الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فما كان من بقايا آثار الذين ظلموا ممن نزل بهم العذاب فلا مانع من النظر والسفر إليها؛ لأنه من السير في الأرض المطلوب شرعاً (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ)(الروم: 42).
فالسفر جائز؛ لرؤية هذه الأماكن، ولم نؤمر بخرابها ولا تكسيرها؛ لأن الله أبقاها للنظر والعبرة، وهكذا بقيت هذه المعالم كقرى عادٍ وثمودٍ ولوطٍ وفرعونٍ زمن الوحي والصحابة.
وأما الأوامر بتكسير الأصنام، فإنها خاصة بما كان يعبد حال مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بدليل عدم تعرضه لتلك القرى الظالم أهلها، لا في منحوتاتهم ولا آثارهم ولا معالمهم.
فتبين أن الأمر بكسر الأصنام خاص بما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي معبودة؛ فأمر بتكسيرها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لو أبقاها لظن عوام من الناس تعظيمها؛ لتركها منه صلى الله عليه وسلم.
فظهر من هذا الفرقُ بين آثار الذين ظلموا من القرى التي أهلكت بعذاب لتكذيبهم الرسالات، وأمَرَ الله بالسير في الأرض للنظر إليها، وبين القرى التي لم تهلك بعذاب عام.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمة وهي تعبد أصناما وأحجارا وتصاوير وأشجارا من دون الله، فتوجهت الأوامر إلى هذه بتكسير أصنامها، وكل معلم شرك فيها.
بخلاف ما سبق من الأمم الهوالك، فإنها أهلكت على الكفر وأبقى الله آثارها ظاهرة، حكمة منه وعبرةً وآيةً؛ للنظر إليها، والسفر اعتبارا واتعاضا بأمره سبحانه؛ فبقيت، ولم يتعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيجوز استغلالها اقتصاديا؛ للنظر والفرجة والسياحة والدراسة والبحث، وكلٌّ له بصيرة، فمنهم من يعتبر ومنهم من لا يعتبر.
-
حكم الشعر والنثر ومنظومات العلوم:
أما الشعر والأدب وأخواته فإن نصر الدين والرسالة وقضايا الأمة ونفع فهو مشروع ومستثنى من الذم.
(وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ* إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)(الشعراء: 224 - 227).
فاستثنى الله شعراء أهل الإيمان (1) الذين ينتصرون بالشعر للدين والحق؛ فهؤلاء لا ذم فيهم، بل كان صلى الله عليه وسلم ينصب منبرا لحسان ويقول أهجهم وروح القدس معك.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها أشد عليهم من وقع النبل» (2).
(1) - قولنا «فاستثنى الله شعراء أهل الإيمان» .. أي بالآية التي في سورة الشعراء، أما ما ذكرناه من نصب المنبر لحسان فتقدم تخريجه في سنن أبي داود بسند حسن، كما أخرج البخاري برقم 3212 عن سعيد بن المسيب قال مر عمر في المسجد وحسان ينشد فقال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أجب عني اللهم أيده بروح القدس قال نعم. وأخرجه البخاري برقم 3213 ومسلم برقم 6542 ولفظه عن البراء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان اهجهم، أو هاجهم- وجبريل معك.
(2)
- أخرجه مسلم برقم 6550 عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «اهجوا قريشا فإنه أشد عليها من رشق بالنبل» . فأرسل إلى ابن رواحة فقال «اهجهم» . فهجاهم فلم يرض فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه قال حسان قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه فقال والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها -وإن لي فيهم نسبا- حتى يلخص لك نسبى» . فأتاه حسان ثم رجع فقال يا رسول الله قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين. قالت عائشة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان «إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله» . وقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «هجاهم حسان فشفى واشتفى» .
قال حسان:
هجوت محمدا فأجبت عنه
…
وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت محمدا برا تقيا
…
رسول الله شيمته الوفاء
فإن أبي ووالده وعرضي
…
لعرض محمد منكم وقاء
ثكلت بنيتي إن لم تروها
…
تثير النقع من كنفى كداء
يبارين الأعنة مصعدات
…
على أكتافها الأسل الظماء
تظل جيادنا متمطرات
…
تلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتمو عنا اعتمرنا
…
وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لضراب يوم
…
يعز الله فيه من يشاء
وقال الله قد أرسلت عبدا
…
يقول الحق ليس به خفاء
وقال الله قد يسرت جندا
…
هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا في كل يوم من معد
…
سباب أو قتال أو هجاء
فمن يهجو رسول الله منكم
…
ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا
…
وروح القدس ليس له كفاء
وسمع صلى الله عليه وسلم قصيدة بانت سعاد، وكان يتأثر بالشعر (1).
وقد أمر بقتل الذين كانوا يكثرون من الأذى والمظاهرة على الرسول والقذاعة في سب الدين ورسوله والوقوع في الأعراض في أشعارهم (2).
وكان صلى الله عليه وسلم لا يقول شعرا (3)(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ)(الحاقة: 41).
(1) - قولنا «وكان يتأثر بالشعر» يدل له أحاديث كثيرة منها نصبه المنبر لحسان وسماعه لشعرائه كابن رواحة وكإدخاله الخيل في فتح مكة من حيث قال حسان، وغير ذلك. ومن ذلك سماعه لبانت سعاد وهي مشهورة في كتب الأدب واللغة وقد أخرجها الحاكم في المستدرك في قصة مطولة برقم 6477 وصححها.
(2)
- قولنا «وقد أمر بقتل الذين كانوا يكثرون .. » قلت: منه ما ورد في صحيح البخاري برقم 1846 عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح، وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه .. ومنه مقتل سلام ابن أبي الحقيق المذكور في صحيح البخاري برقم 4039 عن البراء قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار فأمر عليهم عبدالله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم فقال عبدالله لأصحابه اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة وقد دخل الناس فهتف به البواب يا عبدالله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب فدخلت فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأغاليق على وتد قال فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل قلت إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إلي حتى أقتله فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت فقلت يا أبا رافع قال من هذا فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئا وصاح فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد ثم دخلت إليه فقلت ما هذا الصوت يا أبا رافع فقال لأمك الويل إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف قال فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز فانطلقت إلى أصحابي فقلت النجاء فقد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال ابسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط.
(3)
- قولنا «وكان صلى الله عليه وسلم لا يقول شعرا» أي من نظمه وتأليفه، ولا من نظم غيره، سوى بيتين أو ثلاثة تمثل بهما، وهو ما أخرجه البخاري برقم 6146 سمعت جندبا يقول بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشي إذ أصابه حجر فعثر فدميت إصبعه فقال: هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت. ومنه كذلك برقم 6147 عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم.