الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سُؤْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 -
السُّؤْرُ لُغَةً: بَقِيَّةُ الشَّيْءِ، وَجَمْعُهُ أَسْآرٌ، وَأَسْأَرَ مِنْهُ شَيْئًا أَبْقَى، وَفِي الْحَدِيثِ إِذَا شَرِبْتُمْ فَأَسْئِرُوا (1) أَيْ أَبْقُوا شَيْئًا مِنَ الشَّرَابِ فِي قَعْرِ الإِْنَاءِ، وَفِي حَدِيثِ الْفَضْل بْنِ عَبَّاسٍ مَا كُنْتُ أُوثِرُ عَلَى سُؤْرِكَ أَحَدًا (2) . وَرَجُلٌ سَأْرٌ أَيْ يُبْقِي فِي الإِْنَاءِ مِنَ الشَّرَابِ.
وَيُقَال: سَأَرَ فُلَانٌ مِنْ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ سُؤْرًا وَذَلِكَ إِذَا أَبْقَى بَقِيَّةً. وَبَقِيَّةُ كُل شَيْءٍ سُؤْرُهُ (3) .
وَالسُّؤْرُ فِي الاِصْطِلَاحِ هُوَ: فَضْلَةُ الشُّرْبِ وَبَقِيَّةُ الْمَاءِ الَّتِي يُبْقِيهَا الشَّارِبُ فِي الإِْنَاءِ، أَوْ فِي الْحَوْضِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِبَقِيَّةِ الطَّعَامِ أَوْ غَيْرِهِ. قَال
(1) حديث: " إذا شربتم فأسئروا " أورده صاحب لسان العرب مادة: " سأر "، ولم نهتد إليه في المصادر الحديثية الموجودة لدينا.
(2)
حديث: " ما كنت أوثر على سؤرك أحدا ". أخرجه الترمذي (5 / 507 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس، وقال: هذا حديث حسن.
(3)
لسان العرب مادة: (سأر) .
النَّوَوِيُّ: وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِهِمْ: سُؤْرُ الْحَيَوَانِ طَاهِرٌ أَوْ نَجَسٌ: لُعَابُهُ وَرُطُوبَةُ فَمِهِ. (1)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 -
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ الأَْسْآرِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
أَحَدُهَا: يَذْهَبُ إِلَى طَهَارَةِ الأَْسْآرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.
وَالآْخَرُ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَرَوْنَ طَهَارَةَ بَعْضِ الأَْسْآرِ وَنَجَاسَةَ بَعْضِهَا. وَالتَّفْصِيل كَمَا يَلِي:
3 -
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى تَقْسِيمِ الأَْسْآرِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: سُوَرٌ مُتَّفَقٌ عَلَى طَهَارَتِهِ وَهُوَ سُؤْرُ الآْدَمِيِّ بِجَمِيعِ أَحْوَالِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ أَوْ جُنُبًا. وَقَدْ أُتِيَ عليه الصلاة والسلام بِلَبَنٍ فَشَرِبَ بَعْضَهُ وَنَاوَل الْبَاقِيَ أَعْرَابِيًّا كَانَ عَلَى يَمِينِهِ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهُ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه فَشَرِبَ، وَقَال: الأَْيْمَنَ فَالأَْيْمَنَ. (2)
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 148، المجموع للنووي 1 / 172، والمغني 1 / 46، وكشاف القناع 1 / 195.
(2)
حديث: " الأيمن فالأيمن ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 86 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1603 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِي فَيَشْرَبُ (1)
وَلأَِنَّ سُؤْرَ الآْدَمِيِّ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِ، وَلَحْمُهُ طَاهِرٌ، فَكَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا، إِلَاّ فِي حَال شُرْبِ الْخَمْرِ فَيَكُونُ سُؤْرُهُ نَجِسًا؛ لِنَجَاسَةِ فَمِهِ بِالْخَمْرِ.
