الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلام في القياس
قال الرازي: وهو مرتب على مقدمة وأربعة أقسام
أما
المقدمة: ففيها مسائل:
المسألة الأولى: في حد القياس:
أسد ما قيل في هذا الباب؛ تلخيصًا: وجهان:
الأول: ما ذكره القاضي أبو بكر، واختاره جمهور المحققين منا:(أنه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما، بأمر جامع بينهما من إثبات حكم، أو صفة، أو نفيهما عنهما).
وإنما ذكرنا لفظ (المعلوم): ليتناول الموجود، والمعدوم؛ فإن القياس يجري فيهما جميعًا، ولو ذكرنا الشيء، لاختص بالموجود على مذهبنا، ولو ذكرنا الفرع، لكان يوهم اختصاصه بالموجود.
وأيضًا: فلا بد من معلوم ثان يكون أصلًا؛ فإن القياس عبارة عن التسوية، وهي لا تتحقق إلا بين أمرين؛ ولأنه لولا الأصل، لكان ذلك إثباتًا للشرع بالتحكم.
وأيضًا: فالحكم قد يكون نفيًا، وقد يكون إثباتًا، وأيضًا: فالجامع قد يكون أمرًا حقيقيًا، وقد يكون حكمًا شرعيًا: وكل واحد منهما قد يكون نفيًا، وقد يكون إثباتًا.
هذا شرح هذا التعريف.
والاعتراض عليه من وجوهٍ:
أحدها: أن نقول: إن أردت بحمل أحد المعلومين على الآخر: إثبات مثل حكم أحدهما للآخر، فقولك بعد ذلك:(في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما): إعادة لعين ذلك؛ فيكون ذلك تكريرًا من غير فائدة، وإن كان شيئًا آخر، فلا بد من بيانه.
وأيضًا: فبتقدير أن يكون المراد منه شيئًا آخر؛ لكن لا يجوز ذكره في تعريف القياس؛ لأن ماهية القياس تتم بإثبات مثل معلوم لمعلوم آخر بأمر جامع، وإذا تمت الماهية بهذا القدر، وكان ذلك المعلوم الزائد خارجًا؛ فلا يجوز ذكره.
وثانيها: أن قوله: (في إثبات حكم لهما) مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع مثبت بالقياس؛ وهو باطلٌ؛ فإن القياس فرع على ثبوت الحكم في الأصل، فلو كان ثبوت الحكم في الأصل فرعًا على القياس، للزم الدور.
وثالثها: أنه كما يثبت الحكم بالقياس، فقد تثبت الصفة أيضًا بالقياس؛ كقولنا:(الله عالم) فيكون له علمٌ؛ قياسًا على الشاهد، ولا نزاع في أنه قياسٌ؛ لأن القياس أعم من القياس الشرعي، والقياس العقلي، وإذا كان كذلك، فنقول: إما أن تكون الصفة مندرجة في الحكم، أو لا تكون:
فإن كان الأول: كان قوله: (بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما عنه): تكررًا؛ لأن الصفة لما كانت أحد أقسام الحكم، كان ذكر الصفة بعد ذكر الحكم تكرارًا.
وإن كان الثاني: كان التعريف ناقصًا؛ لأنه ذكر ما إذا كان المطلوب ثبوت الحكم، أو عدمه، ولم يذكر ما إذا كان المطلوب وجود الصفة، أو عدمها، فهذا التعريف: إما زائدٌ أو ناقصٌ.
ورابعها: أن المعتبر في ماهية القياس: (إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر؛ بأمر جامع) فأما أن ذلك الجامع تارة يكون حكمًا، وتارة يكون صفة، وتارة يكون نفيًا للحكم، وتارة يكون نفيًا للصفة - فذاك إشارة إلى ذكر أقسام الجامع؛ والمعتبر في تحقق ماهية القياس الجامع؛ من حيث إنه جامع، لا أقسام الجامع؛ بدليل أمرين:
الأول: أن ماهية القياس قد توجد منفكة عن كل واحد من أقسام الجامع بعينه، وإن كان لا بد لها من قسم ما؛ وما ينفك عن الماهية لا يكون معتبرًا في تحقق الماهية.
الثاني: أن الجامع كما ينقسم إلى الحكم والصفة ونفيهما، فكذا الحكم ينقسم إلى الوجوب والحظر وغيرهما؛ والوجوب ينقسم إلى الموسع والمضيق، والمخير والمعين وغيرها، فلو لزم من اعتبار الجامع في ماهية القياس ذكر أقسامه، لوجب من ذكر كل واحد من تلك الأقسام ذكر ما لكل واحد من الأقسام.
وخامسها: أن كلمة (أو) للإبهام، وماهية كل شيء معينة؛ والإبهام ينافي التعيين.
فإن قلت: (كونه بحيث يلزمه أحد هذه الأمور حكم معين):
قلت: فالمعتبر إذن في الماهية ملزوم هذه الأمور، وهو كونه جامعًا؛ من حيث إنه جامع، فيكون ذكر هذه الزوائد لغوًا.
وسادسها: هو أن القياس الفاسد قياس، وهو خارج عن هذا التعريف:
أما الأول: فلأن القياس الفاسد قياس مع كيفية؛ فيكون قياسًا، وأما الثاني:
فلأن قوله: (بأمر جامع): دليل على أن هذا القائل يعتبر في حد القياس حصول الجامع، ومتى حصل الجامع، كان القياس صحيحًا، فيكون القياس الفاسد خارجًا عنه؛ وإنه غير جائز، بل يجب أن يقال: بأمر جامع في ظن المجتهد؛ فإن القياس الفاسد حصل فيه الجامع في ظن المجتهد، وإن لم يحصل في نفس الأمر.
