الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
في الأصل والفرع
إذا قسنا الذرة على البر؛ في تحريم بيعه بجنسه متفاضلاً، فأصل القياس: إما أن يكون هو البر، أو الحكم الثابت فيه، أو على ذلك الحكم، أو النص الدال على ثبوت ذلك الحكم.
فالفقهاء جعلوا الأصل اسمًا لمحل الحكم المنصوص عليه.
والمتكلمون جعلوه اسمًا للنص الدال على ذلك الحكم.
أما قول الفقهاء: فضعيف؛ لأن أصل الشيء ما تفرع عنه غيره، والحكم المطلوب إثباته في الذرة غير متفرع على البر؛ لأن البر، لو لم يوجد فيه ذلك الحكم، وهو حرمة الربا، لم يمكن تفريع حرمة الربا في الذرة عليه.
ولو وجد ذلك الحكم في صورة أخرى، ولم يوجد في البر، أمكن تفريع حكم الربا في الذرة، عليه.
فإذن الحكم المطلوب إثباته غير متفرع أصلاً على البر؛ بل على الحكم الحاصل ف يالبر؛ فالبر إذن لا يكون أصلاً للحكم المطلوب.
وأما قول المتكلمين: فضعيفٌ أيضًا؛ من هذا الوجه؛ لأنا لو قدرنا كوننا عالمين بحرمة الربا في البر بالضرورة، أو بالدليل العقلي، لأمكننا أن نفرع عليه حكم الذرة، فلو قدرنا أن النص على حرمة الربا في صورة خاصة، لم يمكن أن نفرع عليه حكم الذرة تفريعًا قياسيًا، وإن أمكن تفريعًا نصيًا.
وإذا كان كذلك، لم يكن النص أصلاً للقياس، بل أصلاً لحكم محل
الوفاق؛ ولما فسد هذان القولان، بقى أن يكون أصل القياس هو الحكم الثابت في محل الوفاق، أو علة ذلك الحكم، ولا بد فيه من تفصيل؛ فنقول:
الحكم: أصل في محل الوفاق، فرع في محل الخلاف، والعلة: فرع في محل الوفاق، أصل في محل الخلاف.
وبيانه: أنا ما لم نعلم ثبوت الحكم في محل الوفاق لا نطلب علة، وقد نعلم ذلك الحكم، ولا نطلب علته أصلاً، فلما توقف إثبات علة الحكم في محل الوفاق على إثبات ذلك الحكم، ولم يتوقف إثبات ذلك الحكم على إثبات علة الحكم في محل الوفاق - لا جرم كانت العلة فرعًا على الحكم في محل الوفاق، والحكم أصلاً فيه.
وأما في محل الخلاف: فما لم نعلم حصول العلة فيه، لا يمكننا إثبات الحكم فيه قياسًا، ولا ينعكس؛ فلا جرم كانت العلة أصلاً في محل الخلاف، والحكم فرعًا فيه، وإذا عرفت ذلك، فنقول: إن لقول الفقهاء والمتكلمين وجهًا أيضًا؛ لأنه إذا ثبت أن الحكم الحاصل في محل الوفاق أصل، وثبت أن النص أصل لذلك الحكم، فكان النص أصلاً لأصل الحكم المطلوب، وأصل الأصل أصل، فيجوز تسمية ذلك النص بالأصل على قول المتكلمين.
وأيضًا: فالحكم الذي هو الأصل محتاج إلى محله، فيكون محل الحكم أصلاً للأصل، فتجوز تسميته بالأصل أيضًا على ما هو قول الفقهاء، وهاهنا دقيقة؛ وهي: أن تسمية العلة في محل النزاع أصلاً أولى من تسمية محل الوفاق بذلك؛ لأن العلة مؤثرة في الحكم، والمحل غير مؤثر في الحكم، فجعل علة الحكم أصلاً له أولى من جعل محل الحكم أصلاً له؛ لأن التعلق الأول أقوى من الثاني.
وأما الفرع: فهو عند الفقهاء عبارة عن محل الخلاف، وعندنا عبارة عن الحكم المطلوب إثباته؛ لأن محل الخلاف غير متفرع على الأصل، بل الحكم المطلوب إثباته فيه هو المتفرع عليه.
وهاهنا دقيقة؛ وهي: أن إطلاق لفظ الأصل على محل الوفاق أولى من إطلاق لفظ الفرع على محل الخلاف؛ لأن محل الوفاق أصل للحكم الحاصل فيه، والحكم الحاصل فيه أصل للقياس؛ فكان محل الوفاق اصل أصل القياس.
