الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فيما يلزم من دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من الأدب سوى ما قدمناه وفضله وفضل الصلاة فيه وفي مسجد مكة، وذكر قبره ومنبره، وفضل سكنى المدينة ومكة
قال اللَّه تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي مسجد هو؟ قال: مسجدي هذا،
وهو قول ابن المسيب وزيد بن ثابت وابن عمر ومالك بن أنس وغيرهم، وعن ابن عباس أنه مسجد قباء.
حدثنا هشام بن أحمد الفقيه بقراءتي عليه قال: حدثنا الحسين بن محمد الحافظ حدثنا أبو عمر النمري حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن حدثنا أبو بكر بن داسة حدثنا أبو داود، حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب، عن أبي هريرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تشد الرحال إلا إلي ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى.
وقد تقدمت الآثار في الصلاة والسلام علي النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد.
وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ باللَّه العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم.
وقال مالك رحمه الله: سمع عمر بن الخطاب رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- صوتا في المسجد، فدعا بصاحبه فقال: ممن أنت؟ قال: رجل من ثقيف، قال لو كنت من هاتين القريتين لأدبتك، إن مسجدنا لا يرفع فيه الصوت.
قال محمد بن مسلمة: لا ينبغي لأحد أن يتعمد المسجد برفع الصوت، ولا بشيء من الأذى، وأن ينزه عما يكره، قال القاضي: حكي ذلك كله القاضي إسماعيل في (مبسوطه) في باب فضل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. والعلماء كلهم متفقون أن حكم سائر المساجد هذا الحكم.
قال القاضي إسماعيل: وقال محمد بن مسلمة: ويكره في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم الجهر علي المصلين فيما يخلط عليهم صلاتهم، وليس مما يخص به المساجد رفع الصوت، قد كره رفع الصوت بالتلبية في مساجد الجماعات إلا المسجد الحرام ومسجدنا.
وقال أبو هريرة- رضي الله عنه قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: صلاة في
مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام،
قال القاضي:
اختلف الناس في معنى هذا الاستثناء على اختلافهم في المفاضلة بين مكة والمدينة، فذهب مالك في رواية أشهب عنه وقاله ابن قانع صاحبه وجماعة من أصحابه إلى أن معني الحديث أن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة فيه بدون الألف، واحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه، فتأتي فضيلة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بتسعمائة، وعلي غيره بألف، وهذا مبنيّ على تفضيل المدينة علي مكة على ما قدمناه، وهو قول عمر بن الخطاب، ومالك، وأكثر المدنيين، وذهب أهل مكة والكوفة إلي تفضيل مكة وهو قول عطاء، وابن وهب وابن حبيب من أصحاب مالك، وحكاه الساجي عن الشافعيّ، وحملوا الاستثناء في الحديث المتقدم على ظاهره، وأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل، واحتجوا بحديث عبد اللَّه بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي هريرة، وفيه: وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة، وروى قتادة مثله، فيأتي فضل الصلاة في المسجد الحرام علي هذا، على الصلاة في سائر المساجد بمائة ألف، ولا خلاف أن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض.
قال القاضي أبو الوليد الباجي: الّذي يقتضيه الحديث مخالفة حكم مسجد مكة لسائر المساجد، ولا يعلم منه حكمها مع المدينة.
وذهب الطحاوي إلى أن هذا التفضيل إنما هو في صلاة الفرض، وذهب مطرف من أصحابنا إلى أن ذلك في النافلة أيضا، قال: وجمعة خير من جمعة، ورمضان خير من رمضان،
وقد ذكر عبد الرزاق في تفضيل رمضان بالمدينة وغيرها حديثا نحوه، وقال صلى الله عليه وسلم: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة،
ومثله عن أبي هريرة وأبي سعيد، وزاد: ومنبري على حوضي، وفي حديث آخر: منبري على ترعة من ترع الجنة.
قال الطبري: فيه معنيان:
أحدهما: أن المراد بالبيت بيت سكناه على الظاهر مع أنه روي ما بين حجرتي ومنبري.
والثاني: أن البيت هنا القبر، وهو قول زيد بن أسلم في هذا الحديث، كما روي: بين قبري ومنبري. قال الطبري: وإذا كان قبره في بيته اتفقت
معاني الروايات، ولم يكن بينها خلاف، لأن قبره في حجرته، وهو بيته.