وَمِنَ النَّوْعِ الأَْوَّل الْمُتَّفَقِ عَلَى طَهَارَتِهِ سُؤْرُ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الأَْنْعَامِ وَالطُّيُورِ إِلَاّ الْجَلَاّلَةَ وَالدَّجَاجَةَ الْمُخَلَاّةَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ بِسُؤْرِ بَعِيرٍ أَوْ شَاةٍ (2) وَلأَِنَّ سُؤْرَهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهِ وَلَحْمَهُ طَاهِرٌ.
أَمَّا سُؤْرُ الْجَلَاّلَةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَاّةِ وَهِيَ الَّتِي تَأْكُل النَّجَاسَاتِ حَتَّى أَنْتَنَ لَحْمُهَا فَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ لاِحْتِمَال نَجَاسَةِ فَمِهَا وَمِنْقَارِهَا.
وَإِذَا حُبِسَتْ حَتَّى يَذْهَبَ نَتْنُ لَحْمِهَا فَلَا كَرَاهَةَ فِي سُؤْرِهَا.
وَأَمَّا سُؤْرُ الْفَرَسِ فَطَاهِرٌ عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لأَِنَّ سُؤْرَهُ مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِ، وَلَحْمُهُ طَاهِرٌ؛ وَلأَِنَّ كَرَاهَةَ لَحْمِهِ عِنْدَهُ لَيْسَتْ
(1) حديث عائشة: " كنت أشرب وأنا حائض. . . " أخرجه مسلم (1 / 245 - 246 - ط الحلبي) .
(2)
حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بسؤر بعير أو شاة ". أورده صاحب كتاب البدائع (1 / 64 - نشر دار الكتاب العربي) ولم نهتد إليه في المصادر الحديثية الموجودة لدينا.
لِنَجَاسَتِهِ بَل لاِحْتِرَامِهِ؛ لأَِنَّهُ آلَةُ الْجِهَادِ وَإِرْهَابِ الْعَدُوِّ، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ فِي سُؤْرِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّ سُؤْرَهُ نَجِسٌ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنْهُ بِنَجَاسَةِ لَحْمِهِ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ: مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ أَيْ دَمٌ سَائِلٌ، سَوَاءٌ كَانَ يَعِيشُ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي غَيْرِهِ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ.
النَّوْعُ الثَّانِي: السُّؤْرُ الطَّاهِرُ الْمَكْرُوهُ وَهُوَ سُؤْرُ سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالْحِدَأَةِ وَنَحْوِهَا فَسُؤْرُهَا طَاهِرٌ؛ لأَِنَّهَا تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا وَهُوَ عَظْمٌ جَافٌّ فَلَمْ يَخْتَلِطْ لُعَابُهَا بِسُؤْرِهَا؛ وَلأَِنَّ صِيَانَةَ الأَْوَانِي عَنْهَا مُتَعَذِّرَةٌ؛ لأَِنَّهَا تَنْقَضُّ مِنَ الْجَوِّ فَتَشْرَبُ، إِلَاّ أَنَّهُ يُكْرَهُ سُؤْرُهَا؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهَا تَتَنَاوَل الْجِيَفَ وَالْمَيْتَاتِ فَأَصْبَحَ مِنْقَارُهَا فِي مَعْنَى مِنْقَارِ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَاّةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ سِبَاعَ الطَّيْرِ إِنْ كَانَ لَا يَتَنَاوَل الْمَيْتَاتِ مِثْل الْبَازِي الأَْهْلِيِّ وَنَحْوِهِ فَلَا يُكْرَهُ الْوُضُوءُ بِسُؤْرِهِ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ سُؤْرُ سَوَاكِنِ الْبُيُوتِ كَالْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ وَالْوَزَغَةِ وَالْعَقْرَبِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْحَشَرَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ؛ لأَِنَّهُ يُتَعَذَّرُ صَوْنُ الأَْوَانِي مِنْهَا.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَيْضًا: سُؤْرُ الْهِرَّةِ فَهُوَ طَاهِرٌ وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا إِلَى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَال: السِّنَّوْرُ
سَبُعٌ. (1) وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم يُغْسَل الإِْنَاءُ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ أَوْ آخِرُهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَإِذَا وَلَغَتْ فِيهِ الْهِرَّةُ غُسِل مَرَّةً. (2)
وَالْمَعْنَى فِي كَرَاهَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ: وَهُوَ أَنَّ الْهِرَّةَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ لَحْمِهَا، وَسُؤْرُهَا نَجَسٌ مُخْتَلَطٌ بِلُعَابِهَا الْمُتَوَلِّدِ مِنْ لَحْمِهَا النَّجِسِ، وَلَكِنْ سَقَطَتْ نَجَاسَةُ سُؤْرِهَا اتِّفَاقًا، لِعِلَّةِ الطَّوَافِ الْمَنْصُوصَةِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ. (3) حَيْثُ إِنَّهَا تَدْخُل الْمَضَائِقَ وَتَعْلُو الْغُرَفَ فَيُتَعَذَّرُ صَوْنُ الأَْوَانِي مِنْهَا.
