الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في ذكر ما قيل في وصية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
اعلم أن الناس اختلفوا في وصية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أمته من بعده، فذهبت الروافض إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أنه الخليفة بعده، وقالت الزيدية أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: لم ينصّ النبي صلى الله عليه وسلم على عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- لكنه كان أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالأمر، ثم اختلفوا فقالت الجارودية: إن الصحابة، ظلموه وكفروا من خالفه من الصحابة وقالت طائفة: إنه يتبرع من حقه لأبي بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فتولتها، ولم تعاديهما، بل قالت بإمامتها وعمدتهم، لأبي بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما-، فتولتها ولم تعاديهما بل قالت بإمامتهما وعمدتهم في الاحتجاج لأقوالهم أحاديث مكذوبة موضوعة لا معنى لتسويد الأوراق بها.
هذه مسألة أصولية: وهي إذا واحد يخبر بتوفر الدواعي على نقله ويعلم استحالة خفائه، كما إذا أخبر بقتل خطيب على المنبر يوم الجمعة في بلد، كبير ولم يتقلد غيره فالذي قالته الأمة من أهل السنة إنه كاذب قطعا، ومن هذا نعلم بالقطع كذب من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ على إمامة إمام معين بعده بحضرة ملأ من الناس وسكتوا عن نقله إلا آحادا منهم، وخالف الرافضة في أصل هذه المسألة توصلا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ على إمامة عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- جمع يحصل منهم التواتر فكتموه إلا أفرادا نادرة.
وذهب جمهور أهل السنة إلى أن الرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدا بعينه ولم يوص إلى أحد بعينه في أمر أمته، قائما به على الخلافة بما ذكرنا من أمر الصلاة، وقالت طائفة: بل نصّ صلى الله عليه وسلم على استخلاف أبى بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بعده على الأمة، واحتج الجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، بما خرجه البخاري في كتاب الأحكام في باب الاستخلاف من حديث سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-
قال: قيل لعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ألا تستخلف؟ قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، أبو بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأثنوا عليه فقال: راغب وراهب، ووددت أني نجوت منها كفافا لا لي ولا عليّ، لا أتحملها حيا وميتا [ (1) ] .
وخرجه مسلم من حديث أبى أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: حضرت أبي حين أصيب فأثنوا عليه وقالوا جزاك اللَّه خيرا، فقال: راغب وراهب، فقال: استخلف، فقال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: لا أتحمل أمركم حيا وميتا لوددت أن حظّي منها الكفاف، لا عليّ ولا لي، فإن استخلف فقد استخلف من هو خير مني، يعني أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني، رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال عبد اللَّه: فعرفت أنه حين ذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه غير مستخلف [ (2) ] .
وخرج من طريق عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهريّ قال: أخبرني سالم عن ابن عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: دخلت على حفصة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فقالت: أعلمك أن أباك غير مستخلف؟ قال، قلت، ما كان ليفعل، قالت: إنه فاعل، قال: فحلفت أنى أكلمه في ذلك، فسكتّ حتى غدوت ولم أكلمه، قال: فكنت كأنما أحمل بيميني جبلا حتى رجعت فنحلت عليه فسألني عن حال الناس وأنا أخبره، قال: ثم قلت له: إني سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك، زعموا أنك غير مستخلف، وإنه لو كان لك راعى إبل أو راعى غنم ثم جاءك وتركها، أرأيت إن ضيع؟
فرعاية الناس أشد، قال فوافقه قولي، فوضع رأسه ساعة، ثم رفعه إليّ فقال: إن اللَّه عز وجل يحفظ دينه، وإني لئن لا أستخلف فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قد
[ (1) ](فتح الباري) : 13/ 255، باب الاستخلاف، حديث رقم (7218)، والاستخلاف: أي تعيين الخليفة عند موته خليفة بعده، أو يعين جماعة ليتخيروا منهم واحدا.
[ (2) ](مسلم بشرح النووي) : 11/ 446 كتاب الإمارة، باب (2) الاستخلاف وتركه حديث رقم (11) .
