الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد يمد الطرفين في آن واحد.
وهذا محرم قطعي معلوم من الدين بالضرورة، وقد ذكره الله عن أهل النفاق (ولأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) (التوبة: 47).
وقال سبحانه عن المنافقين (كُلَّ مَا رُدُّوَا إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُوا فِيِهَا)(النساء: 91)، أي فهم مع هؤلاء ضد هؤلاء، والعكس.
فتحرم سياسة تغذية الأنداد لإيجاد الصراع في أي شكل من أشكالها ولو كان مسجدا بجانب مسجد فتنة بينهم، كمسجد ضرار (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَاّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة: 107).
وتبطل ولاية من أذكى الصراع والفتنة بين الشعب ولو كان الإمام الأكبر؛ لأنه نقض شرط عقد الولاية القائم على جمع الكلمة ورعاية المصالح، ولم يف بالعقد ولا بالشرط (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1).
والعقود إذا خولفت وترتب على ذلك الضرر الفاحش، وجب رفع الضرر والانتهاء عن المخالفة، فإن أصر بطل العقد؛ لأنه صار سبيلا إلى الضرر الفاحش.
وهكذا عقد الولاية إذا صار سبيلا إلى المفاسد الكبرى كالفتنة بين الشعب، وإذكاء الصراع وتغذيته من الولاة، فولايتهم باطلة، ولا شرعية له بعقد الولاية؛ لأنه استعمل للمفاسد والضرر العام، فأصبح لزومه والالتزام به ضرراً ومفسدة فيبطل.
12 - الارتهان للخارج أو قوى في الداخل:
ارتهان الدولة وعدم استقلالها في قراراتها ولا سياساتها هو انتقاص من سيادتها واستقلالها كدولة.
وهذا ناتج عن: ضعف حكامها، أو فسادهم، أو عمالة وخيانة سيادية، أو فتنة واضطراب داخلي، أو احتلال، أو نزاع دولي.
ولا بد قبل ذلك من بيان ما يترتب على ارتهان الدولة من أمور هامة وخطيرة مؤثرة على الدولة ومواطنيها وثرواتها وأراضيها.
فيُتدخَّل بها في تعيين حكام الدولة رؤساء ووزراء بما يضمن استمرار مصالح قوى ودول أخرى، ولا ينظر إلى مصلحة الشعب والدولة، وهذا من أبطل الأمور في الشرع وضوحا؛ لأن عقد الولاية مشروطٌ برعاية المصلحة العامة للشعب، والارتهان على العقد يعود على المصلحة العامة بالبطلان، فهو باطل محرم.
ولا يقال إن عودته بالبطلان على المصلحة العامة، إنما يكون إذا كان ذلك الارتهان مؤثرا في كامل مصالح الشعب بالضرر، أما جزئيا فلا.
فالجواب أنه لا ارتهان إلا في مؤثر على السيادة العليا للدولة، وخصلة واحدة من ذلك كافية في التحريم.
ومن مفاسده كذلك أنه قد تعقد صفقات وعقود ضارة بالدولة والشعب يتوصل بها إلى العبث بالثروة، أو تجميد الاستفادة منها، كتعطيل موانئ استراتيجية، أو مطارات ومعابر ومضايق هامة، أو الحيلولة دون استخراج ثرواتها النفطية أو الغازية أو المعدنية من الذهب وغيره بشكل كامل أو نسبة غالبة أو عالية.
ويمكن عند الارتهان أن يُغَذَّى ويُقَوَّى الصراع بأنواعه: الطائفي، والقبلي، والمناطقي، والديني، والسياسي؛ نظراً لقدرة تلك الدول على التواصل مع القوى ولو بمعلوم دولتهم، مما يتيح وضعا غير مستقر ولا آمن ولا قانوني مرشحاً للانهيار والدخول في حروب وتشظي الدولة ووطنها.
لذلك فالأصل الشرعي والسياسي الوطني: المنع بصرامة عما يؤدي إلى تدخل القوى والدول في شئون الدولة.
ويحرم على القوى في الداخل أن تقوي النفوذ الخارجي في البلد؛ لانعكاس ذلك بالضرر، وأدائه إلى ضعف دولتهم وسيادتهم، وتأهيل الوضع حينئذ إلى ظهور الفساد والمشاكل والقلاقل والفتن.
فإن أخذت على ذلك أموالاً ومصالح جهاتٌ في الداخل من القوى الخارجية على توسيع نفوذها وخدمة مصالحها، فهو مال محرم وسحت؛ لأنه أجرة فاسدة على ما يؤدي إلى الفساد في الأرض.