وَلَمَّا سَقَطَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ مِنْ سُؤْرِهَا لِضَرُورَةِ الطَّوَافِ بَقِيَتِ الْكَرَاهَةُ؛ لِعَدَمِ تَحَامِيهَا النَّجَاسَةَ وَلإِِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَهُوَ أَنَّ الْهِرَّةَ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ - وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ - لأَِنَّ
(1) حديث: " السنور سبع ". أخرجه أحمد (2 / 327 ط الميمنية) ، والحاكم (1 / 183 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وضعفه الذهبي.
(2)
حديث: " يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات ". أخرجه الترمذي (1 / 151 - ط الحلبي) والبيهقي (1 / 247 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وصوب البيهقي وقف الشطر الذي فيه ذكر الهرة.
(3)
حديث: " إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات ". أخرجه الترمذي (1 / 154 - ط الحلبي) من حديث أبي قتادة، وقال: حديث حسن صحيح.
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَى عَنْهَا النَّجَاسَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ. (1) وَلَكِنْ يُكْرَهُ سُؤْرُهَا لِتَوَهُّمِ أَخْذِهَا الْفَأْرَةَ فَصَارَ فَمُهَا كَيَدِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ نَوْمِهِ. فَلَوْ أَكَلَتِ الْفَأْرَةَ ثُمَّ شَرِبَتِ الْمَاءَ قَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ شَرِبَتْهُ عَلَى الْفَوْرِ تَنَجَّسَ الْمَاءُ، وَإِنْ مَكَثَتْ سَاعَةً وَلَحِسَتْ فَمَهَا ثُمَّ شَرِبَتْ فَلَا يَتَنَجَّسُ بَل يُكْرَهُ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَاهُ فِي سُؤْرِ شَارِبِ الْخَمْرِ، وَهُوَ أَنَّ صَبَّ الْمَاءِ شَرْطٌ فِي التَّطْهِيرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِنَّ مَا سِوَى الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ لَيْسَ بِطَهُورٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: السُّؤْرُ النَّجِسُ الْمُتَّفَقُ عَلَى نَجَاسَتِهِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ سُؤْرُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَسَائِرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ. أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلأَِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (2) الآْيَةَ. وَلُعَابُهُ يُتَوَلَّدُ مِنْ لَحْمِهِ النَّجِسِ. وَأَمَّا الْكَلْبُ فَلأَِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِغَسْل الإِْنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَلِسَانُهُ يُلَاقِي الْمَاءَ أَوْ مَا يَشْرَبُهُ مِنَ الْمَائِعَاتِ الأُْخْرَى دُونَ الإِْنَاءِ فَكَانَ أَوْلَى بِالنَّجَاسَةِ؛ وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْ سُؤْرِهِمَا
(1) حديث: " إنها ليست بنجس ". أخرجه الترمذي (1 / 154 - ط الحلبي) من حديث أبي قتادة، وقال: حديث حسن صحيح.
(2)
سورة الأنعام / 145.
وَصِيَانَةُ الأَْوَانِي عَنْهُمَا، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَمَا سُئِل عَنِ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ السِّبَاعِ؟ قَال: إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ. (1) وَلَوْ كَانَتْ طَاهِرَةً لَمْ يَحُدَّهُ بِالْقُلَّتَيْنِ.
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه خَرَجَ فِي رَكْبٍ فِيهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حَتَّى وَرَدَا حَوْضًا فَقَال عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ هَل تَرِدُ حَوْضَكَ السِّبَاعُ؟ فَقَال عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّنَا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ عَلَيْنَا. وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَاءُ يَتَنَجَّسُ بِشُرْبِهَا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لِلسُّؤَال وَلَا لِلنَّهْيِ عَنِ الْجَوَابِ مَعْنًى؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ غَيْرُ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ وَيُمْكِنُ صَوْنُ الأَْوَانِي مِنْهَا، وَعِنْدَ شُرْبِهَا يَخْتَلِطُ لُعَابُهَا بِالْمَشْرُوبِ وَلُعَابُهَا نَجِسٌ لِتَحَلُّبِهِ مِنْ لَحْمِهَا وَهُوَ نَجِسٌ، فَكَانَ سُؤْرُهَا نَجِسًا.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْمَشْكُوكُ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِهِ وَهُوَ الْحِمَارُ الأَْهْلِيُّ وَالْبَغْل فَسُؤْرُهُمَا مَشْكُوكٌ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ لِتَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ، فَالأَْصْل فِي سُؤْرِهِمَا النَّجَاسَةُ؛ لأَِنَّهُ لَا يَخْلُو سُؤْرُهُمَا عَنْ لُعَابِهِمَا، وَلُعَابُهُمَا مُتَحَلِّبٌ مِنْ لَحْمِهِمَا وَلَحْمُهُمَا نَجَسٌ، وَلأَِنَّ عَرَقَهُ طَاهِرٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيًا وَالْحَرُّ حَرُّ الْحِجَازِ، وَيُصِيبُ
(1) حديث: " إذا كان الماء قلتين فإنه لا ينجس " أخرجه أبو داود (1 / 53 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عمر، وصححه ابن منده كما في التلخيص لابن حجر (1 / 17 - ط شركة الطباعة الفنية) .
الْعَرَقُ ثَوْبَهُ، وَكَانَ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ. (1) فَإِذَا كَانَ الْعَرَقُ طَاهِرًا فَالسُّؤْرُ أَوْلَى.
وَقَدْ تَعَارَضَتِ الآْثَارُ فِي طَهَارَةِ سُؤْرِ الْحِمَارِ وَنَجَاسَتِهِ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يَقُول: الْحِمَارُ يَعْتَلِفُ الْقَتَّ وَالتِّبْنَ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يَقُول: إِنَّهُ رِجْسٌ، وَتَعَارَضَتِ الأَْخْبَارُ فِي أَكْل لَحْمِهِ وَلَبَنِهِ كَمَا تَعَارَضَ تَحَقُّقُ أَصْل الضَّرُورَةِ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُخَالَطَةِ كَالْهِرَّةِ فَلَا يَعْلُو الْغُرَفَ وَلَا يَدْخُل الْمَضَائِقَ، وَلَيْسَ فِي الْمُجَانَبَةِ كَالْكَلْبِ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي وُقُوعِ حُكْمِ الأَْصْل، وَالتَّوَقُّفُ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ تَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ وَاجِبٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ فَلَا يُنَجِّسُ سُؤْرُهُ الأَْشْيَاءَ الطَّاهِرَةَ، وَلَا يَطْهُرُ بِهِ النَّجَسُ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يُتَوَضَّأُ بِسُؤْرِهِ وَيُتَيَمَّمُ احْتِيَاطًا، وَأَيُّهُمَا قُدِّمَ جَازَ؛ لأَِنَّ الْمُطَهِّرَ مِنْهُمَا غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّرْتِيبِ.
وَقَال زُفَرُ: يُبْدَأُ بِالْوُضُوءِ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ أَوِ الْبَغْل لِيَصِيرَ عَادِمًا لِلْمَاءِ حَقِيقَةً (2)
(1) حديث: " كان يركب الحمار معروريا ". أورده صاحب كتاب الاختيار (1 / 19 - ط الميمنية) ولم نهتد إليه في المراجع الحديثية الموجودة لدينا.
(2)
البدائع 1 / 63 - 64، حاشية ابن عابدين 1 / 148، الاختيار تعليل المختار 1 / 18، المغني لابن قدامة 1 / 47، المجموع للنووي 1 / 173، الفتاوى الهندية 1 / 23.
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَةٍ، طَعَامٍ، طَهَارَةٍ) .
4 -
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ سُؤْرَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ مِنَ الأَْنْعَامِ، وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِيرِ وَالسِّبَاعِ وَالْهِرَّةِ وَالْفِئْرَانِ وَالطُّيُورِ وَالْحَيَّاتِ وَسَامٍ أَبْرَصَ، وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولَةِ - سُؤْرُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ طَاهِرٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ إِلَاّ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تُوَلِّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.
فَإِذَا وَلَغَ أَحَدٌ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فِي طَعَامٍ جَازَ أَكْلُهُ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَإِذَا شَرِبَ مِنْ مَاءٍ جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ بِلَا كَرَاهَةٍ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) لأَِنَّ فِي تَنْجِيسِ سُؤْرِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ حَرَجًا، وَيَعْسُرُ الاِحْتِرَازُ عَنْ بَعْضِهَا كَالْهِرَّةِ وَنَحْوِهَا مِنْ سَوَاكِنِ الْبُيُوتِ.
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ كَبْشَةَ زَوْجَةِ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنهما أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَل عَلَيْهَا فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ مِنْهُ فَأَصْغَى لَهَا الإِْنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَال: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ (2) .
(1) سورة الحج / 78.
(2)
حديث: " إنها ليست بنجس " أخرجه الترمذي (1 / 154 - ط الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح.
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيل لَهُ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَا فَضَلَتِ الْحُمُرُ؟ قَال: وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ.
(1)
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ رضي الله عنه قَال: خَطَبَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَاقَتِهِ، وَإِنَّ لُعَابَهَا يَسِيل بَيْنَ كَتِفَيَّ. (2)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِل عَنِ الْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ وَالْحُمُرُ، وَعَنِ الطَّهَارَةِ مِنْهَا، فَقَال صلى الله عليه وسلم: لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا، وَلَنَا مَا غَبَرَ طَهُورٌ (3) وَلِقَوْل عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ فَإِنَّنَا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ عَلَيْنَا.
أَمَّا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تَفَرَّعَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَسُؤْرُهُ نَجِسٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْخِنْزِيرِ:{فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (4) الآْيَةَ وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَلْبِ: طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ
(1) حديث جابر: " أنتوضأ بما فضلت الحمر؟ ". أخرجه الدارقطني (1 / 63 - ط دار المحاسن) وضعف أحد رواته.
(2)
حديث عمرو بن خارجة: " خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه الترمذي (4 / 434 - ط الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح.
(3)
حديث: " لها ما حملت في بطونها ". أخرجه ابن ماجه (1 / 73 - ط الحلبي) وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 130 - ط دار الجنان) .
(4)
سورة الأنعام / 145.
سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ (1) وَفِي رِوَايَةٍ فَلْيُرِقْهُ أَيِ الْمَاءَ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ. وَالإِْرَاقَةُ لِلْمَاءِ إِضَاعَةُ مَالٍ، فَلَوْ كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا لَمَا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ إِذْ قَدْ نَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَال.
وَإِنْ رَأَى شَخْصٌ هِرَّةً أَوْ نَحْوَهَا تَأْكُل نَجَاسَةً ثُمَّ وَرَدَتْ عَلَى مَاءٍ قَلِيلٍ أَيْ لَا يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ فَشَرِبَتْ مِنْهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
أَصَحُّهَا: أَنَّهُ إِنْ غَابَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ لَمْ يَنْجُسِ الْمَاءُ لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَدْ وَرَدَتْ عَلَى مَاءٍ كَثِيرٍ فَطَهُرَ فَمُهَا وَلأَِنَّا - فِي هَذِهِ الْحَالَةِ - قَدْ تَيَقَّنَّا طَهَارَةَ الْمَاءِ وَشَكَكْنَا فِي نَجَاسَةِ فَمِهَا، فَلَا يَنْجُسُ الْمَاءُ الْمُتَيَقَّنُ بِالشَّكِّ.
وَالثَّانِي: يَنْجُسُ الْمَاءُ لأَِنَّا تَيَقَّنَّا نَجَاسَةَ فَمِهَا.
وَالثَّالِثُ: لَا يَنْجُسُ الْمَاءُ بِحَالٍ لأَِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهَا فَعُفِيَ عَنْهُ، وَدَلِيل هَذَا الْوَجْهِ حَدِيثُ: إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ (2) وَهَذَا هُوَ الأَْحْسَنُ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ وَعُسْرِ الاِحْتِرَازِ فَهِيَ كَالْيَهُودِيِّ وَشَارِبِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ سُؤْرُهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (3)
(1) حديث: " طهور إناء أحدكم. . . " أخرجه مسلم (1 / 234 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2)
حديث: " إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات ". تقدم تخريجه ف / 3.
(3)
المجموع للنووي 1 / 172، 2 / 589، مغني المحتاج 1 / 24، روضة الطالبين 1 / 33، سبل السلام 1 / 22، البدائع 1 / 64.
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (شَكٍّ، طَهَارَةٍ، نَجَاسَةٍ) .
5 -
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَقْسِيمِ الْحَيَوَانِ إِلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ نَجِسٌ وَقِسْمٌ طَاهِرٌ.
ثُمَّ قَسَّمُوا النَّجَسَ إِلَى نَوْعَيْنِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَا هُوَ نَجَسٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَهَذَا النَّوْعُ سُؤْرُهُ وَعَيْنُهُ وَجَمِيعُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ نَجِسٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْخِنْزِيرِ:{فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (1) الآْيَةَ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَلْبِ: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَفِي رِوَايَةٍ: لِيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ. (2)
فَإِذَا وَلَغَ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ آخَرَ يَجِبُ إِرَاقَتُهُ، وَإِذَا أَكَل مِنْ طَعَامٍ فَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا اخْتُلِفَ فِي نَجَاسَتِهِ وَهُوَ سَائِرُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْحِمَارِ الأَْهْلِيِّ وَالْبَغْل، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ سُؤْرَهَا نَجَسٌ إِلَاّ السِّنَّوْرَ وَمَا يُمَاثِلُهَا فِي الْخِلْقَةِ أَوْ دُونَهَا فِيهَا، فَإِذَا شَرِبَتْ مِنْ مَاءٍ قَلِيلٍ وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ تَرَكَهُ وَتَيَمَّمَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِل عَنِ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ السِّبَاعِ
(1) سورة الأنعام / 145.
(2)
حديث: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم " أخرجه مسلم (1 / 234 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
فَقَال: إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ (1) فَلَوْ كَانَتْ طَاهِرَةً لَمْ يَحُدَّهُ بِالْقُلَّتَيْنِ. وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحُمُرِ الأَْهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ: إِنَّهَا رِجْسٌ (2) وَلأَِنَّهُ حَيَوَانٌ حَرُمَ أَكْلُهُ، لَا لِحُرْمَتِهِ مِثْل الْفَرَسِ - حَيْثُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِحُرْمَتِهِ - وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ غَالِبًا فَأَشْبَهَ الْكَلْبَ؛ وَلأَِنَّ السِّبَاعَ وَالْجَوَارِحَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا أَكْل الْمَيْتَاتِ، وَالنَّجَاسَاتِ فَتُنَجِّسُ أَفْوَاهَهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ مُطَهِّرٍ لَهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِنَجَاسَتِهَا كَالْكِلَابِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: فِي الْبَغْل وَالْحِمَارِ إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَ سُؤْرِهَا تَيَمَّمَ مَعَهُ وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُل عَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِهِمَا؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمْ تَجُزِ الطَّهَارَةُ بِهِ. وَرُوِيَ عَنْ إِسْمَاعِيل بْنِ سَعِيدٍ: لَا بَأْسَ بِسُؤْرِ السِّبَاعِ لأَِنَّ عُمَرَ قَال فِيهَا: تَرِدُ عَلَيْنَا وَنَرِدُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَال: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي طَهَارَةُ الْبَغْل وَالْحِمَارِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْكَبُ الْحَمِيرَ وَالْبِغَال (3) ، وَتُرْكَبُ فِي زَمَنِهِ، وَفِي عَصْرِ
(1) حديث: " إذا كان الماء قلتين فإنه لا ينجس " تقدم تخريجه. ف / 3.
(2)
حديث: " إنها رجس ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 654 - ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(3)
حديث: " ركوبه صلى الله عليه وسلم الحمار ". أخرجه البخاري (6 / 58 - ط السلفية) من حديث معاذ بن جبل. وحديث: " ركوبه البغلة " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 69 - ط السلفية) من حديث البراء بن عازب.
الصَّحَابَةِ، فَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ؛ وَلأَِنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِمُقْتَنِيهَا فَأَشْبَهَ الْهِرَّةَ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ الْجَلَاّلَةُ الَّتِي تَأْكُل النَّجَاسَاتِ فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ سُؤْرَهَا نَجَسٌ، وَفِي أُخْرَى أَنَّهُ طَاهِرٌ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ، وَسُؤْرُهُ وَعَرَقُهُ طَاهِرَانِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ:
الأَْوَّل: الآْدَمِيُّ، فَهُوَ طَاهِرٌ وَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ أَوْ كَانَ الرَّجُل جُنُبًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ. (1) وَلِحَدِيثِ شَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ سُؤْرِ عَائِشَةَ. (2)
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ، فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ يَجُوزُ شُرْبُهُ وَالْوُضُوءُ بِهِ، إِلَاّ إِنْ كَانَ جَلَاّلاً يَأْكُل النَّجَاسَاتِ فَفِي سُؤْرِهِ الرِّوَايَتَانِ السَّابِقَتَانِ. وَيُكْرَهُ سُؤْرُ الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَاّةِ لأَِنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَتُهُ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: الْهِرَّةُ وَمَا يُمَاثِلُهَا مِنَ الْخِلْقَةِ أَوْ دُونَهَا كَالْفَأْرَةِ وَابْنُ عُرْسٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ حَشَرَاتِ الأَْرْضِ، فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ يَجُوزُ شُرْبُهُ وَالْوُضُوءُ بِهِ، وَلَا يُكْرَهُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها
(1) حديث: " المؤمن لا ينجس ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 391 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 282 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2)
حديث: " شرب النبي صلى الله عليه وسلم من سؤر عائشة " تقدم تخريجه ف / 3.
قَالَتْ: كُنْتُ أَتَوَضَّأُ أَنَا وَرَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ وَقَدْ أَصَابَتْ مِنْهُ الْهِرَّةُ قَبْل ذَلِكَ (1) قَالَتْ: وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِفَضْل الْهِرَّةِ. (2) وَلِحَدِيثِ كَبْشَةَ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ.
إِلَاّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: يُغْسَل الإِْنَاءُ الَّذِي وَلَغَتْ فِيهِ الْهِرَّةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَبِهِ قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَال الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: مَرَّةً، وَقَال طَاوُسٍ: سَبْعَ مَرَّاتٍ كَالْكَلْبِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَرِهَ الْوُضُوءَ بِسُؤْرِ الْهِرَّةِ وَالْحِمَارِ.
