الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقه الدعوة
* (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(النحل: 125)
* (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(فصلت: 33)
فقه الدعوة
الدعوة إلى الله تعالى هي: تبليغ مضمون الرسالة في أركانها الأربعة التي جمعت في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)(الجمعة: 2).
وهي أمر للرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(يوسف: 108).
وهي أفضل الأعمال (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(فصلت: 33).
وهي تفرغاً فرض كفاية (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران: 104).
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(التوبة: 122).
والواجب فيها الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالأحسن، للنص (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125).
ويجب فيها التبشير لا التنفير فهو إثم للنص: «بشرا ولا تنفرا وتطاوعا» (1)، والبدء بالتدرج من أكبر الفرائض فما دونها بدليل حديث معاذ لما أرسله إلى اليمن (2).
والأصل أن لا يأخذ على الدعوة أجرة (قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)(الأنعام: 90).
(1) - حديث «بشرا ولا تنفرا» متفق عليه (البخاري رقم 3038، ومسلم رقم 4623) من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن قال «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا» .
(2)
- حديث معاذ أخرجه الإمام البخاري برقم 1496 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب» .
ويبدأ بنفسه وولده وأهله الأقربين وسائر الناس (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)(الشعراء: 214)، (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه: 132)، ولا تعارض بين هذه المراتب.
ويجب قصد وجه الله لا عرض الدنيا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى اللَّهِ)(يونس: 72).
وأصلها قائم على تعبيد الخلق لله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ)(الذاريات: 56).
وليعالج ما عليه العمل، ويبدأ بالأصول القاطعة؛ لأن عليها مدار النجاة (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا) (النساء: 31).
ولا يُثِر الخلاف المُفَرِّق؛ لأنه مذموم (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ)(آل عمران: 105).
ولا يدع إلى اتباع مذهب عصبية بل إلى الكتاب والسنة.
واتباع مذهب جائز؛ لعموم (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(الأنبياء: 7)، وفقهاء المذاهب من أهل الذكر ومن ألزم نفسه بمتابعة قول مذهب في كل فتوى جاز؛ لإطلاق النص، ولأنه إن فعل ذلك فقد أدى التكليف، ولا يحرم عليه الانتقال، أو سؤال آخر من غير المذهب، أو تقليده؛ لعموم الدليل في سؤال أهل الذكر، ومن ادعى الحرمة احتاج إلى الدليل.
ولا يتعصب لقوله المحتمل؛ لأن الله علق النجاة على القواطع (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا)(النساء: 31)، فدل على أن غيرها معفوٌّ عنه، فالتعصب لما سبيله العفو خلاف مقصود الشرع.
ولا يتعصب ويغضب إلا لقاطع، أو قريب منه.
وليهتم بما عليه النجاة من قطعيات الشريعة، فإن عليها مدار الدين، وفيها يُقَصِّر الخلق ودونها يغفره الله إن اجتنبت، للنص السابق.
ومن أخذ بقول مجتهد، فلا يحرج عليه بالإنكار، إلا لبين الخطأ من مخالفة نص لم يطلع عليه ذاك.
ولا يُجرِّح لقوله تعالى (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ)(الإسراء: 53)؛ ولأن دعوة الرسول لم تكن على هذا.
ولا يكفر المعين إلا بقاطع قامت به عليه الحجة.
وليكن قويا في الحق لا يلين، ولا يضعف، ولا يهن، ولا يستكين.
وليكثر من الاستغفار لذنبه (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَاّ أَن قَالُوا ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 146 - 147).
والإكثار من التسبيح بحمد الله بكرة وعشيا، وآناء الليل وأطراف النهار، وأدلتها كثيرة (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (طه: 130).
ولا يترك قيام الليل وكثرة الدعاء لربه وتلاوة القرآن، ولا الصلوات جماعة؛ لأنها من أعظم شعائر الدين.
وليصبر على ما يصيبه؛ لأنه سيبتلى (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ)(الطور: 48)، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد: 31).
وليثق بالله ورزقه ونصره (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)(الزمر: 36)، ولقوله تعالى (لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ) (طه: 132).
وليحذر الذنوب (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(النور: 63).