استخلف قال: فو اللَّه ما هو إلا أن ذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحدا، وأنه غير مستخلف [ (1) ] .
خرج البيهقيّ من طريق أبي داود الجفري عن سفيان الثوري عن الأسود ابن قيس عن عمرو بن سفيان، قال: لما ظهر عليّ- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على الناس يوم الجمل قال: أيها الناس، إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا حتى رأينا من الرأى أن نستخلف أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- رأى من الرأي أن يستخلف عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه، ثم إن أقواما طلبوا هذه الدنيا، فكانت أمور يفضي اللَّه تعالى فيها [ (2) ] .
وخرج من طريق شبابه بن سوار، قال: حدثنا شعيب بن ميمون عن حسين بن عبد الرحمن عن الشعبيّ عن أبي وائل قال: قيل لعلي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: ألا تستخلف علينا؟ قال: ما استخلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأستخلف، ولكن إن يرد اللَّه تعالى بالناس خيرا فليجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم نبيهم صلى الله عليه وسلم على خيرهم [ (3) ] .
قال البيهقيّ: شاهده في الحديث الثابت عن علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فذكر ما
خرّجه البخاري من طريق الزهريّ قال: أخبرنى عبد اللَّه بن كعب بن مالك الأنصاريّ، وكان كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، قال: إن عبد اللَّه بن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أخبره أن عليّ بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- خرج من عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في وجعه الّذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا حسن! كيف أصبح رسول اللَّه
[ (1) ](مسلم بشرح النووي) : 11/ 447- 448، كتاب الإمارة، باب (2) الاستخلاف وتركه، حديث رقم (12) .
[ (2) ](دلائل البيهقي) : 7/ 223، باب ما يستدل به على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدا بعينه، ولم يوص إلى أحد بعينه في أمر أمته، وإنما نبه على الخلافة بما ذكرنا من أمر الصلاة.
[ (3) ](المرجع السابق) .
صلى اللَّه عليه وسلم قال: أصبح بحمد اللَّه تعالى بارئا، فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فقال له: أنت واللَّه بعد ثلاث عبد العصا، وإني واللَّه لأرى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتوفى من وجعه هذا، إني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنسأله في هذا الأمر إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه، فأوصى بنا، فقال على- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إنا واللَّه لئن سألناه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فمنعناها، لا يعطيناها الناس بعده أبدا.
وروى يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني الزهري عن عبد اللَّه ابن كعب بن مالك عن عبد اللَّه بن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- من عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مرضه يوم قبض فيه، فذكر الحديث. إلا أنه لم يذكر ما قال: العصا وزاد في آخره: فتوفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم.
وخرج عبد الرزاق، قال أنبأنا معمر عن الزهري قال: أخبرني كعب بن مالك عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- قال: خرج العباس وعلي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- من عند النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الّذي ملت فيه، فلقيهما رجل فقال: كيف أصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يا أبا حسن؟ فقال أصبح بارئا، فقال العباس لعلي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- أنت بعد ثلاث:
عبد العصا، قال: ثم خلا به فقال: فإنه يخيل إليّ أن أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، وأني خائف ألا يقوم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من وجعه هذا، فاذهب بنا إليه فلنسأله فإن كان هذا الأمر فينا علمناه، وإن لم يكن إلينا أمرناه أن يستوصى بنا، قال: فقال علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: أرأيت إن جئناه فسألناه فلم يعطوناها؟ أترى الناس يعطوناها؟ واللَّه لا أسألها إياه أبدا.
قال عبد الرزاق: فكان معمر يقول لنا: أيهما كان أصوب عندكم رأيا؟
فنقول: العباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- فيأبى، ثم قال: لو أن عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- سأله عنها فأعطاه إياها، فمنعه الناس
كانوا قد كفروا.
قال عبد الرزاق فحدثت به ابن عيينة فقال: الشعبي: لو أن عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- سأله عنها، كان خيرا له من ماله وولده.
وقال عبدان، عن أبي حمزة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر، هو الشعبي، قال العباس لعلي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- حين مرض النبي صلى الله عليه وسلم: إني أكاد أعرف في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الموت، فانطلق بنا إليه نسأله من يستخلف، فإن يستخلف منا فذلك، وإلا أوصى بنا.
قال: فقال علي للعباس كلمة فيها جفاء، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم قال العباس لعلي: أبسط يدك فلنبايعك. قال: فقبض يده، فقال عامر: لو أن عليّا أطاع العباس في أحد الرأيين، كان خيرا له من حمر النعم.
قال سيف: عن سعيد بن عبد اللَّه، عن أبيه قال: قلت لابن العباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: ما كان صنع العباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى حين خالف عليه علي- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-
فقال: كلم نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك فقام في الناس فقال: أوصيكم يا أهل بيتي وعترتي خيرا، أو أوصيكم بهم خيرا فإنّهم لحمي وفصيلتي، احفظوا منهم ما تحفظون في ما بينكم.
يا أيها الناس! إن اللَّه بعثني لأخرجكم من عبادة العباد الى عبادته، ومن دين الشرك إلى دينه، فاعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئا فإن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم وإن كان رقيقا، ألا إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم ثلاثا، فلا تضلوا عن الحق.
وخرج مسلم من حديث الأعمش عن أبي وائل عن مسروق، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: مثله سواء.
وخرج البخاري في أول كتاب الوصايا من حديث المالك بن مغول، حدثنا طلحة بن مصرف قال: سألت عبد اللَّه بن أبي أوفى- رضي اللَّه تبارك
وتعالى عنهما-: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؟ فقال: لا، فقلت: كيف كتب على الناس الوصية وأمر بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب اللَّه [ (1) ] ذكره في آخر المغازي، وخرجه مسلم أيضا.
وخرج البخاري ومسلم [ (2) ] من حديث ابن عون الأسود بن يزيد وقد ذكروا عند عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- أن عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كان وصيا، فقالت: متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري؟ أو قالت حجري- فدعا بالطست، فلقد انخنث في حجري: فما شعرت أنه مات فمتى أوصي إليه؟ لفظهما فيه قريب من السواء، ذكره البخاري في أول كتاب الوصايا وفي آخر المغازي.
وخرج البيهقي [ (3) ] من طريق عبد اللَّه بن رجاء قال: أنبأنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أرقم بن شرحيل، قال: سافرت مع ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- من المدينة فسألته: أكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أوصى؟ فقال:
إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما مرض مرضه الّذي مات فيه، كان في بيت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فرفع رأسه، فقال: ادعوا لي عليا، فقالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: ألا ندعوا لك أبا بكر يا رسول اللَّه؟
فقال: ادعوه قالت حفصة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: ألا تدعو عمر يا رسول اللَّه؟ قال صلى الله عليه وسلم: ادعوه، قالت أم الفضل: ألا تدعو العباس عمك يا رسول
[ (1) ](فتح الباري) : 5/ 4448، كتاب الوصايا، باب (1) الوصايا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «وصية مكتوبة عنده» وقال اللَّه عز وجل كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ* فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (البقرة: 181- 182) حديث رقم (2740) .
[ (2) ] باب (84) مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، وقوله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ.
[ (3) ] باب (18) الوصاة بكتاب اللَّه عز وجل، حديث رقم (5022) ، والمراد بالوصية بكتاب اللَّه تعالى حفظه حسا ومعنى، فيكرم ويصان، ولا يسافر به إلى أرض العدو، ويتبع ما فيه، فيعمل بأوامره، ويتجنب نواهيه، ويداوم على تلاوته وتعلمه، وتعليمه، ونحو ذلك. (فتح الباري) .