وَإِذَا أَكَلَتِ الْهِرَّةُ وَنَحْوُهَا نَجَاسَةً ثُمَّ شَرِبَتْ مِنْ مَاءٍ يَسِيرٍ بَعْدَ أَنْ غَابَتْ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَى عَنْهَا النَّجَاسَةَ، وَتَوَضَّأَ بِفَضْلِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا تَأْكُل النَّجَاسَاتِ. وَكَذَا إِنْ شَرِبَتْ قَبْل أَنْ تَغِيبَ فَسُؤْرُهَا طَاهِرٌ كَذَلِكَ فِي الرَّاجِحِ، لأَِنَّ الشَّارِعَ عَفَا عَنْهَا مُطْلَقًا لِمَشَقَّةِ التَّحَرُّزِ.
وَقَال الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: يَنْجُسُ الْمَاءُ؛ لأَِنَّهُ وَرَدَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ مُتَيَقَّنَةٌ، وَقَال الْمَجْدُ ابْنُ
(1) حديث عائشة: " كنت أتوضأ أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء. . . " أخرجه الدارقطني (1 / 69 - ط دار المحاسن) وضعف شمس الحق العظيم أبادي أحد رواته كما في التعليق عليه.
(2)
حديث عائشة: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضل الهرة ". أخرجه الدارقطني (1 / 70 - ط دار المحاسن) وأعله بالوقف.
تَيْمِيَّةَ: الأَْقْوَى عِنْدِي أَنَّهَا إِنْ وَلَغَتْ عَقِيبَ الأَْكْل فَسُؤْرُهَا نَجِسٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ بِزَمَنٍ يَزُول فِيهِ أَثَرُ النَّجَاسَةِ بِالرِّيقِ لَمْ يَنْجُسْ، قَال: وَكَذَلِكَ يَقْوَى عِنْدِي جَعْل الرِّيقِ مُطَهِّرًا أَفْوَاهَ الأَْطْفَال وَبَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ، وَكُل بَهِيمَةٍ أُخْرَى طَاهِرَةٍ، فَإِذَا أَكَلُوا نَجَاسَةً وَشَرِبُوا مِنْ مَاءٍ يَسِيرٍ أَوْ أَكَلُوا مِنْ طَعَامٍ فَسُؤْرُهُمْ طَاهِرٌ، وَقِيل: إِنْ غَابَتِ الْهِرَّةُ وَنَحْوُهَا بَعْدَ أَنْ أَكَلَتِ النَّجَاسَةَ غَيْبَةً يُمْكِنُ وُرُودُهَا عَلَى مَا يُطَهِّرُ فَمَهَا فَسُؤْرُهَا طَاهِرٌ وَإِلَاّ فَنَجَسٌ.
وَقِيل: إِنْ كَانَتِ الْغَيْبَةُ قَدْرَ مَا يُطَهِّرُ فَمَهَا فَطَاهِرٌ، وَإِلَاّ فَنَجَسٌ. (1)
6 -
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ سُؤْرَ الْبَهَائِمِ جَمِيعًا طَاهِرٌ وَمُطَهَّرٌ إِذَا كَانَ مَاءً، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْبَهِيمَةُ مُحَرَّمَةَ اللَّحْمِ أَوْ كَانَتْ جَلَاّلَةً، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَْرْضِ جَمِيعًا} (2) فَأَبَاحَ الاِنْتِفَاعَ بِالأَْشْيَاءِ كُلِّهَا، وَلَا يُبَاحُ الاِنْتِفَاعُ إِلَاّ بِالطَّاهِرِ، وَحُرْمَةُ الأَْكْل لِبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ لَا تَدُل عَلَى النَّجَاسَةِ، فَالآْدَمِيُّ وَمِثْلُهُ الذُّبَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالزُّنْبُورُ وَنَحْوُهَا طَاهِرٌ وَلَا يُبَاحُ أَكْلُهَا، إِلَاّ أَنَّهُ
(1) المغني لابن قدامة 1 / 46، كشاف القناع 1 / 195، سبل السلام 1 / 22، الإنصاف 1 / 343، الفروع 1 / 256.
(2)
سورة البقرة / 29.