الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقه الأقليات
* (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً)(النساء: 100)
* الإقامة في أي دولة على وجه الأرض من الحقوق الإنسانية المباحة
* أخذ الجنسية الوطنية من أي دولة أمر مباح لا يتعارض مع التدين
* التعايش السلمي بين شعوب الإنسانية هو الأصل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات: 13)
* الإحسان والبر والسلام والعدل مفردات شرعية مطلوبة في التعامل بين البشرية (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(البقرة: 83)، (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ) (الممتحنة: 8)
فقه الأقليات
الأرض لله يورثها من يشاء من عباده.
وهي في الأصل موضوعة لعموم الخلق (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ)(الرحمن: 10)، (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29).
والإقامة في أي بلاد جائزة، والاستيطان بها وأخذ جنسيتها؛ إذْ الأصل الإباحة؛ لعموم العفو عن كافة المسائل المسكوت عنها بالنص (وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101).
ولأن الجنسية الوطنية إلى وطن ما لا تصادم الدين؛ لإمكان اجتماع الوصف الديني والوصف الوطني بلا تعارض، كعربي مسلم، وأوروبي مسلم؛ فالانتماء الديني لا يعارض الانتماء الوطني.
ومن لم يستطع إقامة دينه في بلد وجب هجرته ولو إلى غير مسلمين يقدر على إقامة التكاليف الشرعية عندهم، فإن لم يفعل ظلم نفسه إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا* إِلَاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (النساء: 97 - 98).
فلم يحدد النص وجهة الهجرة إلى أرض.
وجعل قانون ذلك وجود العدل والحرية التي يستطيع معها إقامة دينه، كما يفهم من مقصود الآية أنها هجرة يتمكن فيها المسلم من الإيمان والعمل الصالح.
وقد هاجر الصحابة إلى الحبشة، وهم وملكهم على النصرانية؛ فرارا بدينهم (1).
و«لا هجرة بعد الفتح» (2) يعني: واجبة إلى المدينة بعد الفتح؛ لوجوبها قبله على كل من آمن
(1) - حديث الهجرة إلى الحبشة أخرجه البخاري برقم 2297 عن عائشة.
(2)
- وقولنا «ولا هجرة بعد» ، هذا جواب على ما يمكن أن يعترض على ما قدمناه، في جواز الهجرة أو وجوبها إن =
بالدعوة، ولجواز الهجرة إلى المدينة وغيرها والإقامة فيها بعد الفتح إلى يوم القيامة.
وعموم أحكام الشريعة، زمانا، ومكانا، وأشخاصا على كل مكلف.
ورخصها شرعت لحفظها (1).
والإسلام قائم على الوسطية ورفع الحرج، فكل أحكامه يسر لا إفراط ولا تفريط (2).
والمشقات المصاحبة للتكليف الجارية مجاري العادات غير معتبرة، كمشقة الجهاد، والحج، والجوع في الصوم، والبرد لصلاة الفجر (3).
وإنما تدفع المشقة إن خرجت عن العادات، وما خرج عن العادات خرج عن الاستطاعة.
ولا تخرج عن العادات إلا إن أدت المشقة إلى ضرر معتبر، وهو: ما أدى إلى إتلاف نفس، أو عضو، أو مال، أو شين فاحش، أو خلل في التعبد وانقطاع عنه (4).
وهنا تجرى قاعدة: المشقة تجلب التيسير.
والفرق بينها وبين قاعدة (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج: 78) أن هذه أصل الشريعة، وقاعدة «المشقة تجلب التيسير» للطوارئ الخارجة عن الاستطاعة.
ولا يؤخذ منها التساهل.
= استدعى الأمر ذلك. فإن قال قائل: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم «لا هجرة بعد الفتح» وهذا عام؟ والجواب: أن النفي هنا لرفع التكليف على كل مسلم أن يهاجر إلى المدينة. وكان ذلك قبل فتح مكة، وجوبا. فلما فتحت مكة وأعز الله الإسلام ودولته وشعبه سقط وجوب الهجرة إلى المدينة بقوله صلى الله عليه وسلم:«لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» . أي: لا هجرة واجبة؛ لأنه من أراد أن يهاجر مستوطنا المدينة بعد الفتح إلى يوم القيامة جاز له، ولو حمل الحديث على عمومه؛ لكان تقديره (لا يهاجرن أحد إلى المدينة بعد اليوم) لا وجوبا ولا إباحة، لكان هذا تحريما لاستيطان المدينة من غير أهلها الموجودين أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا غير مراد قطعاً.
(1)
- قولنا «ورخصها شرعت لحفظها» بين ذلك الشاطبي في بدايات جزء المقاصد من كتابه الموافقات بيانا شافيا.
(2)
- قولنا «لا إفراط ولا تفريط» في كتابي في المقاصد -يسر الله طباعته- قررت أن من مقاصد الشريعة الوسطية والاعتدال. والأدلة على ذلك كثيرة، ومنها قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة: 143).
(3)
- انظر جزء المقاصد للشاطبي عند كلامه على المشقات وتعريفها وضوابطها.
(4)
- قولنا «أو خلل .. » قلت: هذا تعريف للإمام الشاطبي وهو تعريف خماسي أخذته من كتابه الموافقات في جزء المقاصد فراجعه.
ويمكن صياغة قاعدة جديدة جامعة هي: الشريعة قائمة على التسهيل لا التساهل. فالتسهيل جمع بين قاعدة أصل التشريع في الآية، وبين قاعدة الطوارئ الشاقة.
والمقصود منه -أي التسهيل- حفظ التشريع، ودوام التعبد في أي ظرف بحسبه، فيؤدي إلى اللزوم والالتزام بالتشريع.
وأما التساهل فهو: مفض إلى الانفلات عن التكليف والتهرب منه، والالتفاف عليه بحيل ومتشابهات، فيؤدي ذلك إلى خلاف مقصود الشريعة.
والأصل دعوة كل كافر لا قتل كل كافر.
ويشرع البر والقسط لغير مقاتل ولا معاون؛ للنص (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)(الممتحنة: 8).
فيجوز تبادل الزيارات (1)؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي فأكل، وكان يمشي إلى يهود. وردُّ السلام جائز إذا سلموا بإجماع العلماء (2)؛ ولعموم (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) (النساء: 86)، وهذا عام.
وأما ابتداؤهم بالسلام خاصة فمذهب جماعة من السلف جوازه، وعليه يحمل حديث «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام» (3) على الحالة التي كانت جارية عندهم في تعاملهم مع
(1) - قولنا «فيجوز تبادل الزيارات» قلت: الأصل فيها الإباحة، ومن ادعى المنع فعليه الدليل، وما أوردناه من الحديث ظاهر، فقد كان يجيب دعوة اليهود كما ثبت في صحيح البخاري برقم 1356 عن أنس رضي الله عنه قال كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول «الحمد لله الذي أنقذه من النار» .
(2)
- قولنا «ورد السلام جائز بإجماع العلماء» نقل ذلك النووي في شرح مسلم (7/ 296)، وإنما الخلاف في: هل يقال «وعليكم» أم يزاد «وعليكم السلام» ؟ والصحيح أنهم إذا سلموا تسليما صحيحا فيرد عليهم بذلك؛ لعموم الآية (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)(النساء: 86). وأما إذا حرفوا الكلم كما كان اليهود يسلمون على النبي والصحابة بقولهم «السام عليكم» فأمرهم النبي أن يردوا عليهم بقولهم «وعليكم» كما في مسلم. فيحمل هذا النوع الخاص من الرد على هذه الحالة فقط، لا على كل حالة، فإنه لا يليق بمحاسن الإسلام، ولذلك ذهب علقمة والنخعي والأوزاعي وجماعات إلى ابتدائهم بالسلام فضلا عن مجرد الرد عليهم، وهذا هو اللائق.
(3)
- أخرجه مسلم برقم 5789 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام» . قال =
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حيث كانوا يبدءون بالسلام فيقولون: السام، فنهى عن البدء بالسلام لذلك معاملة بالمثل؛ لأن الله يقول (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى: 40)، وورد في الصحيح صفة الرد عليهم في هذه الحالة بعينها بقوله «وعليكم» .
وبِدءٌ بالتحية جائز، وهي غير السلام والنهي وارد فيه، وقد يجوز البدء بالسلام كما قدمنا لحديث «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء على حمار فسلم وكان في القوم مسلم وكافر ومنافق» (1).
= النووي في شرحه على مسلم (7/ 296): اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا. انتهى. ونقل عن القاضي عياض عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم به للضرورة والحاجة أو سبب وهو قول علقمة والنخعي، وعن الأوزاعي أنه قال إذا سلمت فقد سلم الصالحون وإن تركت فقد ترك الصالحون. انتهى. وهذا يدل على ما قدمنا من أن الابتداء بالسلام يجوز وهو في عصرنا هذا حيث يلقى الإسلام تشويها القول الأولى؛ لأنه يؤدي إلى مصالح كثيرة من التعريف بالإسلام ونشر محاسنه.
(1)
- قال النووي في شرحه لمسلم (7/ 296): ويجوز الابتداء بالسلام على جمع فيهم مسلمون وكفار أو مسلم وكفار. انتهى كلامه. وقيده بقوله «ويقصد المسلمين» . قلت: وليس في الحديث ما يدل على هذا القيد إلا النص السابق «لا تبدءوهم بالسلام» ، وعلته فيما أراه هي أنهم كانوا يقولون تحريفا «السام عليكم» فمنعنا من الابتداء؛ لأنه إن بدأنا بقولنا «السلام عليكم» فردهم كان بحذف اللام «وعليكم السام» وإن رددنا عليهم وابتدءونا هم بقولهم «السام عليكم» فالجواب «وعليكم» لا أنه على كل حال يمنع بدؤهم بالسلام بل لعلة ذلك الوضع، لأنها من الجزاء بالمثل (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى: 40)، (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194)، فإن لم يحصل ذلك رجعنا إلى الأصل وهو (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 8) وهذا عموم يدخل فيه السلام وغيره وهو أصل من الأصول الشرعية في التعامل .. وأما الحديث الذي في الباب فهو في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما (البخاري رقم 4566، ومسلم رقم 4760) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر قال: حتى مر بمجلس فيه عبدالله بن أبي بن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبدالله بن أبي فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود والمسلمين وفي المجلس عبدالله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبدالله بن أبي أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال عبدالله بن أبي بن سلول أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذينا به في مجلسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبدالله بن رواحة بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له =
وتحييهم بتحيتهم نحو «صباح الخير» ، إلا إن اشتملت على محضور، لعموم (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (النساء: 86)، فإذا جاز الرد بمثل التحية ما لم تكن ممنوعة شرعا فيجوز الابتداء بها، والأصل عدم المانع.
وتهنئتهم بمباح في أعيادهم ومناسباتهم، لعموم (أَن تَبَرُّوهُمْ) بشرط عدم الحضور؛ لأن الحضور شعيرة دينية تعبدية، وحضور الشعائر الدينية التعبدية لغير دين الإسلام الحق أمر محرم.
وكذا يجوز الإهداء لهم (1)، وقبولها منهم (2)؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يقبل هداياهم.
ومساعدتهم والصدقة على فقيرهم؛ للحديث الصحيح أن عائشة تصدقت على يهودية،
= النبي صلى الله عليه وسلم يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب يريد عبدالله بن أبي قال كذا وكذا قال سعد بن عبادة يا رسول الله اعف عنه واصفح عنه فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبونه بالعصابة فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك فذلك فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون، عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله عزوجل (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا) (آل عمران: 186) الآية وقال الله (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(البقرة: 109)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله به صناديد كفار قريش قال ابن أبي بن سلول، ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأسلموا.
(1)
- قولنا «وكذا يجوز الإهداء لهم» دليله أن عمر أهدى لأخ له مشرك كما في الصحيحين (البخاري رقم 886، ومسلم رقم 5522) أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة. ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها حلة، فقال عمر: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أكسكها لتلبسها. فكساها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخا له بمكة مشركا.
(2)
- قولنا «وقبولها منهم» ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلها من الملوك والأمراء وغيرهم وكانوا على الشرك، كما في صحيح البخاري رقم 1481 ومسلم رقم 6087 من حديث أبي حميد الساعدي، وأن ملك أيلة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه بُرْدا.
وإغاثة مضطر كغريق أو مصاب في حادث سير، أو هدم، أو حرق، أو كارثة ونحو ذلك؛ لعموم (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 8)، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل لأبي سفيان في نازلة الجوع.
وحفْظُ أماناتهم؛ لعموم الأدلة وعدم التخصيص؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر علياً برد الأمانات.
وتبادل الخبرات والدراسات والبحوث؛ لأنها معارف إنسانية عامة مشتركة لا تختص بدين لعموم (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)(البقرة: 29).
ويجوز معهم البيع والشراء؛ لعموم (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)(البقرة: 275) ولتعامل المسلمين مع المشركين أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرهم، وكذا يجوز معهم الشركات، والمضاربات، والإجارات.
ولمقيم المشاركة في انتخاب من في ولايته مصلحة شرعية للمسلمين عموما أو خصوصا، كالجاليات.
ويجوز الاستدانة منهم بلا ربا وإلا حرم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند يهودي في دَين (1)، ويجوز وضع المال في بنوكهم لمضطر وما خرج من ربا صرف في مصلحة عامة.
ويحل الزواج بكتابيةٍ، وأكل طعامهم إلا الخمر والخنزير؛ للنص (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) (المائدة: 5).
ومن كان أجيرا في محل، أو شركة، أو مطعم، أو فندق في بلادهم وفيه محرم قطعي، كالخمر والخنزير، وهو يبيعه، أو يقدمه؛ حرم.
وينتقل إلى غيره؛ فإن لم يجد عملا إلا بفعل المحرم هاجر إلى بلد ليس فيه ذلك؛ لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا)(النساء: 97).
(1) - أخرجه البخاري برقم 2096 عن عائشة رضي الله عنها قالت: اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاما بنسيئة ورهنه درعه.
فإن كان مُحْصَرا وتعذر انتقاله، ولا حيلة له شمله الاستثناء في قوله تعالى (إِلَاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (النساء: 98).
والمساهمة في شركات مشتملة على محرم قطعي كخمر وخنزير لا يجوز.
إلا إن كانت قطاعات متعددة؛ فيجوز فيما ليس فيه ذلك.
ومن أسلم منهم وتحته كتابية استدام؛ لأنها تحل له ابتداء بالنص (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(المائدة: 5)، أو وثنية انتظرها في العدة، فإن أسلمت وإلا فارق، ويحتمل جواز الدوام؛ لحديث زينب (1).
وآية الممتحنة لصورة الهاربة إلى الكفار أو منهم.
ومن أسلمت وهي تحت كتابي أو غيره جاز دوام العقد سنين بلا مس؛ لحديث زينب، ويحتمل جواز المس في الصورتين؛ على الأصل ولعدم المانع لكل من أسلمت أو أسلم، والزيادة في حديث زينب «ولا يخلص إليك» ضعيفة ومخالِفَة لرواية الأثبات، والضعيف إن خالف الثقات فروايته منكَرَة، وعلى تسليم صحتها فيعلل على مسألة الهاربة من الكفار أو الباقية عندهم
(1) - قولنا «لحديث زينب» قلت: أخرجه أبو داود برقم 2242 عن ابن عباس قال رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاصى بالنكاح الأول لم يحدث شيئا. قال محمد بن عمرو في حديثه بعد ست سنين وقال الحسن بن على بعد سنتين. قلت: هذا حديث حسن. أما حديث أنه ردها بنكاح جديد فهو عند أحمد من طريق حجاج بن أرطأة وهو ضعيف خاصة إذا خالف. قال أحمد برقم 6938: قال هذا حديث ضعيف أو قال واه ولم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب إنما سمعه من محمد بن عبيد الله العرزمي والعرزمي لا يساوي حديثه شيئا والحديث الصحيح هو الذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول.