وقوله: ومنبري على حوضي، قيل: يحتمل أنه منبره بعينه الّذي كان في الدنيا، وهو أظهر. والثاني: إلا أن يكون له هناك منبر، والثالث إن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد الحوض ويوجب الشرب منه، قاله الباجي.
وقوله: روضة من رياض الجنة يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه موجب لذلك وأن الدعاء والصلاة فيه يستحق ذلك من الثواب، كما قيل: الجنة تحت ظلال السيوف، والثاني: أن تلك البقعة قد ينقلها اللَّه فتكون في الجنة بعينها قاله الداوديّ.
وروى ابن عمر وجماعة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المدينة: لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة، وقال فيمن تحمل عن المدينة: والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.
وقال: إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها.
وقال: لا يخرج أحد من المدينة رغبة عنها إلا أبدلها اللَّه خيرا منه.
وروى عنه صلى الله عليه وسلم: من مات في أحد الحرمين حاجا أو معتمرا بعثه اللَّه يوم القيامة لا حساب عليه ولا عذاب. وفي طريق آخر: بعث من الآمنين يوم القيامة،
وعن ابن عمر: من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإنّي أشفع لمن يموت بها، وقال تعالي: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً إلى قوله: آمِناً قال بعض المفسرين: آمنا من النار، وقيل: كان يأمن من الطلب من أحدث حدثا خارجا عن الحرم ولجأ إليه في الجاهلية، وهذا مثل قوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً على قول بعضهم.
وحكي أن قوما أتوا سعدون الخولانيّ بالمنستير فأعلموه أن كتامة قتلوا رجلا وأضرموا عليه النار طول الليل فلم تعمل فيه شيئا، وبقي أبيض البدن! فقال: لعله حج ثلاث حجج، قالوا: نعم، قال: حدثت أن من حج حجة أدى فرضه، ومن حج ثانية داين ربه، ومن حج ثلاث حجج حرم اللَّه شعره وبشره على النار.
ولما نظر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قال: مرحبا بك من بيت ما أعظمك وأعظم حرمتك.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: ما من أحد يدعو اللَّه تعالي عند الركن الأسود إلا استجاب اللَّه له، وكذلك عند الميزاب.
وعنه صلى الله عليه وسلم: من صلى خلف
المقام ركعتين غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وحشر يوم القيامة من الآمنين.
قال الفقيه القاضي أبو الفضل: قرأت على القاضي الحافظ أبي علي، حدثنا أبو العباس العذري قال: حدثنا أبو أسامة محمد بن أحمد بن محمد الهروي، حدثنا الحسن بن رشيق، سمعت أبا الحسن محمد بن الحسن بن راشد، سمعت أبا بكر محمد بن إدريس، سمعت الحميدي قال: سمعت سفيان ابن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما دعا أحد بشيء في هذا الملتزم إلا استجيب له.
قال ابن عباس: وأنا فما دعوت اللَّه بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إلا استجيب لي.
وقال عمرو بن دينار: وأنا، فما دعوت اللَّه تعالى بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من ابن عباس إلا استجيب لي، وقال سفيان: وأنا فما دعوت اللَّه بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من عمرو إلا استجيب لي، قال الحميدي: وأنا فما دعوت اللَّه بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من سفيان إلا استجيب لي، وقال محمد بن إدريس: وأنا، فما دعوت اللَّه بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من الحميدي إلا استجيب لي، وقال أبو الحسن محمد بن الحسن: وأنا، فما دعوت اللَّه بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من محمد ابن إدريس إلا استجيب لي. قال أبو أسامة: وما أذكر الحسن بن رشيق قال فيه شيئا، وأنا، فما دعوت اللَّه بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من الحسن بن رشيق إلا استجيب لي من أمر الدنيا، وأنا أرجو أن يستجاب لي من أمر الآخرة. قال العذري: وأنا، فما دعوت اللَّه بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من أبي أسامة إلا استجيب لي، قال أبو علي: وأنا، فقد دعوت اللَّه فيه بأشياء كثيرة استجيب لي بعضها، وأنا أرجو من سعة فضله أن يستجيب لي بقيتها.
قال القاضي أبو الفضل: ذكرنا نبذا من هذه النكت في هذا الفصل وإن لم تكن من الباب، لتعلقها بالفصل الّذي قبله حرصا على تمام الفائدة واللَّه الموفق للصواب برحمته. انتهى كلام القاضي عياض.