ولا يكن ظهرا لمجرم (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ)(القصص: 17).
ولا يجادل عن الخونة ولا يخاصم عنهم، لقوله تعالى (وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) (النساء: 105)، ولقوله تعالى (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ) (النساء: 107).
وليبلغ الدعوة ولا يخف في الله لومة لائم (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَاّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)(الأحزاب: 39).
وليصبر نفسه مع عامة المؤمنين (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)(الكهف: 28).
وليحذر المنافقين وكثرة مجالستهم؛ فإنه داء (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(التوبة: 95).
وليحب المؤمنين ويواليهم وينصرهم (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ)(التوبة: 71).
ويقم بحق المسكين واليتيم والأرحام والضعفة (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)(الإنسان: 8).
ولينصر المظلوم لحديث «أنصر أخاك ظالما أو مظلوما» (1).
وليسعَ في قضاء الحاجات «من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» (2).
وليحذر الغيبة لأهل العلم وللمؤمنين وتنقصهم فإن الله ينتقم لهم (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)(الأحزاب: 58).
وليكن قائما بالعدل والقسط وشهادة الحق ولو على نفسه والوالدين والأقربين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)(النساء: 135).
وليحذر أكل المال بالباطل والتكاثر في الدنيا (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة: 188).
ويُشْرَع الاهتمام بوسائل الدعوة من صحافة وإعلام ونقابات ومواقع إلكترونية، والمجالس الجامعة، والقدوة الحسنة، ودروس العلم، وخطب الجمعة، ومواسم الدعوة والمخيمات والمراكز، والدورات العلمية، والرحلات، والخروجات الدعوية، والمبيتات الجماعية، والحلقات التربوية، والزيارات الخاصة والعامة.
وعليه دوام ذكر الآخرة وما عند الله؛ فإنها سنة الذين أنعم الله عليهم واتباعهم هدى (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)(الفاتحة: 6 - 7).
(1) - تقدم تخريجه.
(2)
- حديث «من نفس عن مؤمن .. » أخرجه الإمام مسلم برقم 7028 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» .
ولا يمدنَّ عينيه إلى المتاع الزائل؛ لأنه قد أوتي أعظم من ذلك (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ* لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الحجر: 87 - 88).
ولا يكثر من ذكر الدنيا والتجارات والعمارات والعقار، فإنه مرض في القلب وهم فارغ وخروج عن سنن حملة الرسالات (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (التوبة: 55).
وعليه النظر إلى حال دين الناس، ومطالعة سير السلف أهل الصراط المستقيم في عباداتهم ودعوتهم لقوله تعالى (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: 6 - 7)، وطلب صراطهم طلب لمعرفة هديهم وسيرهم.
ويجوز الانتماء إلى جماعة على الكتاب والسنة (1)؛ لأنه تعاون على البر والتقوى ولأن الحرمة لا تكون إلا بدليل وإلا فهو وصف محرم (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)(النحل: 116).
ويجوز التعاهد معهم على العمل على الشريعة (2)، وقد تعاهد بعض الصحابة على أمور في الطاعات كالموت في سبيل الله (3).
فإن انتظم معهم فعليه الطاعة لأمرائه في طاعة الله فيما يخص مصلحة الدعوة؛ لعموم (وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ)(النساء: 83).
وليست بيعة ولاية عامة، بل يمين على أمر خاص في الطاعة، والوفاء بها واجب (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) (البقرة: 177)، (وَلَا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) (النحل: 91).
فمن لم يستطع القيام بما التزم به جاز له التحلل منهم، والتكفير عن يمنيه بخلاف البيعة العامة السياسية، فإنه لا تحلل منها، ولا كفارة لها.
(1) - وقد بسطت القول في المسألة في كتابنا «مشروعية العمل الإسلامي وتعدده والانتماء إليه» رسالة ماجستير أجيزت بامتياز.
(2)
- المصدر السابق.
(3)
- المصدر نفسه.
وكما لا مدخل للبيعة العامة في الأمور الخاصة للشخص كذلك بيعة الدعوة.
