الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما شهادة الأساقفة للمصطفى صلى الله عليه وسلم بأنه النبي الّذي كانوا ينتظرونه وامتناع من أراد ملاعنته من ذلك
فقال يونس عن إسحاق: وفد على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران بالمدينة، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: لما قدم وفد نجران على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه مسجده بعد العصر فحانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
حدثني بريدة بن سفيان، عن ابن السلماني، عن كرز بن علقمة قال: قد قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران [ (1) ] ستون راكبا، منهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، و [في الأربعة عشر] منهم [ثلاثة] نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب، أمير القوم وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذين لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره واسمه عبد المسيح والسيد لهم، ثمالهم [ (2) ] وصاحب رحلهم ومجتمعهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة، أحد بني بكر بن وائل، أسقفهم وحبرهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم [ (3) ] .
وكان أبو حارثة قد شرف فيهم، ودرس كتبهم، حتى حسن عمله في دينهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه، ومولوه، وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من عمله واجتهاده في دينهم.
فلما رجعوا [ (4) ] إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من نجران جلس أبو حارثة على بغله له موجها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإلى جنبه أخ له يقال له: كرز بن علقمة حتى إذا
[ (1) ] نجران: عرفت بنجران بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وأما أهلها فهم: بنو الحارث ابن كعب من مذحج.
[ (2) ] ثمال القوم: من يرجعون إليه ويقوم بأمرهم، وقد قيل في النبي صلى الله عليه وسلم:
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
[ (3) ] المدارس: المكان الّذي يدرسون فيه كتبهم، كذلك من يدرس لهم.
[ (4) ] في (الأصل) : «وجهوا» .
عثرت بغلة أبي حارثة، فقال كرز [ (1) ] : تعس الآبعد: يريد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو حارثة: وأنت تعست! فقال له: ولم يا أخى؟ فقال: واللَّه إنه للنبيّ الّذي كنا ننتظر، قال له كرز: فما يمنعك وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا، ومولونا، وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كما ترى، فأضمر علينا منه أخوه كرز بن علقمة، حتى أسلم بعد ذلك. [فهو كان يحدث عنه هذا الحديث فيما بلغني][ (2) ] .
حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير عن عكرمة، عن ابن عباس- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- قال:
اجتمعت نصارى نجران، وأحبار يهود عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى، ما كان إبراهيم إلا نصرانيا، فأنزل اللَّه- عز وجل فيهم: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ* ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [ (3) ]
فقال أبو رافع القرظي حين اجتمع عنده النصارى والأحبار: فدعاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، [قالوا] أتريد منايا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: وذلك تريد يا محمد، وإليه تدعو؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معاذ اللَّه أعبد غير اللَّه أو آمر بعبادة غيره! ما بذلك بعثني ولا أمرني،
فأنزل اللَّه- عز وجل في ذلك قوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ (4) ] ،
[ (1) ] في (ابن هشام) : «كوز» .
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (ابن هشام) .
[ (3) ] آل عمران: 65- 68.
[ (4) ] آل عمران: 79- 80.
ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه إذا هو جاءهم وإقرارهم به على أنفسهم، فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
حدثني محمد بن أبي أمامه قال: لما وقد أهل نجران على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسألونه عن عيسى ابن مريم- عليه السلام نزلت فيهم فاتحة آل عمران إلى رأس الثمانين [ (1) ] .
وقال يونس بن بكير، عن سلمة بن عبد يشوع، عن أبيه، عن جده، قال يونس- وكان نصرانيا فأسلم-: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن تنزل عليه: طس* تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ [ (2) ] باسم إليه إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد النبي رسول اللَّه إلى أسقف نجران وأهل نجران: إن أسلمتم، فإنّي أحمد إليكم اللَّه، إليه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة اللَّه من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية اللَّه من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد أذنتكم بحرب آذنتكم.
والسلام.
فلما أتى الأسفل الكتاب وقرأه فظع به وذعره ذعرا شديدا، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له: شرحبيل بن وداعة، وكان من همدان ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأيهم، ولا السيد، ولا العاقب، فدفع الأسقف كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل فقرأه، فقال للأسقف: يا أبا مريم! ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد اللَّه إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة، فما يؤمن من أن يكون هذا هو ذلك الرجل، ليس لي في النبوة رأي،
[ (1) ](دلائل البيهقيّ) : 5/ 384- 385، باب وفد نجران وشهادة الأساقفة لنبينا صلى الله عليه وسلم بأنه الّذي كانوا ينتظرونه، وامتناع من امتنع منهم من الملاعنة، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (2) ] النمل: 1- 2، وقد في هذه الرواية هذا، وقال: قبل أن ينزل علي. طس* تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ وذلك غلط على غلط، فإن هذه السورة مكية باتفاق، وكتابه إلى نجران بعد مرجعه من تبوك، (زاد المعاد لابن القيم) .
لو كان أمر من أمر الدنيا أشرت عليك فيه، وجهدت لك، فقال له الأسقف:
تنحّ فاجلس، فتنحّى شرحبيل فجلس ناحية.
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له: عبد اللَّه بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير، فأقرأه الكتاب، وسأله عن الرأي فيه، فقال مثل قول شرحبيل وعبد اللَّه، فأمره الأسقف فتنحى، فجلس ناحية.
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه، فقال له مثل قول شرحبيل وعبد اللَّه، فأمره الأسقف فتنحى، فجلس ناحية.
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جمعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت المسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار، وإذا كان فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمع حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي يوم للراكب السريع وفيه ثلاث وسبعون قرية ومائة وعشرون ألف مقاتل، فقرأ عليهم كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأي فيه، فاجتمع رأي أهل الوادي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمدانيّ، وعبد اللَّه بن شرحبيل الأصبحي، وحبار بن فيض الحارثي، فيأتونهم بخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم، ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة، وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسلموا عليه، فلم يرد عليهم السلام، وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحال والخواتيم الذهب، فانطلقوا يبتغون عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- وكانا معرفة لهم، كانا يجدعان العتائر إلى نجران في الجاهلية فيشتري لهما من بزّها وتمرها وذرتها، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس
فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن! إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا، فأعيانا أن يكلمنا، فما الرأي منكما؟ أنعود أم نرجع؟ فقالا لعلي بن أبي طالب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه وهو في القوم-: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟
فقال علي لعثمان ولعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم، ويلبسوا ثياب سفرهم، ثم يعودون إليه، ففعل وفد نجران ذلك فوضعوا حللهم
وخواتيمهم، ثم عادوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسلموا فرد سلامهم، ثم قال: والّذي بعثني بالحق لقد آتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم.
ثم ساءلهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى يسرنا إن كنت نبيا أن نعلم ما نقول فيه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركما بما يقال في عيسى.
فأصبح الغد، وقد أنزل اللَّه- تعالى- هذه الآية: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [ (1) ] .
فأبوا أن يقروا بذلك، فلما أصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشى عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: يا عبد اللَّه بن شرحبيل ويا جبار بن فيض قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي وإني واللَّه أرى أمرا مقبلا، إن كان هذا الرجل ملكا مبعوثا فكنا أول العرب طعن في عينه، ورد عليه أمره، لا يذهب لنا من صدر ولا من صدور قومه حتى يصيبونا بجائحة وإنا لأدنى العرب منهم جوارا، وإن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك، فقال له صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم؟ فقد وضعتك الأمور على ذراع، فهات رأيك، فقال: رأيي أن أحكمه فإنّي أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا، فقالا له: إذا أنت وذاك.
فتلقى شرحبيل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك، فقال: وما هو؟ قال شرحبيل: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلي الصباح فمهما حكمت فينا جائز، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لعل وراءك أحد يثرّب عليك، فقال شرحبيل: سل صاحبيّ، فسألهما، فقالا له: ما يرد الوادي أحد منا ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كافر، أو قال: جاحد موفق.
[ (1) ] آل عمران: 59- 61.
فرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يلاعنهم [ (1) ] حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما كتب محمد النبي رسول اللَّه لنجران إذا كان عليهم حكمة في كل ثمرة، وكل صفراء، وبيضاء، وسوداء، ورقيق وأفضل عليهم وترك ذلك كله على ألفي حلة، حلل الأواقى في كل رجب ألف حلة وفي كل صفر، ألف حلة لكل حلة أوقية من الفضة فما زادت الخراج أو نقصت على حال الأواقى فبالحساب وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عروض أخذ منهم بالحساب، وعلى نجران مؤنة رسلي ومتعتهم ما بين عشرين فدونه ولا يحبسنّ رسلي فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، إذا كان كيد ومعرة وما هلك مما أعاروا رسلي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضمان على رسلي حتى يؤدوه إليهم، ولنجران وحاشيتها جوار اللَّه وذمة محمد النبي على أنفسهم، وملتهم، وأراضيهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، وبيعهم وأن لا يغيروا مما كانوا عليه ولا يغيّر حق من حقوقهم، ولا ملتهم، ولا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا واقها من وقيهاه، وكل ما ما تحت أيديهم من قليل أو كثير وليس عليهم دنية، ولا دم جاهلية، ولا يحشرون، ولا يعشرون، ولا يطأ أراضيهم جيش، ومن سأل فيهم حقا فبينهم النّصف غير ظالمين، ولا مظلومين بنجران، ومن أكل ربا من ذي قبل فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار اللَّه وذمة محمد النبي صلى الله عليه وسلم أبدا حتى يأتي اللَّه بأمره، وما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم.
شهد أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف من بني نصر، والأقرع بن حابس الحنظليّ، والمغيرة [ (2) ] ، وكتب. حتى إذا قبضوا كتابهم انصرفوا إلى نجران فتلقاهم الأسقف ووجوه نجران على مسيرة ليلة من نجران، ومع الأسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له: بشر
[ (1) ] كذا (بالأصل)، وفي (الدلائل) :«فرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يلاعنهم» .
[ (2) ] زاد ابن سعد: «وعامر مولى أبي بكر، وفي (الخراج) لأبي يوسف: أن الّذي كتب لهم هذا الكتاب: عبد اللَّه بن أبي بكر، وفي (الأموال) لأبي عبيد: شهد بذلك عثمان بن عفان ومعيقب.
ابن معاوية وكنيته: أبو علقمة، فدفع الوفد كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الأسقف فبينما هو يقرأه وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته فتعّس بشر غير أنه لا يكنى عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال له الأسقف، عند ذلك: قد واللَّه تعست نبيا مرسلا، فقال بشر: لا جرم واللَّه لا أحل عنها عقدا حتى آتية، فضرب وجه ناقته نحو المدينة وثني الأسقف ناقته عليه، فقال له: افهم عني، إنما قلت هذا ليبلغ عني العرب مخافة أن يروا أنا أخذنا حقه أو نصرته بضربة أو بخعنا لهذا الرجل بما لم تبخع به العرب، ونحن أعزهم وأجمعهم دارا، فقال له بشر: واللَّه ما أقبل ما خرج من رأسك أبدا فضرب بشر ناقته وهو مولّي الأسقف ظهره وهو يقول فيه شعرا.
حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ولم يزل مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى استشهد أبو علقمة بعد ذلك. ودخل وفد نجران فأتى الراهب ليث بن أبي شمر الزبيدي وهو في رأس صومعة، فقال له: إن نبيا بعث بتهامة، وأنه كتب إلى الأسقف، فأجمع رأي أهل الوادي على أن يسيروا إليه شرحبيل بن وداعة، وعبد اللَّه بن شرحبيل، وحبّار بن فيض فيأتونهم بخبره، فساروا حتى أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الملاعنة، فكرهوا ملاعنته، وحكّمه شرحبيل فحكم عليهم حكما وكتب لهم به كتابا، ثم أقبل الوفد بالكتاب حتى دفعوه إلى الأسقف، فبينما الأسقف يقرؤه وبشر معه إذ كبت ببشر ناقته فتعّسه، فشهد الأسقف له أنه نبيّ مرسل، فانصرف أبو علقمة نحوه يريد الإسلام، فقال الراهب: أنزلوني وإلا رميت نفسي من هذه الصومعة، فأنزلوه، فانطلق الراهب بهدية إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معها هذا البرد الّذي يلبسه الخلفاء، والقعب، والعصا، وأقام الراهب بعد ذلك يسمع كيف ينزل الوحي، والسنن، والفرائض، والحدود، وأبي اللَّه للراهب الإسلام فلم يسلم،
واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجعة إلى قومه فأذن له وقال له صلى الله عليه وسلم: يا راهب لك حاجتك إذا أبيت الإسلام، فقال له الراهب: إن لي حاجة ومعاذ اللَّه إن شاء اللَّه، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن حاجتك واجبة يا راهب فاطلبها إذا كان أحبّ إليك، فرجع إلى قومه فلم يعد حتى قبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وأن الأسقف أبا الحارث أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعه السيد والعاقب ووجوه قومه، فأقاموا عنده يسمعون ما ينزل اللَّه- عز وجل عليه، فكتب للأسقف هذا الكتاب ولأساقفة نجران: بسم اللَّه الرحمن الرحيم من محمد النبي للأسقف أبي الحارث وكل أساقفة نجران، وكنهتهم، ورهبانهم، وبيعهم، وأهل
بيعهم، ورقيقهم، وملتهم، ومتواطئهم، وعلى كل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، جوار اللَّه ورسوله، ولا يغير أسقف من أسقفته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغيّر حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا مما كانوا عليه، على ذلك جوار اللَّه ورسوله أبدا ما نصحوا للَّه أو أصلحوا غير مثقلين بظلم ولا ظالمين،
وكتب المغيرة بن شعبة.
فلما قبض الأسقف الكتاب استأذن في الانصراف إلى قومه ومن معه، فأذن لهم، فانصرفوا حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم [ (1) ] قال: وقد تقدم حديث يونس بن بكير في ذكر الكتب النبويّة.
قال كاتبه قد وقع في (صحيحي البخاريّ ومسلم) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: جاء السيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، فقال: أحدهما لصاحبه: لا تفعل فو اللَّه إن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف له أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة [ (2) ] .
ولهما من طريق شعبة [ (3) ] قال: سمعت أبا إسحاق يحدث عن صلة بن زفر عن حذيفة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- قال: جاء أهل نجران إلى رسول
[ (1) ](دلائل البيهقيّ) : 5/ 385- 391.
[ (2) ](فتح الباري) : 8/ 117، كتاب المغازي، باب (73) قصة أهل نجران، حديث رقم (4380) .
[ (3) ](المرجع السابق) : حديث رقم (4381) قوله: جاء السيد والعاقب صاحبا نجران «أما السيد فكان اسمه الأيهم بتحتانية ساكنة، ويقال: شرحبيل، وكان صاحب رحالهم ومجتمعهم ورئيسهم في ذلك وأما العاقب فاسمه عبد المسيح، وكان صاحب شورتهم، وكان معهم أيضا أبو الحارث ابن علقمة أسقفهم، وحبرهم، وصاحب مدارسهم.
قال ابن سعد: دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام. وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، فقال: إن أنكرتم ما أقول فهلم أباهلكم.
فانصرفوا على ذلك.
اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث إلينا رجلا أمينا، فقال لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين قال فاستشرف له الناس، قال: فبعث أبو عبيدة بن الجراح، قال البخاريّ:
حق أمين مرة واحدة.
وخرجه مسلم من حديث سفيان عن أبي إسحاق بهذا الإسناد نحوه، واللَّه- سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
[ () ] وفي قصة أهل نجران من الفوائد: أن إقرار الكافر بالنّبوّة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام. وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحته. وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصرّ بعد ظهور الحجة. وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعيّ، ووقع ذلك لجماعة من العلماء من العلماء. ومما عرف بالتجربة أن من باهل مبطلا لا تمضى عليه من يوم المباهلة. ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين.
وفيها مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المالي، ويجرى ذلك مجرى ضرب الجزية عليهم، فإن كلا منها مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام.
وفيها بعث الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام. وفيها منقبة ظاهرة لأبى عبيدة بن الجرام رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه.
وقد ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم وجزيهم، هذه القصة فير قصة أبي عبيدة، لأن أبا عبيدة توجه لهم فقبض مال الصلح ورجع، وعليّ أرسله النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقبض منهم ما استحق عليهم من الجزية، ويأخذ ممن أسلم منهم وجب عليه من الصدقة واللَّه تعالى أعلم. (فتح الباري) .
وأخرجه أيضا البيهقي في (دلائل النبوة) : 5/ 392، باب وفد نجران وشهادة الأساقفة لنبينا صلى الله عليه وسلم بأنه النبي الّذي كانوا ينتظرونه، وامتناع من امتنع منهم من الأساقفة لنبينا صلى الله عليه وسلم بأنه النبي الّذي كانوا ينتظرونه، وامتناع من امتنع منهم الملاعنة، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة، وكذلك رواه ابن هشام في (السيرة) ، وان سعد في (الطبقات) .