وهي غير الأموال والمصالح والمساعدات التي تقدمها الدول والمنظمات علنا عبر مؤسسات وجهات لخدمة مصالح إنسانية محضة، فهذه لا مانع منها، ولا تدخل في المنع.
بخلاف ما سبق من بذل أموال لقوى طائفية، أو قبلية، أو مناطقية، أو سياسية، أو دينية لتغذية النفوذ الخارجي، وإيجاد وكلاء في الداخل ينفذون بالوكالة سياسة الخارج التي تريدها في البلد.
فهذه محرمة في الشرع، وعقد باطل، وهي سحت ورشوة، وأجرة على الفساد، وهذا محرم.
ومن أكبر مفاسدها تدخل القوى الخارجية في وضع المناهج التعليمية على ما تريد من السياسة؛ لضمان عدم قيام جيل متنور يحمي سيادة البلاد واستقلالها.
ولا يطيعها ويمكنها من التدخل في وضع المناهج الدراسية التي تخدم سياساتها الباطلة إلا فاسق، أو جاهل لا يصلح أن يكون في هذا الموضع الذي من خلاله مكن من وسائل الفساد في المناهج التعليمية، فأثر في أنواع من المفاسد على جيل وأمة.
ولا يعذر بالجهل لأن عادة هذا المنصب هو الدراية بما يترتب عليه، فدعواه الجهل كذب فارغ غير مقبول أمام القضاء.
ومن أكبر مفاسد الارتهان للخارج: أن الوطن يصبح ميدانا بالوكالة لصراعات الدول والقوى، وتصفية حساباتها، وما يترتب على ذلك من الفساد في الأرض لا يخفى.
ونظرا لهذه المفاسد العظيمة والأضرار الفاحشة، فإن ارتهان الدولة لغيرها خارجيا أو داخليا من السياسات المحرمة شرعا، وممنوعة في كل القوانين والدساتير المنبثقة عن الشريعة.
ولذلك قال الله سبحانه عن الاستخلاف للأمة المؤمنة إنه استخلاف تمكين بالغ إلى حد الأمن والاستقرار ماليا، واقتصاديا، وسياسيا كما يدل عليه إطلاق (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) (النور: 55)، أي أمنا واستقرارا في كل مجال سياسي أو اقتصادي أو عسكري أو غيره (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).
وقال في سياق الامتنان (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ)(القصص: 5 - 6).
فلا بد مع جعلهم أئمة من التمكين في الأرض، ولا بد مع ذلك من إرث تام للثروات والموارد لتكون بيد الأمة، وهو ما ذكره الله في آية أخرى من مفردات لبعض ذلك (فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ* كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) (الشعراء: 57 - 59).
فهذه الثروات ملك للأمة يديرها الذين مكنهم الله، وهذه الأمور هي مفردات الإنقاذ في الحكم الرشيد، وإنما أفرد الله الإرث، والتمكين، والإمامة كلا على حدة؛ لأنه قد تحصل الإمامة والولاية من غير تمكين، ولا بسط للنفوذ على الإرث المالي والثروة والموارد، وقد تحصل الولاية والتمكين، ولا تتوفر الثروة والإمكانات، إما أنها غير موجودة أصلا، أو لعدم التمكن من إدارتها، نظرا لظروف دولته، ونحو ذلك.
وزادت الآية السابقة معنى آخر، وهو الأمن والاستقرار في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والغذائية وغيرها (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) (النور: 55).
فهذه الأربعة الأمور هي أركان تمام الاستخلاف الرباني في الأرض الذي جعله الله مِنَّةً، والتمكين بالنسبة للدولة المسلمة تمكين منهج العدالة، والرحمة، والحرية، والمساواة، والسلم، والقوة المتمثل في دين الإسلام (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) (النور: 55).
والحاصل أن ارتهان الدولة لغيرها مناقض لأمر التمكين في الأرض، ومناقض لمقصد الأمن والاستقرار العام دينا ودنيا، فحرم.
وفرض على الشعب حينئذ أن ينظر في أسباب هذه التبعية والارتهان ويزيلها.
فإن كان لضعف الحاكم قَوَّاه؛ فإن كان ضعفه عجزا ذاتياً عزَلَه بلا خلاف بين الفقهاء في اشتراط القدرة وعدم العجز.
فإن كان لفساد الحكام؛ ففرض إزالة هذا الفساد، ومقاضاة الظالم وهو الحاكم، ونصرة المظلوم وهو الشعب، فإن تعذر إلا بعزل الحاكم وجب ذلك من الشعب والجماعة عند القدرة وغلبة المصالح الحالية والمآلية.