فلا يتدخل الإمام الأعظم في الأمور الشخصية لأجل البيعة؛ لأن موضوعها هي المصالح العامة لا الشخصية، وكذلك بيعة الدعوة موضوعها دائرة الدعوة.
ولا يجوز لجماعة على الكتاب والسنة، أن تأمر فردها ألا يحضر مع الجماعة الأخرى على الكتاب والسنة بسبب خلافات ليست قطعية.
ويجب عليه الامتناع إن منعوه من مخالطة فرق الضلال أهل النفاق والظلمة والابتداع الظاهر، كالفرق التي تقع في سب الصحابة وأعراض النبي صلى الله عليه وسلم، أو الفرق التي تقتل أهل الإسلام وتستهدفهم وتخرج عن جماعتهم.
ويجوز للمرأة الانتماء والبيعة بإذن زوجها ووليها.
وتقدم طاعة زوجها على ذلك؛ لأن الدعوة فرض كفاية وطاعته فرض عين، فهي مقدمة. والأمر بترك فرض الكفاية ليس أمرا بالمعصية.
ويشترط في انتماء المرأة أن تكون في قطاع نسائي لا مختلط؛ فإن الاختلاط لا يخدم حفظ العرض، وهو أحد مقاصد الشريعة التي عليها مدارها، والمرأة هي أصل العرض.
فكل عمل تقوم به يجب أن يضبط بهذا، ولا مرتبة وسطى هنا، أي: لا حفظ ولا ضرر (1).
أما ذهاب بعضهن للغزو مع محارمها، فمحرمها رافع للمنع المعلل بالاختلاط الذي لا
(1) - ولهذا لم تكلف المرأة في عهد النبوة وما بعدها بالخروج الدعوي، ولا دعوة الرجال، ولا القبائل، ولا بالخطب في المجامع العامة، ولا في الأسواق، ولا المواسم نصرة للدين، لا منفردة، ولا مع نساء ثقات، ولا مع محارم.
ولو كان هذا من الفرائض عليها لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لوجود الدواعي وعدم الموانع.
والعمومات الآمرة بالدعوة للرجال عموما محارم وأجانب مبينة ببيان رسول الله وخلفائه الراشدين، وهو المبين عن ربه مراده ودينه.
ولا يخلو الأمر من أن تكون دعوة المرأة للرجال الأجانب في مجامعهم ومجالسهم وأسواقهم وقبائلهم من الدين، أوْ لا.
فإن كانت من الدين فقد ترك رسول الله أن يعلم النساء ذلك؛ لأنه مأمور ببلاغ الدين وترك ذلك أصحابه من بعده، فتبين أنه ليس من الدين، فضلا عن أن نقول إنه فرض أو سنة أو مستحب، ومن ادعى ذلك فقد زعم أن رسول الله وأصحابه تركوا أمر نسائهم بفرض أو سنة عليهن، وهذا لم يكن.
يخدم حفظ العرض، ولأن ذهابها ليس قصدا، بل تبعا لا للغزو.
ولو كان قصدا لغزت النساء وتسابقن على ذلك، بل قصد الشرع بالنص ترك تكليفهن بذلك لما أردنه، فقال صلى الله عليه وسلم:«جهادكن الحج» (1).
فذهاب بعضهن مع هذا نادر متطوع به تبع لا أصل، وهذه أمور مؤثرة في الفتوى؛ لاشتراط تساوي الفرع والأصل عند القياس، فإذا اختلفا -كما هنا- لم يصح القياس.
فلا يقاس إلا بمطابقة الفرع للأصل، وأين هذا من هذا؟
وغاية ما يستدل به هو جواز خروج المرأة مع زوجها الغازي إن أُمِنَ عليهن من نحو أسر العدو.
فلا يدل هذا الدليل على ممارسة الدعوة من المرأة لعامة الرجال في مجالسهم ومحافلهم ومجامعهم، لا بعموم، ولا بدلالة قياس.
ولهذا كله اختلفت بيعة الرجال عن بيعة النساء؛ فإن بيعتهن بيعة أخلاقية (2)، وبيعتهم بيعة نصرة، وحماية، وبلاغ، وسمع، وطاعة في المنشط والمكره (3).
وهذا يدل على أنه لا فرض عليهن في ذلك.
واشتراك ذكور وإناث في حلقة واحدة أو نحوها في تنظيم لجماعة أو حزب محرم؛ لأنه يعود على أصل حفظ العرض بالخلل والإبطال فبطل، ولا يفعله إلا زائغ مائل عن الصراط المستقيم (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا) (النساء: 27).
(1) - حديث «جهادكن الحج» أخرجه البخاري برقم 2875 عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد. فقال «جهادكن الحج» .
(2)
- قولنا «بيعة أخلاقية» ورد النص فيها آخر سورة الممتحنة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَاّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(الممتحنة: 12).
(3)
- قولنا «وبيعتهم بيعة نصرة .. » لحديث عبادة بن الصامت في الموطأ برقم 960 ط/ دار إحياء التراث العربي، وهو في صحيح البخاري برقم 7055 ومسلم برقم 4874، عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
وقياسه على حضور عيد وجماعة مسجد لا يصح لفقدان شرط تساوي الفرع والأصل، ويصح القياس على العيد وجماعة المسجد في حضور المرأة الجمع العام الظاهر لعدم تأثيره على حفظ العرض بالإبطال والإخلال (1).
(1) - ولا يصح القياس على عيد وجمعة وجماعة لتجويز اختلاط الجنسين في الفصل الدراسي للفوارق الكثيرة الواضحة بين أصل مقيس عليه وفرع يراد قياسه، إذ العيد مرتان وحضوره اختياري، والجمعة والجماعة اختيارية للمرأة، والتزام الرجال عدم الانصراف حتى يتم انصرافهن، وجعل باب لهن، وعدم إمكان محادثتهما، وبعدهما عن التوصل إلى الفتنة، بخلاف فصل دراسي مختلط بين الجنسين، فطول وقت مع استمرار يعادل ربع العمر وحصول مشاركة الطالبات الدائم أمام الطلبة وتبادل للأحاديث والرسائل واللقاء في الاستراحات وأماكن الترفه، والطابور وحركاته، وغير ذلك من الفوارق التي تعود على أصل قصد الشرع حفظ الأعراض بالإبطال.
وحديث «لا يدخلن بعد يومي هذا رجل على مغيبة إلا ومعه الرجل والرجلان» هو للضرورة ضرورةً؛ لعدم القول بجواز دخول جماعة رجال أجانب على من شاءوا من نساء أصدقائهم للترفه وتبادل الحكايات والأقاويل؛ لأنه أولى بالتحريم من الخضوع بالقول، وضرب الرجل في التوصل إلى طمع من في قلبه مرض (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32).
ولحديث: فأمرها أن تعتد فى بيت أم شريك ثم قال «تلك امرأة يغشاها أصحابى اعتدى عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك فإذا حللت فآذنيني» . رواه مسلم 3770. وفي رواية أخرى برقم 3773 وأمرها أن تنتقل إلى أم شريك ثم أرسل إليها «أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون فانطلقي إلى ابن أم مكتوم الأعمى فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك».
فنهاها وهي شابة عن مجرد القعود في بيت يغشاها الرجال للطعام حتى لا يرى منها ما تكره، والمرأة التي يغشاها الصحابة للطعام كانت من القواعد، ويجوز لها وضع ثيابها أي الجلباب بالنص، ولو كانت شابة لنقض الحديث بعضه بعضا، ومع ذلك لا يلزم أنها تخدمهم بنفسها لعدم ورود ذلك، ولأنها غنية لها من يقوم على ذلك.
وأما حديث الصحيحين «إنها خادمتهم وهي العروس» فلا يلزم اختلاطها بهم، إذ معناه أنها خدمتهم، فصنعت لهم الطعام وأمور الضيافة الأخرى مع كونها عروسا، ولا يلزم خروجها عليهم بنفسها. وهذا ما جاء في رواية الحديث في الصحيحين (خ 5176، م 5351)«عن سهل بن سعد قال: دعا أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه وكانت امرأته يومئذ خادمهم وهي العروس. قال سهل: تدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنقعت له تمرات من الليل فلما أكل سقته إياه» .