التعريف الثاني: ما ذكره أبو الحسين البصري؛ وهو: (أنه تحصيل حكم الأصل في الفرع؛ لاشتباههما في علة الحكم، عند المجتهد) وهو قريب.
وأظهر منه أن يقال: (إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر؛ لأجل اشتباهما في علة الحكم عند المثبت) فلنفسر الألفاظ المستعملة في هذا التعريف.
أما الإثبات: فالمراد منه: القدر المشترك بين العلم، والاعتقاد، والظن، سواء تعلقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم، أو بعدمه، وقد يطلق لفظ الإثبات، ويراد به الخبر باللسان؛ لدلالته على الحكم الذهني.
وأما المثل: فتصوره بديهي؛ لأن كل عاقل يعلم بالضرورة كون الحار مثلاً للحار في كونه حارًا ومخالفًا للبارد في كونه باردًا، ولو لم يحصل تصور ماهية التماثل والاختلافإلا بالاكتساب، لكان الخالي عن ذلك الاكتساب خاليًا عن ذلك التصور؛ فكان خاليًا عن هذا التصديق.
ولما علمنا أننا قبل كل اكتساب نعلم بالضرورة هذا التصديق المتوقف على ذلك التصور، علمنا أن حصول ذلك التصور غنى عن الاكتساب.
وأما الحكم: فقد مر في أول الكتاب تعريفه.
وأما المعلوم: فلسنا نعني به مطلق متعلق العلم فقط، بل: ومتعلق الاعتقاد، والظن؛ لأن الفقهاء يطلقون لفظ المعلوم على هذه الأمور.
وأما العلة: فسيأتي تفسيرها، إن شاء الله تعالى.
وقولنا: (عند المثبت) ذكرناه؛ ليدخل فيه القياس الصحيح والفاسد.
فإن قيل: هذا التعريف ينتقض بقياس العكس، و (قياس التلازم)، والمقدمتين والنتيجة.
أما قياس العكس: فكقولنا: (لو لم يكن الصوم شرطًا لصحة الاعتكاف، لما كان شرطًا له بالنذر؛ قياسًا على الصلاة؛ فإنها لما لم تكن شرطًا لصحة الاعتكاف، لم تكن شرطًا له بالنذر، فالمطلوب في الفرع: إثبات كون الصوم شرطًا لصحة الاعتكاف، والثابت في الأصل: نفى كون الصلاة شرطًا له، فحكم الفرع ليس حكم الأصل، بل نقيضه).
وأما قياس التلازم: فكقولنا: (إن كان هذا إنسانًا، فهو حيوان، لكنه إنسان، فهو حيوان، لكنه ليس بحيوان؛ فليس بإنسان).
وأما المقدمتان: فكقولنا: (كل جسم مؤلف، وكل مؤلف محدث؛ فكل جسم محدث).
فإن قلت: لا أسمي هاتين الصورتين قياسًا؛ لأن القياس عبارة عن التسوية وهي لا تحصل إلا عند تشبيه صورة بصورة، وليس الأمر كذلك في التلازم، وفي المقدمتين والنتيجة.
قلت: بل التسوية حاصلة في هذين الموضعين؛ لأن الحكم في كل واحدة
من المقدمتين معلوم، والحكم في النتيجة مجهول، فاستلزام المطلوب من هاتين المقدمتين يوجب صيرورة الحكم المطلوب مساويًا للحكم في المقدمتين؛ في صفة المعلومية.
والجواب: أما الشيء الذي سميتموه بـ (قياس العكس) فهو في الحقيقة تمسك بنظم التلازم، وإثبات لإحدى مقدمتي التلازم بالقياس؛ فإنا نقول:(لو لم يكن الصوم شرطًا في صحة الاعتكاف، لما صار شرطًا له بالنذر، لكنه يصير شرطًا له بالنذر، فهو شرط له مطلقًا) فهذا تمسك بنظم التلازم، واستثناء نقيض اللازم لإنتاج نقيض الملزوم، ثم إنا نثبت المقدمة الشرطية بلقياس، وهو أن ما لا يكون شرطًا للشيء في نفسه لم يصر شرطًا له بالنذر؛ كما في الصلاة، وهذا قياس الطرد، لا قياس العكس، وأما الصورتان الباقيتان، فلا نسلم أنه قياس؛ لما بيَّنَّا.
قوله: (معنى التسوية حاصل فيه من الوجه المذكور):
قلنا: لو كفى ذلك الوجه في إطلاق اسم القياس، لوجب أن يسمى كل دليل قياسًا؛ لأن المتمسك بالنص جعل مطلوبه مساويًا لذلك النص في المعلومية، ولو صح ذلك، لامتنع أن يقال:(ثبت الحكم في محل النص بالنص، لا بالقياس).
فإن أردنا أن نذكر عبارة في تعريف القياس؛ بحيث تتناول كل هذه الصور فنقول القياس قول مؤلف من أقوال، إذا سلمت، لزم عنها لذاتها قول آخر.
وتحقيق القول في هذا التعريف مذكور في كتبنا العقلية.