قلت: وأما زيادة «ولا يخلص إليك» فإنها من غير طريق الثقات، أخرجها الحاكم في المستدرك برقم 5038 بسند ضعيف فيه أحمد بن عبدالجبار العطاردي ومن طريق ابن إسحاق وقد عنعن، وهذه علة أخرى عند من يجعلها علة، ولفظه: عن عائشة رضي الله عنها قال: صرخت زينب رضي الله عنها: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع قال فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته أقبل على الناس فقال: أيها الناس هل سمعتم ما سمعت قالوا: نعم قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء كان حتى سمعت منه ما سمعتم إنه يجير على المسلمين أدناهم ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته زينب فقال: أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين له.
أو الهاربة إليهم مفارقة لزوجها المسلم، وهذا ما تحمل عليه آية الممتحنة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ) (الممتحنة: 10 - 11).
والنهي الصريح في البقرة (وَلَا تَنكِحُوا) هو في الابتداء؛ لأن النكاح عقد.
ولأن من أسلم من الصحابة لم يؤمر بطلاق، وكذا من أسلمت، ولم يؤمر ولم ينه عن مسها في كافة الصور إلا في صورة الهاربة من الكفار.
فيحمل حديث زينب مع زوجها «لا يخلص إليك» ، على الإرشاد أو على صورة الهاربة من الكفار، وكم أسلم من العرب من الرجال ورجعوا إلى أهلهم ولم يؤمروا بطلاق، ولا عدم مسيس، فالنهي في قوله تعالى (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الممتحنة: 10) يُحْمَلُ على كل امرأة فرت من زوجها المسلم إلى بلاد الكفر كافرة، أو رفضت الهجرة الشرعية معه، أو آثرت نصرة أهل الحرب، وظاهرتهم فكانت معهم.
ويحمل: (وَلَا تُنكِحُوا الْمُشِرِكِينَ) على الابتداء.
هذا ما تجتمع به النصوص، والله أعلم.
ومن أسلم فمات مُورِّثُه الكافر وَرِثَه على الأصل.
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك مقاسم الجاهلية على ما قسمت (1)، فيعاملون على قوانينهم، ولأن الصحابة ورثوا أقاربهم من الكفار (2).
(1) - قولنا «ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك مقاسم .. » أخرجه أبو داود برقم 2916 بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم له وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام» .
(2)
- قولنا «ولأن الصحابة ورثوا أقاربهم من الكفار» قال الحافظ في الفتح (8/ 14) في شرح «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور» : وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين. انتهى. وهذا يدل على تقدم هذا الحكم في أوائل الإسلام لأن أبا طالب مات قبل الهجرة ويحتمل =
وحديث «لا يرث الكافر المسلم» (1) مؤيد لذلك؛ لأنه إن كان الميت هو من أسلم فإن أحكام الإسلام تجري على ورثته فلا يرثونه، وإن كان الميت هو الكافر فيرث المسلم؛ لأن أحكام شريعتهم هي التي تحكم في ماله وهي تحكم بإرث ولده ولو مسلما.
وتعقد رئاسة الجالية المسلمة لمن لا ولي لها، فإن لم يكن، فعقدوا في محكمة بلاد الكفر انعقد؛ لعدم اشتراط الإسلام في إجراء العقد، وإن زوجت نفسها غريبة في بلاد غير الإسلام، ولا ولي لها بشهود جاز (2).
ويجوز التأمين التكافلي الإسلامي لا التجاري إلا لمجبر بقانونهم.
وحجاب المرأة أمام الأجانب له ركنان: ما ستر الزينة، ودفع الإيذاء.
فالزينة هي: كل ما تتزين به من ملابس وأساور وأصباغ، أو زينة بدن، إلا ما ظهر بلا عمد أو ما لا يمكن إخفاؤه كخضاب.
وزينة بدنها: حُسْنُ مقاطع جسم كصدر وشعر وعنق وما بين سرة وركبة ووجه وكفين عند البعض في الأخيرين، فهذه مواضع زينة وإظهارها فتنة وإيذاء للمرأة، فكل ما يستر
= أن تكون الهجرة لما وقعت استولى عقيل وطالب على ما خلفه أبو طالب وكان أبو طالب قد وضع يده على ما خلفه عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان شقيقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب بعد موت جده عبدالمطلب فلما مات أبو طالب ثم وقعت الهجرة ولم يسلم طالب وتأخر إسلام عقيل استوليا على ما خلف أبو طالب ومات طالب قبل بدر وتأخر عقيل فلما تقرر حكم الإسلام بترك توريث المسلم من الكافر استمر ذلك بيد عقيل فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وكان عقيل قد باع تلك الدور كلها واختلف في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم عقيلا على ما يخصه هو فقيل ترك له ذلك تفضلا عليه وقيل استمالة له وتأليفا وقيل تصحيحا لتصرفات الجاهلية كما تصحح أنكحتهم .. وقال في موضع آخر (وحكى الفاكهي أن الدار لم تزل بأولاد عقيل إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار وزاد في روايته من طريق محمد بن أبي حفصة فكان علي بن الحسين يقول من أجل ذلك تركنا نصيبنا من الشعب أي حصة جدهم علي من أبيه أبي طالب وقال الداودي وغيره كان من هاجر من المؤمنين باع قريبه الكافر داره وأمضى النبي صلى الله عليه وسلم تصرفات الجاهلية تأليفا لقلوب من أسلم منهم).
(1)
- أخرجه البخاري برقم 6764 عن أسامة بن زيد، رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» . وهو في مسلم برقم 4225.
(2)
- قولنا «ولا ولي لها بشهود جاز» ، قلت: هذا مذهب أبي حنيفة، وهو قوي في هذه الحالة، وحديث «لا نكاح إلا بولي» مختلف في صحته، أما زيادة «وشاهدي عدل» فلا تصح.
زينة المرأة ويدفع عنها الأذى فهو مقصود بالحجاب.
فالحجاب ما ستر الزينة ودفع الإيذاء عن المرأة (1).
والاستثناء بـ (إِلَاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا)(النور: 31)؛ ليخرج كل ما لا يمكن إخفاؤه من طول وقصر أو صوت بحسبه.
ولفظ (ظَهَرَ) يدل على ظهوره بنفسه بلا إظهار، وهو غير لفظ «إلا ما أظهرن» ؛ لأنه يعيد فعل الإظهار إليها.
فإذا جعلنا الإظهار عائداً إلى اختيار المرأة بطل الحجاب لإمكانها إظهار أخص فتنتها من صدر وعنق وبين سرة وركبة.
فلزم أنّ (ظَهَرَ) هو: ما ظهر بنفسه، إما: بلا عمد، أو ما لا يمكن إخفاؤه من طرف ثوب وكم وبنان وعين؛ لتعسر ذلك.
والوجه إن جرت العادة على كشفه جاز؛ لاحتمال دخوله في الاستثناء، فإن فتنت به حرم كما تقتضيه مقاصد التشريع.
أما غير ذلك من شعر وساق ونحر ونحوه فهو منهي بالنص العام المشدد «نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها العنوهن فإنهن ملعونات» (2).