اللَّه؟ قال: ادعوه فلما حضروا رفع رأسه فلم يتكلم. فقال عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: قوموا بنا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإنه لو كانت له إلينا حاجة ذكرها، حتى فعل ثلاث مرات، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ليصلّ بالناس أبو بكر، فذكر الحديث في الصلاة. وقال في آخر الحديث: فمات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يوص. [ (1) ]
وخرج البخاري من حديث الأعمش قال حدثني أبي قال: خطبنا على- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- على منبر وعليه سيف فيه صحيفة معلقة فقال واللَّه ما عندنا من كتاب يقرأه إلا كتاب اللَّه تعالى وما في هذه الصحيفة، فنشرها: فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها: المدينة حرم إلى كذا، فمن أحدث فيها فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللَّه منه صرفا ولا عدلا، وإذا فيه: ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين.
لا يقبل اللَّه منه صرفا ولا عدلا وإذا فيها: من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل اللَّه منه صرفا ولا عدلا ذكره في كتاب الاعتصام [ (2) ] بالكتاب والسنة، في باب ما ذكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، وفي كتاب الجزية والموادعة في باب ذمة المسلمين [ (3) ] . وفي كتاب فضائل المدينة، في باب حرم المدينة [ (4) ] وخرجه مسلم [ (3) ] وأبو داود [ (4) ] .
وخرج البيهقيّ من طريق هدبة قال: حدثنا همام عن قتادة، عن أبي حسان قال: إن عليا- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- كان يأمر بالأمر، فيقال: قد فعلنا كذا وكذا، فيقول: صدق اللَّه ورسوله، فقيل له: أشيء عهده إليك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: ما عهد إليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئا خاصة دون الناس إلا شيئا سمعته منه في صحيفة في قراب سيفي، قال: فلم نزل به حتى أخرج الصحيفة، فإذا فيها: من أحدث أو آوى محدثا فعليه لعنة اللَّه
[ (1) ] حديث رقم (2741) .
[ (2) ] حديث رقم (4459) .
[ (3) ](دلائل البيهقي) : 7/ 226- 227.
[ (4) ](فتح الباري) : 13/ 341- 342، حديث رقم (7300) .
والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل، وإذا فيها: إن إبراهيم حرّم مكة، [ (1) ] وإني أحرم المدينة ما بين حرّتيها وحماها، لا يختلا خلاها، ولا ينفر صيدها ولا يلتقط لقطتها إلا لمنشد أشاد بها [ (2) ] ، يعني من منشد ولا يقطع شجرها إلا أن يعلف رجل بعيرا، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، وإذا فيها المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم [ (3) ][ (4) ] ، ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده [ (5) ] .
ومن طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة قال: لم يوص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند موته إلا بثلاث: للرهابيين بجادّ مائة واسق من خيبر، وللداريين بجاد مائة وسق وللشانئين بجاد مائه وسق من خيبر، وللأشعريين بجاد مائة وسق من خيبر.
وأوصى صلى الله عليه وسلم بتنفيذ بعث أسامة بن زيد- رضي اللَّه تبارك وتعالى وأوصى صلى الله عليه وسلم أن لا يترك بجزيرة العرب دينان [ (6) ] .
وروى حماد بن عمرو النصيبي عن السديّ بن خالد، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا عليّ أوصيك بوصية فاحفظها. وذكر حديثا طويلا
في الرغائب والآداب، وهو حديث موضوع، فإن حماد بن عمرو هذا ممن يكذب ويضع الحديث. [ (7) ]
[ (1) ](المرجع السابق) : 6/ 3336، حديث رقم (3172) .
[ (2) ](المرجع السابق) : 4/ 100/ 101، حديث رقم (1870) .
[ (3) ] أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب فصائل المدينة، حديث رقم (1370) .
[ (4) ] سيأتي تخريجه وشرحه إن شاء اللَّه تعالى بعد قليل.
[ (5) ](دلائل البيهقي) : 7/ 228، وأخرجه أبو داود في (السنن) : 2/ 529، كتاب المناسك، باب (99) في تحريم المدينة، حديث رقم (2034) ، (2035) .
[ (6) ](دلائل البيهقي) : 7/ 230.
[ (7) ](دلائل البيهقي) : 7/ 229، ثم قال: وهو حديث موضوع وقد شرطت في أول الكتاب ألا أخرج في هذا الكتاب حديثا أعلمه موضوعا.
وقال سيف: عن مبشر بن المفضل [ (1) ] . عن أبيه قال جاء أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه ائذن لي فلأمرضك وأكون الّذي أقوم عليك. فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! إني لم أحمل أزواجي وبناتي وأهل بيتي عليّ حين ازدادت مصيبتي عليهم عظما، وقد وقع أجرك علي اللَّه اجمع لي الأربعين يا أبا بكر، الذين سبقوا الناس إلى هذا الدين، وادع عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- معهم. ففعل، وكان ذلك قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بخمس عشرة ليلة فخلص بهم ودعا لهم، وعهد عهده وهم شهود وهي آخر وصية أوصى بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وخرج الحارث بن أبي أسامة من طريق محمد بن سعد، قال: أخبرني محمد بن عمر يعني الواقدي قال: حدثني عبد اللَّه بن جعفر بن عون عن ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: نعي لنا نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم نفسه قبل موته بشهر، بأبي هو وأمي ونفسي له الفداء، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- وتشوّف لنا فقال:
مرحبا بكم وحياكم اللَّه بالسلام [ (2) ] .
وخرجه البيهقي من طريق سلام بن سليمان المدائني، حدثنا سلام بن سليم الطويل، عن عبد الملك بن عبد الرحمن بن الحسن الغزي عن الأشعث بن طليق
[ (1) ] هو بشر بن المفضل بن لاحق الرقاشيّ، مولاهم أبو إسماعيل البصري. ترجمته في (تهذيب التهذيب) : 1/ 402، ترجمة رقم (844) .
[ (2) ]
(طبقات ابن سعد) : 2/ 265- 257، ذكر ما أوصى به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مرضه الّذي مات فيه، ثم قال: رحمكم اللَّه، حفظكم اللَّه، جبركم اللَّه، رزقكم اللَّه، رفعكم اللَّه، نفعكم اللَّه أداكم اللَّه، وقاكم اللَّه! أوصيكم بتقوى اللَّه، وأوصى اللَّه بكم أستخلفه عليكم، وأحذركم اللَّه إني لكم منه نذير مبين، ألا تعلوا على اللَّه في عباده وبلاده، فإنه قال لي ولكم: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
القصص: 83.
وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ؟ الزمر: 60، قلنا: يا رسول اللَّه، متى أجلك؟
قال: دنا الفراق والمنقلب إلى اللَّه وإلى جنة المأوى، وإلى سدرة المنهي، وإلى الرفيق الأعلى، والكأس الأوفى، والحظ والعيش المهنى
…
(المرجع السابق) .
عن مرة عن شراحيل، عن عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: لما ثقل رسول صلى الله عليه وسلم اجتمعنا في بيت أمنا عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- فلما نظر إلينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فدمعت عيناه، ثم قال لنا: قد دنا الفراق ونعى إلينا نفسه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: مرحبا بكم حياكم اللَّه، هداكم اللَّه فذكره [ (1) ] وقال: إسناده ضعيف بمرة. [ (2) ]
وقال الواقدي: حدثني عبد اللَّه بن جعفر عن عبد الواحد بن أبي عون قال: عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- نعى لنا نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم نفسه قبل موته بشهر، بأبي هو وأمي، نفسي له الفداء.
وقال سيف: عن المستنير بن يزيد النخعي عن أرطاة بن أبى أرطاة بن أبي أرطاة النخعي عن الحارث بن مرة الجهنيّ قال: رأيت عنده رقا مكتوبا فيه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نعى لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نفسه قبل موته بشهر، ثم جمعنا بعد ذلك بخمس عشرة ليلة في بيت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- ونحن أربعون ببشرى اللَّه تعالى، فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه، ثم قال: اتقوا اللَّه فإن تقوى اللَّه خير ما تواصي به عباد اللَّه وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومن حيث لا يأمل ولا يرجو وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً فارضوا بقضاء اللَّه، فإن الأمر أمره، وسلموا الأمر إليه فإن القليل يتبع الكثير، ألا فليسلم القليل للكثير
[ (1) ](دلائل البيهقي) : 7/ 231- 232، باب ذكر الحديث الّذي روي عن ابن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه. النبي صلى الله عليه وسلم في نعيه نفسه إلى أصحابه، وما أوصاهم به، وإسناده ضعيف بمرة.
[ (2) ] هو مرة بن شراحيل الهمراني السكسكي، أبو إسماعيل، الكوفي، المعروف بمرة الطيب، ومرة الخيرة، لقب بذلك لعبادته.
وروى عن أبي بكر وعمر وعلي وأبي ذر وحذيفة وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وزيد بن
رفعكم اللَّه، نفعكم اللَّه، هداكم اللَّه، رزقكم اللَّه، سلمكم اللَّه، قبلكم اللَّه.
أوصيكم بتقوى اللَّه عز وجل وألجئكم إلى اللَّه، وأؤدي إليكم عنه، إني لكم منه نذير مبين، وأستخلفه عليكم، فاتقوا اللَّه، ولا تعالوا على اللَّه في عباده، وبلاده، والعاقبة للمتقين.
وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ وإن هذا آخر ما أخلص بكم وتخلصون بي، اسمع يا أبا بكر، أقول لكم، ثم اعمل على ذلك وأنت تعلم أنه كذلك، إن دعائي آت لكم على كل ما أشتهي، إلا ما رددت عنه من بأس بينكم، واختلاف كلمتكم، والمؤمنون شهود اللَّه في الأرض فالحسن ما حسنوا، أو القبيح ما قبحوا، من نظر أمر نفسه عند اختلاف الأمة يكف لسانه، واستبرأ قلبه، ولزم الجماعة، فآثرها على الفرقة، فإن يد اللَّه تعالى على الجماعة، والقليل تبع للكثير، فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه أدنى الأجل؟
فقال صلى الله عليه وسلم دنا الأجل وتدلى، فقال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: ليهنئك
[ () ] أرقم، وعلقمة بن قيس، وغيرهم.
وعنه إسماعيل بن أبي خالد، وإسماعيل السدي، وحصين بن عبد الرحمن، وزبيد اليمامي، وأبو السعد سعيد بن محمد، والصباح بن محمد، وطلحة بن مصرف، والشعبي، وعطاء بن السائب، وعمرو بن مرة، وفرقد السنجي، وموسى بن أبي عائشة، وغيرهم.
قال إسحاق بن منصور: عن ابن معين ثقة، وقال سكن بن محمد العابد، عن الحارث الغنوي: سجد مرة الهمرانى حتى أكل التراب وجهه.
وقال ابن سعد: توفى زمن الحجاج بعد الجماجم، وكذا قال أبو حاتم في تاريخ وفاته. وقال غيره:
توفى سنة ست وسبعين، وهو قول ابن حبان في (الثقات) ، وكان يصلى كل يوم ستمائة ركعة.
وقال العجليّ: تابعي ثقة، وكان يصلي في اليوم والليلة خمسمائة ركعة.
وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لم يدرك عمر. وقال هو وأبو زرعة: روايته عن عمر مرسلة، وقال أبو بكر البزار: روايته عن أبي بكر مرسلة، ولم يدركه. وقال ابن منك في (تاريخه) : أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدركه (تهذيب التهذيب) : 10/ 80، ترجمة رقم (159) .
يا نبي اللَّه، ما عند اللَّه، فليت شعرى عني منقلبا، فقال: إلى اللَّه بسدرة المنتهى ثم الى جنة المأوى، والعرض الأعلى، والكأس الأوفى، في الرفيق الأعلى، والحظ والعيش المهني.
فقال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- يا نبي اللَّه من يلي غسلك؟ قال رجال من أهل بيتي [الأدنى فالأدنى][ (1) ] فقال ففيم نكفنك؟ قال: في ثيابي [هذه إن][ (1) ] شئتم أو حلة يمانية أو في ثياب مصر.
