الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 194)، وفتح باب العفو (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40).
وتكافؤ الفرص أمام الشعب هو من القسط والعدل المطلوب على العموم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)(النساء: 135)، وهذا عام فشمل تكافؤ الفرص.
فلا يشرع استئثار فئة بفرص التعليم والابتعاث والخدمات والرعاية والوظيفة والمناصب القيادية، وتسهيلات استثمارية ومالية، بل المشروع العدل بين أفراد الشعب بذلك.
وواجب أن تعدل الدول في الأجور والرواتب لموظفيها بما يتناسب مع ضروريات المعيشة وحاجياتها بتوسط.
والراتب إن لم يف بأشد الضروريات وهو الغذاء واللبس والدواء فهو غبن فاحش، وهو في العقود محرم، ويلزم -حينئذ- أجرة المثل؛ ولأنه نوع من الانتهازية للحاجة والفقر، وهو خلق مذموم لا ترضاه الشريعة؛ ولأنه يفتح باب الفساد الإداري وأخذ الرشوة وترك الإتقان والإبداع والإخلاص بالعمل وغير ذلك، ودفع المفاسد واجب، ومن وسائلها العمل بسياسة عدالة الأجور (1).
4 - سياسة الإحسان والإكرام والتحفيز والجزاء:
والإحسان معنى يتجاوز العدل؛ إذ العدل يفيد المطابقة في عمل ما يجب.
والإحسان هو إتقان عمل ما يجب إتقانا يحقق زيادة على المطلوب بالعدل.
وإحسان العمل درجته فوق عمل العمل لمجرد إسقاط الطلب والتكليف به.
والإحسان جهد زائد على جهد القيام بالعمل؛ فتقرر شرعا جعله أصلا غائيا في الأعمال؛ لأنه يرائي فيه الخالق ولا يرائي المخلوق، ومراءاة الخالق مطلوبة «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» (2)، وهي دائمة ضرورةً؛ لدوام المراقبة، بخلاف مراءاته الخلق فمذمومة، وهي مختصة
(1) - وقد تكلمنا في مواضع من كتابنا هذا بأبسط فليراجع.
(2)
- متفق عليه من حديث أبي هريرة (البخاري برقم 50، ومسلم برقم 102)، وهو حديث تعليم جبريل الدين للنبي صلى الله عليه وسلم.
بمحل الاطلاع وتُبْدَلُ إساءةً عند عدمه.
والإحسان تكليف مطلوب شرعا على وجه عام «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» (1)، ومأمور به (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195).
ومأمور بمكافأته؛ لأنه جهد نوعي زائد على مجرد العدل (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلَاّ الإِحْسَانُ)(الرحمن: 60)، وهذا خبر مقصود به الأمر والتكليف.
وإخراج الأمر بصيغة الخبر لا بصيغة الإنشاء دليل على ثبوته وقاعديته وتأكد طلبه.
وهو ما كتبه الله في معاملته لخلقه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً)(الكهف: 30)، كأصل يقاس عليه كل عمل فيه تقصير (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).
ويجبر النقص، ويسد فجوة التفاوت بين أعمال الشخص في ذلك رحمة من الله وإكراماً للعاملين المؤمنين.
وفرض على الدولة التزام سياسة الإحسان في إدارة البلاد، لأنه واجب الوصول بها إلى أعلى مستويات المكافأة والمواكبة لأعلى مستويات القوى الدولية في العالم اقتصاديا وصناعيا وعلميا وتكنولوجيا وعسكريا ومجتمعيا وإنسانيا.
والوصول بالبلاد إلى منافسة أعلى مستويات القوى العالمية في كافة المجالات لا يكون إلا بالإعداد التقني والنوعي، وهذا هو الإحسان، ولا يتم إلا ببذل غاية المستطاع في ذلك. وهو: الجهد المبذول النوعي لذلك، وهذا مطلوب مفروض (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60).
فالأمر (وَأَعِدُّوا) واجب؛ لأنه الأصل في الأمر الشرعي.
وغايته العليا تدل عليه (مَّا اسْتَطَعْتُم)، أي غاية استطاعتكم، وهو الجهد النوعي.
(1) - تقدم تخريجه.
و (مِّن قُوَّةٍ) عامةٌ لكل قوة في كافة المجالات بدليل «من» التي إذا دخلت على النكرة نصت على العموم، وخص القوة العسكرية بالأمر المستقل (وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) مع أنها داخلة دخولا أوليا في عموم الأمر بالقوة؛ لأنها حارسة للقوة كافة.