(1) - قولنا «ما ستر الزينة ودفع الإيذاء» هذا ما أخذناه من (وَلا يُبْدِينَ)، وآية (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) (الأحزاب: 59)، فهذا الضابط الثنائي هو ما نراه جامعا مانعا، وإن لم ينص عليه أحد فيما طالعنا إلا أنه مفاد الآيتين وبه يعلم أن للمرأة حرية ما تلبس بحسب عرفها ووصفها، بشرطين ضابطين: إخفاء الزينة، ولبس يدفع إيذاءها، فمواضع الزينة معلومة بالفطرة والديانة، وما دفع الإيذاء معلوم كذلك.
(2)
- أخرجه مسلم برقم 5704 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا» . وفي رواية أحمد «العنوهن فإنهن ملعونات» قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الثلاثة ورجال أحمد رجال الصحيح. قال النووي في شرحه على مسلم (9/ 240): هذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فأما أصحاب السياط فهم غلمان والي الشرطة. =
فالكاسية العارية هي من عليها مسمى كساء لكنه في حكم العري؛ لضيقه فيظهر تفاصيل مقاطع فتنتها؛ أو لقصر؛ وتقطيع فيظهر ساق وصدر ونحر وغيره.
أما رؤوسهن فحجمها أو شكلها، أو شعرها من ظفائر وخصلات ونحوه للنص «رؤوسهن» وما في معنى النص.
أما العنق والصدر فقوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)(النور: 31). فدل على تغطية الرأس والصدر والرقبة والنحر.
وأما القدم فنُهِىَ عن الضرب بها حتى لا يسمع صوت زينة خفية كخلخال وضع فوق الكعبين.
= أما (الكاسيات) ففيه أوجه أحدها: معناه: كاسيات من نعمة الله، عاريات من شكرها، والثاني: كاسيات من الثياب، عاريات من فعل الخير والاهتمام لآخرتهن، والاعتناء بالطاعات. والثالث: تكشف شيئا من بدنها إظهارا لجمالها، فهن كاسيات عاريات. والرابع: يلبسن ثيابا رقاقا تصف ما تحتها، كاسيات عاريات في المعنى.
وأما (مائلات مميلات): فقيل: زائغات عن طاعة الله تعالى، وما يلزمهن من حفظ الفروج وغيرها، ومميلات يعلمن غيرهن مثل فعلهن، وقيل: مائلات متبخترات في مشيتهن، مميلات أكتافهن، وقيل: مائلات يتمشطن المشطة الميلاء، وهي مشطة البغايا معروفة لهن، مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة، وقيل: مائلات إلى الرجال مميلات لهم بما يبدين من زينتهن وغيرها.
وأما (رءوسهن كأسنمة البخت) فمعناه: يعظمن رءوسهن بالخمر والعمائم وغيرها مما يلف على الرأس، حتى تشبه أسنمة الإبل البخت، هذا هو المشهور في تفسيره، قال المازري: ويجوز أن يكون معناه يطمحن إلى الرجال ولا يغضضن عنهم، ولا ينكسن رءوسهن، واختار القاضي أن المائلات تمشطن المشطة الميلاء، قال: وهي ضفر الغدائر وشدها إلى فوق، وجمعها في وسط الرأس فتصير كأسنمة البخت، قال: وهذا يدل على أن المراد بالتشبيه بأسنمة البخت إنما هو لارتفاع الغدائر فوق رءوسهن، وجمع عقائصها هناك، وتكثرها بما يضفرنه حتى تميل إلى ناحية من جوانب الرأس، كما يميل السنام، قال ابن دريد: يقال: ناقة ميلاء إذا كان سنامها يميل إلى أحد شقيها. والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلن الجنة» يتأول التأويلين السابقين في نظائره أحدهما: أنه محمول على من استحلت حراما من ذلك مع علمها بتحريمه، فتكون كافرة مخلدة في النار، لا تدخل الجنة أبدا.
والثاني: يحمل على أنها لا تدخلها أول الأمر مع الفائزين. والله تعالى أعلم.