وأما هاهنا: فمحل الخلاف أصل للحكم المطلوب إثباته فيه، وذلك الحكم فرع للقياس؛ فيكون محل الخلاف أصل فرع القياس، وإطلاق اسم الأصل على أصل أصل القياس أولى من إطلاق اسم الفرع على أصل الفرع.
واعلم: أنا بعد التنبيه على هذه الدقائق نساعد الفقهاء على مصطلحهم، وهو أن الأصل محل الوفاق، والفرع محل الخلاف؛ لئلا نفتقر إلى تغيير مصطلحهم.
* * *
الكلام في القياس
قال القرافى: قال سيف الدين: القياس في اللغة التقدير، ومنه: قست الأرض بالقصبة، والثوب بالذراع، أي قدرته بذلك، فهو يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة، فهو نسبة وإضافة بين شيئين، ولهذا يقال: فلان يقاس بفلان، ولا يقاس بفلان، أي: يساويه.
قال إمام الحرمين في (البرهان): القياس مناط الاجتهاد، وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه، وهو المستقل بتفاصيل أحكام الوقائع التي هي
غير متناهية؛ لأن نصوص الكتاب والسنة محصورة، ومواقع الإجماع معدودة متناهية، والوقائع لا نهاية لها، والمختار عندنا أنه لا تخلو واقعة عن حكم شرعي، فالمسترسل على جميعها القياس، فهو أحق الأصول باعتناء الطالب، ومن عرف تقاسيمه، وصحيحه، وفاسده، والاعتراضات عليه، مايصح منها وما يفسد، ومراتبها جلاءً وخفاءً، فقد احتوى على مجامع الفقه.
(المسألة الأولى)
(في حد القياس)
قوله: (في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما).
مثالهما: راجح المصلحة، فيباح، راجح المفسدة، فلا يباح.
قوله: (بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة).
مثالهما: نجس، فيحرم، مسكر، فيحرم؛ لأن النجاسة حكم شرعي، والإسكار صفة حقيقية.
قوله: (أو نفيهما عنه).
وقع في بعض النسخ: (أو نفيهما عنه)، وفي بعضها:(نفيه عنهما)، والأول الصحيح.
تقريره: أن الحكم قد يجمع بثبوته كما تقدم، وقد يجمع بنفيه، كقولنا: ليس بنجس، فيباح بيعه، وكذلك الصفة، كقولنا: ليس بمسكر، فيباح تناوله.
قوله: (القياس يجرى ف يالموجود، والمعدوم).
مثالهما: منتفع به، فيباح، ليس بعاقلٍ، فلا يصح تصرفه كالصبي؛ فإن الحكم كما يكون وجوديًا يكون عدميًا، كقولنا: لا يصح تصرفه.
والجامع قد يكون وجوديًا، وقد يكون عدميًا، صفة أو حكمًا، فتكون الأقسام ثمانية: وجود الصفة مع وجود الحكم أو عدمه.
وعدمها معهما.
ووجود الحكم معهما، وعدمه معهما، ومثلهما كما تقدم.
قوله: (لو ذكرنا الفرع لأوهم اختصاصه بالموجود).
تقريره: أن التفريع أصله من فرع الشجرة، وإنما يتصور ذلك في العالم في شجرة موجودة.
وقد يقال: عدم الملزوم متفرع على عدم اللازم، وعدم المشروط متفرع على عدم الشرط، وهو كثير، غير أنه قليل بالنسبة إلى الموجودات، فلذلك قال:(يوهم اختصاصه بالموجود).
وأيضًا: يلزم من ذلك الدور؛ لأن الصورة إنما تكون فرعًا إذا تعين لها أصل، فالفرع والأصل فرع القياس، فلو عرف بهما القياس لزم الدور.
قوله: (في إثبات حكم لهما).
مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع مثبت بالقياس.
تقريره: أن اللغة تقتضي أنا متى حكمنا على تثنيةٍ أو جمعٍ أو ضميرٍ، فإن المحكوم عليه كلية لا كل.
فإذا قلنا: أكرمتهما، معناه: أكرمت كل واحد منهما، وكذلك أكرمتهم، أو أكرمت الرجال، ولا تريد العرب المجموع المركب الذي هو الكل، وقد تقرر ذلك في (باب العموم). وحينئذ تقتضى هذه العبارة أن يكون الحكم ثابتًا لكل واحد منهما، وهو المدعى.
