي اللازم يقتضى نفي الملزوم، فاستثناء نقيض اللازم معناه بيان عدم اللازم، حتى يلزم منه عدم الملزوم.
قوله: (عليه العلة ما كانت حاصلة قبل هذا الشرط، ثم حدثت عند حصوله، فتلك العلية أمر حادث لابد له من مؤثر، وهو الشرط):
قلنا: العليّة: هي كون العلة بالنظر إلى ذاتها، وهذا الوصف لا يتوقف ثبوته لها على الشرط، إنما الذي يتوقف على الشرط ترتب معلولها عليها، ولذلك نقول: السم سبب وجود القتل في نفسه، وإن كان في بعض المحال قد يتأخر لمانع، وعدم شرط، ولو سلمنا ذلك: فالعلية نسبة وإضافة؛ لأنها ترجع إلى التأثير، وهو نسبة بين الأثر والمؤثر.
والحق في هذه المواضع أن المتوقف هو ترتب الأثر على العلة، وهو نسبة عدمية أمكن تعليله بالشرط العدمي.
أو نقول: الترتب- أيضًا- مضاف لذات العلة، لكن بشرط حصول ذلك العدم، فلا يكون الشرط مؤثرًا مطلقًا، كان شرطًا في الترتيب أو في العلّية.
قوله: (الصادر عن الشارع إما الحكم أو ما يؤثر فيه):
قلنا: الحق في القسم الثالث؛ لأنه قد تقدم منع سراج الدين أول الكتاب
أن الصادر عن الشرع هو المؤثر به، وهي غير المؤثر؛ لأنها صفة المؤثر، وهذه الصفة وحدها نسبة وإضافة لا تستقل بالتأثير، فإذا جعل الشرع الوصف مؤثرًا، فقد حصل له مؤثر به، وهي غير المؤثر، وحينئذ يمنع كلامه في الأخير، أنه إن كان الواقع هذا القسم لم يحصل الحكم، بل يحصل لاستلزام المؤثر به بواسطة المؤثر في ذلك الحكم.
قوله: (الداعي موجب لكون الفاعل فاعلًا):
تقريره: أن الموجب هو الذي يلزم عنه الأثر، كان ذلك الأثر وجوديًا كالنور بالنسبة إلى الشمس في مجرى العادة، أو عدميًا كأحكام المعلل، فإنها أحوال ونسب وإضافات ليست وجودية، والمعاني موجبة لها كالعالمية مع العلم، والقادرية مع القدرة، ونحو ذلك.
وكون الفاعل فاعلًا من باب النسب والإضافات، فلا يشكل عليك جعل الداعي موجبًاً بالنسبة إليه؛ لتخيلك أن الموجب وهو الوجود، ولا وجود هاهنا.
قوله: (الفاعل للغرض مستكمل بذلك الغرض، ناقص بدونه):
قلنا: لا نسلم؛ لأن الغرض قد يكون مما له أن يفعله، وله ألا يفعله، والأمران على السواء، ويكون المرجح لأحد الأمرين على الآخر الإرادة؛ لأنها صفة شأنها الترجيح لأحد المتساويين على الآخر لذاتها، من غير احتياج لمرجٍح آخر.
فالله- تعالى- له أن يفعل لمرجح، ولا لمرجح، وإرادته الأزلية مرجح أحدهما على الآخر لا لمرجح.
وإنما يلزم النقض إذا كان ذلك يرجع إلى صفة ذاتية أو معنوية قائمة به- تعالى- وأما ما هو من قبيل الأفعال وعللها، وما يبنى عليه، فذلك كله من قبيل الجائزات عندنا وجودًا وعدمًا.
قوله: (إنّ ذلك في حصوله وعدمه على السواء في اعتقاده إن كان الأول استحال أن يكون غرضًا، والعلم به ضروري).
قلنا: كونه سواء في اعتقاده له ثلاثة معان:
أحدهما: أن يكون سواء بالنسبة إلى الفاعل، راجحًا بالنسبة إلى المفعول له، وهذا ليس محالًا، بل هو الواقع غالبًا في الشرائع، والأفعال الربانية.