ورباط الخيل كناية عن العدة العسكرية (1).
وغاية هذا الأمر الشرعي بالقوتين منصوصة في قوله تعالى (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)(الأنفال: 60).
فلزم الوصول إلى هذا المطلوب بحيث يحقق الإرهاب الاقتصادي، والتقني، والنهضوي العام، لا الإرهاب العدواني المرفوض الذي تنهجه كبار دول العالم هيمنةً ونهباً واحتلالاً وتهديداً وتدخلاً في الشئون الداخلية للدول الأخرى.
فهذا إرهاب مرفوض كإرهاب قطاع الطرق وعصابات العدوان المسلح على المدنيين بمسميات مختلفة تفجيرا واغتيالا وأسرا وتخويفا وتهديدا.
بخلاف الإرهاب الاقتصادي والتقني والنهضوي والعسكري المحقق لتوازن القوى، فهو مفروض لا مرفوض.
والحاصل أن الإحسان في العمل مطلوب شرعا، وهو شامل لإحسان التعامل عموما (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة: 83)، وهذا عام لمسلم وغير مسلم.
ومطلوب شرعا اتخاذ وسائل تكريمية وتحفيزية؛ لتحقيق الإحسان؛ لأنها مقصودة شرعاً (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلَاّ الإِحْسَانُ)(الرحمن: 60)، وهذا طلب لمكافأة من أحسن، وقد خرج مخرج الخبر لتأكيده، وفي النص «ومن أحسن إليكم فكافئوه» (2).
والإكرام وسيلة إليه (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)(يوسف: 21)، وتترتب
(1) - تستعملها العرب للدلالة على شدة القوة الحربية، فتقول «بنو فلان كثيرو رباط الخيل» أي: أهل حرب. وكثيرو الرماد، أي: كرماء.
(2)
- أخرجه الإمام أحمد في المسند بسند على شرط الشيخين برقم 5365 عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أتى عليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه» . وهو في سنن أبي داود برقم 1674.
عليه مصلحة عظيمة (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(يوسف: 23)، فامتنع عن خيانة السيد؛ معللا ذلك بأنه أحسن إليه؛ مبينا أن مواجهة الإحسان بالإساءة ظلم مهلك.
ولما كانت الوسائل تأخذ أحكام المقاصد؛ فعلى الدولة الإكرام والتشجيع والتحفيز بوسائل توصل إلى إحسان الأداء والعمل بإتقان في سائر قطاعات الدولة، فهذه وسائل مشروعة؛ لإيصالها إلى مطلوب شرعي.
ويشرع تشجيع الباحثين، والمخترعين، والمبدعين، والموهوبين، ورعايتهم، وابتعاثهم طلبا لتأهيلهم في كافة المجالات؛ لأنه من الإحسان ووسيلة إليه.
وكذا تكريم المخلصين في الأعمال، والمتقنين، والملتزمين بالأنظمة واللوائح والقوانين، والمنضبطين حضوراً وأداءً في العمل، والأقدمين، والمناضلين، والمجاهدين، ورعايتهم وتكريمهم، وأسر الشهداء والجرحى من العسكريين والمدنيين الذين قضوا دفاعا عن الواجب الشرعي عن الوطن وأمنه واستقراره، وعن المواطن دمه وماله وعرضه.
ومن هذا الباب تشرع العلاوات، والتسكين الوظيفي، والقرض الحسن، والشهادات، والأوسمة، والترقيات، والتعويضات، والهبات، والكفالات، والميزات، والتسهيلات، والإشادة، وكلمة الشكر والعرفان على الملأ، والتنبيه على المحاسن، وحضور رأس الدولة وقياداتها الكبرى فعاليات التكريم تحفيزا وشكرا، وكل هذا من مفردات ووسائل الإحسان.
وقد قصد الشرع الإشادة بالمحاسن، فأشاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصوت في الحرب والسلم، فالأول «صوت أبي طلحة في الجيش كألف رجل» (1)، والثاني نحو «لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داوود» (2)، وقال «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم» (3)، مشيدا بجهده الحربي وقال
(1) - تقدم تخريجه.
(2)
- متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري في البخاري برقم 5048، وفي مسلم برقم 1887.
(3)
- أخرجه أحمد بسند حسن برقم 20649، وحسنه الترمذي برقم 3701، وقال الحاكم صحيح الإسناد، وقال الذهبي صحيح كما في المستدرك والتلخيص 4553. وتصحيح الذهبي لعله لأنه قال في الكاشف عن كثير وُثِق. وقال العجلي ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات.