الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعراف: 127)، وهو فرض.
وكل صبر في القرآن فهو من هذا النوع، أي الصبر على البلاغ ومواجهة الظالمين والمكذبين وجهادهم باليد واللسان والقلب.
والصبر في مواجهة الحاكم الجائر من هذا النوع. وهو أعظم الجهاد بالنص «أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (1)، فإن قتل فهو سيد الشهداء بالنص الصحيح الصريح (2).
- حكم النوع الثالث من الصبر:
وأما النوع الثالث من الصبر فهو: ترك الخروج على الحاكم المصلح في الأرض ولو وجد فيه خطأ، فيُتَعامل مع نفس الخطأ لعلاجه لا مع أصل الولاية بالبطلان والمعصية؛ لأن الحكم الشرعي يُورَد على الأغلب والأعظم من المحاسن والمصالح.
ويعالج الأقل من المفاسد إلا إن كان قليلَ الخطأ في الأصول الشرعية، أو الدستورية كما مر، فبحسب حكمها حينئذ.
فقه أحاديث الصبر على الحاكم:
وجميع أحاديث الصبر على الحاكم هي من النوع الثالث، وهي راجعة إلى:
1 -
حديث «سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» (3).
و«أثرة» نكرة تدل على القلة، وكذا «أمورا» .
وقلة أخطاء الحكام انبنى عليها حكم الصبر على الحاكم وعدم الخروج؛ لأن الاستئثار بالحكم وقلة المناكرِ: مفاسدٌ مع قلتها يقابلها قيام الحاكم بأكبر وأكثر أصول المصالح العامة، ودفع العظائم، والمعظم الأغلب من الفساد والمفاسد.
فالقيام على الحاكم بالخروج هنا: اعتداء، وظلم، وفساد في الأرض، وتفريق للجماعة، وهذا كله محرم شرعا بالنصوص المتواترة المتكاثرة.
(1) - تقدم تخريجه.
(2)
- تقدم الحديث وتخريجه.
(3)
- تقدم تخريجه.
2 -
حديث «من رأى من أميره ما يكره فليصبر ولا يخلع يدا من طاعة فإن من فارق الجماعة
…
» (1).
ولفظ «ما يكره» يدل على أن الكراهة المرئية شخصية، لا ينبني عليها موقف عام؛ لأن الكراهة قد تكون نفسية لا شرعية، وإن كانت شرعية فيحتمل أن يكون مكروها له لما عنده من نظر في الأدلة أو تقليدا، ويخالفه غيره في ذلك.
فإثارة المواقف العامة لأجل اجتهاد شخصي شرعي أو نفسي أو سياسي ممنوع شرعا؛ لأن مفاسده العامة أكثر من مصلحة بيانه وإظهاره.
ويحرم العصيان أو مفارقة الجماعة لأجل ذلك، وللتعليل النهائي في النص بذلك «فإن من فارق الجماعة» . والتعليل بـ «الفاء» و «إنَّ» من مسالك العلة القوية، وهو ما يعرف بالمناسبة، أي مناسبة العلة للحكم.
فالحكم هنا: الصبرُ وعدم ترك الطاعة، والعلة أن ذلك مؤدٍ إلى مفارقة الجماعة، وهي أصل من الأصول، والإنكار لمكروه شرعي أو عادي عمله الأمير فرع، ولا يجوز أن يعود الفرع على الأصل بالإبطال.
3 -
وحديث «من أنكر فقد سلم ومن كره فقد برئ ولكن من رضي وتابع» (2)، وهذا يدل على مباشرة الإنكار على منكر الحاكم، ويحرم الرضى به أو متابعته، والإنكار هنا يفصله حديث: باليد واللسان والقلب (3).
(1) - أخرجه البخاري برقم 7054 ومسلم برقم 4897، واللفظ للبخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية.
(2)
- حديث «من أنكر فقد سلم
…
» أخرجه الإمام مسلم برقم 4906 من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع» . قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال «لا ما صلوا» .
(3)
- أخرجه مسلم في الصحيح برقم 186 عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» .
4 -
«سيكون عليكم أمراء يسألون حقهم ولا يعطون حقكم» (1).
وفي هذه النصوص: ألا يفارق الحاكم ما دامت الجماعة والسواد الأعظم معه بدلالة «فإن من فارق الجماعة» ؛ فإن هذه العلة تدل أن السواد الأعظم لا زال مع الحاكم، وإذا كان كذلك حرم على فئة تفريق كلمة المسلمين والخروج عليهم، ولزم الإنكار عملا بما سبق من النصوص؛ لعدم معارضتها للصبر، إذ هو هنا عدم مفارقة الجماعة والسواد الأعظم بالسيف.
ودل الحديث التزاماً أن الحق الممنوع في الحديث لا يصل إلى درجة المظالم العامة الكبرى، يدل على ذلك الروايات الأخرى التي نصت أن الجماعة مع الحاكم، فدل على استتباب الأمر وإلا لخرجت عليه عند عظائم الجور والظلم عادة، والشريعة أحكامها جارية على مجاري العادات.
5 -
وحديث «ألا ننازع الأمر أهله» (2) فيه: حرمة منازعة من هو أهل للولاية.
وأهليتها: مسلم، عاقل، بالغ، عدل، قوي، أمين، مصلح في الأرض.
ومفهومه يدل على منازعة من ليس أهلاً للولاية؛ فالاستدلال به على الصبر للحاكم المفسد في الأرض خطأ محض.
فتبين من أحاديث الصبر على الحاكم بترك الخروج المسلح واستمرار السمع والطاعة أنه في حالات غلبة إصلاحه في الأرض، وقلة زلاته؛ لأن النصوص الموجبة للخلع بالقوة دلت على أفعال معينة تنقض الأصول، أو تكثر لتكون فسادا في الأرض، ولا بد حينئذ أن يكون الغالب عدم إقامة المصالح العامة ودرء المفاسد العامة.
وقولنا «أفعال معينة» ، أي: ما ذكر في النص، وهي: استئثار سياسي (3)، أو منكرات شرعية،
(1) - أخرجه مسلم برقم 4888 من حديث سلمة بن يزيد الجعفي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه. ثم سأله: فأعرض عنه. ثم سأله في الثانية أو في الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيس وقال «اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» .
(2)
- تقدم تخريجه.
(3)
- لحديث «سترون بعدي أثرة» .