ويرد عليه: أن الكل كما يبطل بعدم الجزء، ويوجد بوجود جميع أجزائه، فكذلك الكلية تعدم بعدم الجزئية، وتوجد عند تكامل جميع الأفراد، فإذا
كان الحكم ثابتًا في بعض الأفراد تكون جزئية، فإذا ثبت في البعض الآخر حصلت الكلية بالجزئية الأخيرة، فكذلك هاهنا، تكمل الكليةُ في الفردين ثبوت الحكم في الفرد الآخر الذي هو الفرع، وكذلك لو جعلنا أن معنى الضمائر والجموع في لسان العرب كلا لا كلية لم يرد السؤال أيضًا، إنما يتجه إذا جعلناه كلية؛ لأن اتحاد المجموع قد يكون باتحاد جزئه الآخر.
قوله: (هذا التعريف إما زائد أو ناقص)
تقريره: أن الصفة إن أغنى عن ذكرها ذكر الحكم، لزم أن يكون ذكرها في الجامع زيادة في الحد، والحد يصان عن الزيادة؛ لأنها توجب تطويلاً، وقد لا يسع الذهن المعنى الكبير، واللفظ الطويل؛ فيختل الفهم، فيضيع المقصود من الحد.
وإن لم يغن ذكر الحكم عن ذكر الصفة - مع أن القياس يدخل في إثبات الصفة - كان نوعًا من القياس لم يتعرض له الحد، فيكون غير جامع، وهو باطل أشد من بطلان الزيادة.
قوله: (كلمة (أو) للإبهام فتنافى الحدود؛ لأن المراد بها البيان).
قلنا: قد تقدم أول الكتاب في حد الحكم، أن (أو) قد تكون للحكم بالترديد، وقد تكون للترديد في الحكم، والثاني هو المنافى للحدود؛ لأن معناه الشك، بخلاف الأول؛ لأن معناه التنويع، وقد تقدم أن لهذه الكلمة خمسة معان:
أحدها: التنويع كقولنا: العدد إما زوج أو فرد، فلا شك حينئذ في هذه القضية العددية، بخلاف قولنا: جاءني زيد أو عمرو، فالمراد في الحدود إنما هو الحكم بالترديد، لا الترديد في الحكم.
غير أنه يبقى سؤال: وهو أن اللفظة إذا كانت لخمسة معانٍ، كانت مشتركة، والمشترك مجمل، والمجمل مخل بالحدود، والحدود للبيان.
ويمكن أن يجاب عنه بأن قرينة التحديد تعين التنويع، فلا إجمال مع القرينة، كما نص عليه الغزالي في مقدمة (المستصفى): أن المجاز مع القرينة يجوز في الحدود؛ لحصول المقصود بالقرينة.
قوله: (القياس الفاسد قياس مع كيفية).
قلنا: لا نسلم؛ فإن الفساد إنما يكون لخلل شرط، أو ركن، وكلاهما يخل ثبوت الماهية، وإذا اختلت الماهية كانت معدومة، فيمتنع قولكم:(إنها ثابت مع صفة الفساد)، بل قولنا: قياس فاسد مثل قولنا: صلاة فاسدة، مع أن الصلاة الشرعية التي هي المطلوبة لا تتحقق مع وصف الفساد، وذلك مجاز توسع؛ لحصول الشبه في الصورة، أو إشارة إلى الصلاة اللغوية، كذلك هاهنا، إما مجاز تشبيه لحصول الشبه في الصورة، أو إشارة إلى القياس اللغوي، وليس هو المقصود بالحد هاهنا.
قوله: (متى حصل الجامع كان القياس صحيحًا).
قلنا: ممنوع؛ لأن الفساد قد يكون مع ثبوت الجامع، لكونه على خلاف الإجماع، أو النصوص القطعية؛ لمناسبة الجامع للعكس في المدعى وأسباب الفساد كثيرة في القياس غير عدم الجامع.
قوله: (يجب أن يقال: بأمر جامع في ظن المجتهد؛ لأن القياس الفاسد حصل فيه الجامع في ظن المجتهد).
قلنا: هذا إنما يستقيم إذا انحصر الفساد في عدم الجامع، وليس كذلك كما تقدم، بل نقول غير هذا التقرير وهو: أن ربا الفضل اختلف العلماء في علته على مذاهب: الطعم، والكيل، والاقتيات، والمالية، والجنس، وغير ذلك من المذاهب.
................................................................................................
.................................................................................................
...............................................................................................