قلت: رحم الله النووي وغيره من العلماء السابقين فإنهم لو رأوا الكاسيات العاريات في هذا الزمان لن يختلفوا في معرفة معناه إذ أصبحت الموضة العارية التي تظهر العورات المخففة والمغلظة من مقطع وضيق وشفاف وقصير وضاغط هي لبسهن، وهذا ظاهر.
فدل على أن إظهار الحلي ومواضعه ممنوع؛ لأنه أشد من تخيل زينته لمجرد سماع صوته.
ودل على أن ما حكى زينة باطنة ولو بسماع، يحرم؛ فأولى منه ما أعلم عن زينة باطنة بالرؤية لتفاصيلها؛ لضيق لبس؛ لأنه أبلغ من سماع صوت خلخال.
ويجب على مقيم تعليم ولده وأهله الشريعة ولغة العرب؛ لأنها وسيلة لفهم الوحي وإلزامهم بشعائره (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)(طه: 132).
ويلزم الأقليات (1) المسلمة المقيمة في غير بلاد الإسلام إقامة المدارس التي تحفظ النشء على دينه.
(1) - قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي 1 - 174 - (1/ 283)
قرار رقم 151 (9/ 16) بشأن معاملة الأقليات المسلمة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته السادسة عشرة بدبي (دولة الإمارات العربية المتحدة) 30 صفر - 5 ربيع الأول 1426 هـ، الموافق 9 - 14 نيسان (إبريل) 2005 م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع رعاية الأقليات المسلمة، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي:
1.
ينبغي استبعاد تسمية الوجود خارج العالم الإسلامي بـ (الأقليات) أو (الجاليات) لأن تلك التسميات مصطلحات قانونية لا تعبر عن حقيقة الوجود الإسلامي الذي يتصف بالشمولية والأصالة والاستقرار والتعايش مع المجتمعات الأخرى. وأن التسميات المناسبة هي مثل (المسلمون في الغرب) أو (المسلمون خارج العالم الإسلامي).
2.
يجب اتخاذ شتى الوسائل للحفاظ على الوجود الإسلامي للمسلمين خارج البلاد الإسلامية والدفاع عن خصوصياته الدينية والحضارية والثقافية.
3.
إن مقتضيات المواطنة في الغرب لا تتنافى مع المحافظة على الهوية الإسلامية والالتزام بالقيم الإسلامية.
التوصيات:
1.
إنشاء مركز علمي بحثي يعنى بأوضاع المسلمون خارج العالم الإسلامي، ويصحح الصورة الإسلامية لدى غير المسلمين.
2.
تكوين لجنة شرعية في المجمع تعنى بإيجاد الحلول للنوازل الفقهية التي يواجهها المسلمون خارج العالم الإسلامي.
3.
أن يعقد المجمع بالتعاون مع الجهات ذات العلاقة في الدول الإسلامية وخارجها دورات تدريبية متخصصة للأئمة والدعاة ومديري المراكز الإسلامية في البلاد غير الإسلامية.
4.
دعوة المسلمين خارج البلاد الإسلامية للمحافظة على ثوابتهم الإسلامية، ونبذ الخلافات المذهبية والتمسك بالوحدة في الشعائر الدينية.
5.
أن يكون المسلمون خارج البلاد الإسلامية نماذج حضارية تمثل الإسلام بسلوكياتهم وتعاملهم مع الآخرين.
6.
دعوة منظمة المؤتمر الإسلامي لدعم الإدارة التي تعنى بشؤون المسلمين في الدول غير الأعضاء في المنظمة، وتفعيل القرارات الصادرة عن المنظمة بهذا الشأن. والله أعلم.
ويجب بناء المراكز والمساجد وإقامة الصلاة وإظهار شعائر الله من جمع وجماعات وأعياد؛ لعموم التكليف بها وبوسائلها زمانا ومكانا وأشخاصا.
فإن لم يفعلوا مع القدرة أثموا، فإن عجزوا لمال وجب على المسلمين عونهم، فإن منعوا من ذلك أقاموا ولو في بيت أحدهم، فإن منعوا حرم مقامهم بها؛ كما يفيده قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا) (النساء: 97).