قال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فكيف الصلاة عليك؟ فبكى وبكى الناس، فقال: مهلا غفر اللَّه لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا إذا أنتم غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري هذا في بيتي هذا على شفة [ (2) ] شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة فإن أولى من يصلي عليّ اللَّه تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ثم يأذن للملائكة في الصلاة على فأول من يدخل عليّ من خلق اللَّه تعالى ويصلي علي جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنود كثيرة، ثم الملائكة بأجمعها، ثم أنتم فادخلوا عليّ أفواجا، وزمرة، وسلموا تسليما ولا تؤذوني بتزكية، ولا صيحة، ولا رنة، وليبتدئ بالصلاة عليّ رجال [ (3) ] أهل بيتي ثم النساء ثم الصبيان.
قال- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- فمن يدخلك قبرك؟ قال إن من أهل بيتي الأدنى فالأدنى، مع ملائكة كثير لا ترونهم وهم يرونكم، قوموا فأدوا عليّ إلى من بعدي، فقلت: من حدثك هذا؟ فقال: عبد اللَّه بن مسعود- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وإنما ذكرت هذا الحديث من طريق سيف لأن لأن سياقته أتم من سياقة الجماعة.
واحتج من ذهب إلي أنه نص على استخلاف أبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- بعده على الأمة نصا جليا بوجوه: قال أبو محمد بن حزم منها: إطباق الأمة المهاجرون والأنصار على أن سموه خليفة رسول اللَّه
[ (1) ] زيادة للسياق من (ابن سعد) : 2/ 257.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] ما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (خ) واستدركناه من (ابن سعد) .
معنى الخليفة في اللغة الّذي يستخلفه المرء، ومحال أن يبعثوا بذلك الاستخلاف على الصلاة لوجهين ضروريين:
أحدهما: أنه لم يستحق هذا الاسم في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد كان استخلفه على الصلاة.
والثاني: أن كل من استخلفه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حياته كعليّ بن أبى طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- في في غزوة الخندق، وكعثمان بن عفان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أو غيره في غزوة الرقاع، وغيرهم ممن استخلفه صلى الله عليه وسلم على المدينة في غزواته، كعتاب بن أسيد- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- وسائر من استخلف على البلاد لم يستحق أحد منهم بلا خلاف من أحد من الأمة أن يسمى خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لصح بالضرورة التي لا يحيد عنها، إطلاقه بعده على الأمة الممتنع أن يجمعوا على ذلك وهو صلى الله عليه وسلم لم يستخلفه نصا، ولو لم يكن هاهنا إلا استخلافه إياه على الصلاة ما كان أبو بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- أولى بهذه التسمية من سائر من ذكرنا.
قال أبو محمد: وهذا برهان ضروري يعارض به جميع الخصوم، وأيضا
فإن الرواية قد أصبحت بأن امراة قالت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا رسول اللَّه! أرأيت إن رجعت ولم أجدك- كأنما تريد الموت- قال: فأتي أبا بكر.
قال المؤلف: أبو محمد بن حزم يسير إلى ما خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، من حديث إبراهيم بن سعد قال: أخبرنى أبى عن محمد بن جبير ابن مطعم عن أبيه- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: أتت النبي امرأة فكلمته في شيء، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: يا رسول اللَّه! أرأيت إن جئت فلم أجدك- كأنها تريد الموت- وقال مسلم أي كأنها تعنى الموت قال صلى الله عليه وسلم إن لم تجديني فأتي أبا بكر.
ذكره البخاري في كتاب الأحكام [ (1) ] وذكره مسلم في المناقب [ (2) ]
[ (1) ](فتح الباري) : 13/ 255 كتاب الأحكام، باب (51) الاستخلاف حديث رقم (7220) .
[ (2) ](مسلم بشرح النووي) : 15/ 163، كتاب فضائل الصحابة باب (1) من فضائل أبي بكر الصديق- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه حديث رقم (2386) .
قال أبو محمد: وهذا نص على الاستخلاف لأبي بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى.
وأيضا
فذكر ما خرجه البخاري: حدثنا يحيي بن يحيي قال: أخبرنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال: سمعت القاسم بن محمد قال: قالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها: وا رأساه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك.
فقالت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- وا ثكلياه واللَّه إني لأظنك تحب موتى، ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أنا وا رأساه، لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون، أو يتمني، المتمنون ثم قلت: يأبى اللَّه ويدفع المؤمنون، أو يدفع اللَّه ويأبى المؤمنون ذكره في كتاب المرضى [ (1) ]، في باب قول المريض: إني وجع أو وا رأساه أو اشتد بي الوجع.
وخرج مسلم في المناقب [ (2) ] من حديث صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها-: قالت قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعى لي أبا بكر أباك، وأخاك، حتى أكتب كتابا فإنّي أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى اللَّه والمؤمنون إلا أبا بكر.
وخرج أبو داود الطيالسي من حديث عبد العزيز بن رافع عن ابن أبي مليكة، عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- قالت: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مرضه الّذي مات فيه: ادعى لي عبد الرحمن بن أبي بكر أكتب لأبى بكر كتابا لا يختلف عليه أحد بعدي، ثم قال: دعيه، معاذ اللَّه أن يختلف المؤمنون في أبي بكر.
قال أبو محمد: فهذا نص في استخلافه أبا بكر- رضي اللَّه تبارك
[ (1) ](فتح الباري) : 10/ 152، حديث رقم (5666) .
[ (2) ](مسلم بشرح النووي) : 15/ 163، 164 حديث رقم (2387) .
وتعالى عنه- على ولاية الأمة بعده ولو أن يستخير من التدليس والغش، الأمر الّذي لو ظفر به خصومنا إذا طعنوا عندنا من طريق النقل ونعوذ باللَّه من الاحتجاج بما لا يصح، وقد أغنى اللَّه تعالى أمتي بالزاهدين عن الإقناع وهذا الّذي ذكرنا لا يعارض بنقل موقوف على من دون النبي صلى الله عليه وسلم كالذي روى من قول عمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه-: ألا استخلف، فقال لم يستخلف من هو خير مني، فمن المحال أن يغار من إجماع جميع الصحابة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- على أن أبا بكر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- ومثله عن عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها، مما لو صح كان له وجه من أيهما زاد عن كتاب بذلك، أو ما أشبهه، وفي نص القرآن الكريم دليل واضح وبرهان على وجوب الطاعة بخلافة أبى بكر وعمر وعثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- وهو أن اللَّه تعالى قال مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم في الأعراب:
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [ (1) ] وكان نزول سورة براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بثلاث، وهي الغزاة التي تخلف فيها الثلاثة المعتذرون الذين تاب اللَّه عليهم في سورة براءة، ولم يغزو صلى الله عليه وسلم بعد تبوك إلى أن مات.
وقال تعالى في مكان آخر: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [ (2) ] فبين تعالى أن الأعراب لا يغزون مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد تبوك أبدا، ثم عطف تعالى منعه إياهم من الغزو مع رسول، فقال تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [ (3) ] .
[ (1) ] التوبة: 83.
[ (2) ] الفتح: 15.
[ (3) ] الفتح: 16.
فأخبرهم تعالى أنهم سيدعوهم غير النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون، ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك الأجر الحسن، ووعدهم على عصيانه بالعذاب الأليم وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى قتال قوم يسلمون إلا أبو بكر، ثم عمر وعثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم-، فإن هؤلاء دعوهم إلى قتال: من بدا للعرب والفرس والروم ووجوب طاعة أبي وعمر وعثمان- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- بنصّ القرآن الّذي لا يحتمل تأويلا.
وزاد: قد وجبت طاعتهم فرضا، فقد صحت إمامتهم وخلافتهم، وليس هذا بموجب تقليدهم بغير ما أمر اللَّه تعالى فيه بطاعتهم من سائر ما أفتوا فيه باجتهادهما، إذ ليس يجب طاعة الإمام إلا فيما نصّه اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقط، لا فيما لا نصّ فيه، ولا أوجبوهم- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- قط طاعتهم فرضا في غير، ذلك فارتفع الإشكال.
وأيضا فهذا إجماع من الأمة كلها إذ ليس أحد إلا وخالف بعض فتاويه هؤلاء الثلاثة، فصح إجماع الأمة على ما ذكرناه.