وثانيها: أن يكون سواء- مطلقاً- بالنسبة إلى الفاعل والمفعول له، ووقوع مثل هذا مرتبًا عليه الفعل ليس محالًا، والمرجح الإرادة، فله أن يوجد ما فيه مصلحة وما لا مصلحة فيه، وأن يرتب الفعل على ما هو مصلحة في نفسه، ويكون ترتيب الفعل على هذا وترتيبه على غير سواء في لمه، ويكون المرجح الإرادة، ويكون ترتبه عليه كاقتران اتحاد العالم بزمان وجوده المعيّن مع إمكان اقتران وجوده بغيره، والأمران على السواء، ضرورة استواء الأزمنة، ومع ذلك رجحت الإرادة أحدهما على الآخر في الترتيب.
وثالثها: أن يكون ذلك المرتب عليه لم يترجح الترتيب عليه بالإرادة ولا عدم الترتيب، بل هما في العلم على السواء، فهذا هو الذي نسلم أنه يستحيل أن يكون مرتبًا عليه؛ لأنه لو كان مرتبًا عليه، لعلمه مرتبًا عليه، ورجّح ذلك في علمه، فحيث لم يرجح في علمه لا يكون مرتبًا عليه ضرورة، فهذه المقدمة مهملة بين هذه الأقسام، والحق منها هو الثالث، ولم يدعيه بل الأول اعتقادًا، والثاني يدعيه بحثًا ومناظرة، ولا مدخل لهذا الغرض في الكمال الشرحي، فلزم منه عدم النقض.
ثم قوله بعد ذلك: (كونه غرضًا متعلقًا بالغير إما أن يكون سواء النسبة إليه أم لا):
قلنا: يعود فيه التقسيم التقدم، وما المراد بالتسوية على تلك الأقسام الثلاثة، ويختار القسم الأول كما تقدم، والثاني جدلًا.
وقوله: (إن المعتزلي يقول):
ما حكاه عنه، فذلك مذهب باطل عندنا، لا يلزمنا ما يلزم عليه.
قوله: (الحكمة لذة أو سببها، أو دفع مضرة أو سببها):
تقريره: أنا إذا قلنا: الزنا حرم لحكمة حفظ الأنساب عن الاختلاط، فمعناه أن النسب إذا اختلط تألم صاحبه، وكذلك تحريم المسكرات لمفسدة زوال العقل، معناه: أن زوال العقل مفسدة شأنه أن يؤلم الطبع السليم، هذا في المحرمات، والواجبات، كوجوب الزكاة؛ لحكمة شكر النعمة، وسد الخلة معناه أن الفقير يلتذّ به بسبب سد خلته، والمحسن شأنه أن يلتذ بشكر نعمته، غير أن اللذة على الله- تعالى- محال، فتعود اللذة إلى أن الشاكر يلتذ بكونه حصل الشكر، وقام بما يليق به، وقس على ذلك جميع موارد الشرع.
قوله: (الله- تعالى- قادر على تحصيل اللذة بغير واسطة، فيستحيل أن يكون ذلك معللًا بشيء):
قلنا: إذا كان قادرًا يلزم من ذلك جوازه، لا وجوبه ولا امتناعه، وإرادته- تعالى- ترجّح أحد الجائزين على الآخر، فلا استحالة.
وقوله: (إنما يكون الشيء معللاً بشيء آخر إذا كان يلزم من عدم فرض علة عدمه):
قلنا: ذلك إنما يلزم فيما هو علة باعتبار ذاته، أما ما هو علة بجعله علّة على سبيل الجواز، فلا يلزم فيه ذلك.
وأما ما ذكره من نعيق الغراب، وصرير الباب، فإنا نجزم بعدم علته لذلك، وإنما ذلك لعدم الجعل، ولو جعله صاحب الشرع لاعتقدناه العلة، غايته أنا لا نجد فيه مصلحة، فيكون ذلك تعبدًا كما يقوله في الأحكام التعبدية، ومقادير النصب، والصلوات.
* * *