وقال: ابن زبالة: وحدثني غير واحد، عن: عبد العزيز بن أبي حازم، ونوفل بن عمار، قالوا: إن كانت عائشة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنها- لتسمع صوت الوتد يؤتد، والبناء يضرب في بعض الدور المطمئنة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال: وقد ذكرنا عمر بن عبد العزيز بالمسجد النبوي، فبينا أولئك العمال يعملون في المسجد وما إن خلا لهم المسجد فقال بعض أولئك العمال من الروم: ألا أبول على قبر نبيهم؟ فنهاهم عن ذلك بعض أصحابهم، فلما همّ أن يفعل، اقتلع فألقي على رأسه فانتتر دماغه وأسلم بعض أولئك النصارى، وقد ذكر أن أبا الفتوح بن جعفر بن محمد الحسيني أمير مكة أمره خليفة مصر في سنة تسعين وثلاثمائة أن يتوجه إلي المدينة وينقل الجند المعظم إلى مصر، وبعث إليه عسكرا، فقده المدينة وأزال من حوله من بني مهنا الحيثيون عنها، ودخل الحجرة الشريفة ليمضي ما عزم عليه، فقام رجل فقرأ قوله تعالى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ (1) ] حتى تجيء سحابه خرج منها ريح عاصف ظلمت منه المدينة وما حولها وقويت حتى كادت تقتلع المنارات وهلك معظم العسكر ودواوينهم فكف أبو الفتوح عما قصده وعاد الى مكة.
وقد ذكر الحافظ محب الدين أبو عبد اللَّه محمد بن محمود بن الحسن المعروف باسم ابن النجار رحمه الله هذا الخبر في (تاريخه) فقال أيضا: أخبرنا أبو محمد عبد اللَّه بن المبارك المقدسي عن أبي المعالي صالح بن شافع الحنبلي، قال: أنبأنا القاسم بن عبد اللَّه بن محمد المقدسيّ المعلم، حدثنا أبو القاسم عبد الحكيم بن محمد المغربي، قال: إن بعض الزنادقة أشار على الحاكم العبيدي صاحب مصر بنقل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه إلى مصر، وزين له ذلك وقال:
متى تم ذلك شد الناس رحالهم من أقطار الأرض إلى مصر، وكانت منفعة لسكانهم، فأجابه الحاكم في ذلك، وبني بمصر [مسجدا] أنفق عليه مالا جزيلا قال: وبعث إلى أبي الفتوح [
…
] الموضع الشريف، وحمله، فلما وصل إلى المدينة وجلس بها حضر جماعة من المدينتين وقد علموا ما جاء فيه، وحضر معهم قارئ يعرف [بالألباني] فقرأ في المجلس: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ إلى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ (2) ] فهاج الناس وكادوا يقتلون أبا الفتوح ومن معه من الجند، ومنعهم من سارع إلى ذلك، إلا أن البلاد كانت لهم، لما رأى أبو الفتوح ذلك قال لهم: اللَّه أحق أن يخشى، واللَّه لو كان علي من الحاكم فوات الروح ما تعرضت للموضع، وحصل له من ضيق الصدر ما
[ (1) ] التوبة: 13.
[ (2) ] التوبة: 12- 13.
أزعجه، كيف نهض في مثل هذه المحربه؟ فما انتصف النهار في ذلك اليوم حتى أرسل اللَّه تعالى ريحا كادت الأرض تزلزل من فوقها، حتى خرجت الإبل بأثقالها، والخيل بسروجها، كما تدحرج الكرة على وجه الأرض، وهلك أكثرها، وحلق بالناس، فانشرح صدر أبى الفتوح، وذهب روعه من الحاكم لقيام عدد من امتناع ما جاء فيه.
وقال المحب الطبري في كتاب (الرياض النضرة في فضائل العشرة) - رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم-: أخبرني هارون بن الشيخ عمر بن الراغب قال: كنت مجاورا بالمدينة وشيخ الخام إذ ذاك شمس الدين صواب الملطي، وكان رجلا صالحا كثير البر بالفقراء، فقال لي يوما: ما أخبرك بعجبه: كان لي صاحب يجلس عند الأمير ويأتيني من خبره بما يمس حاجتي إليه، فبينا أنا ذات يوم إذ جاءني فقال: أمر عظيم حدث اليوم، قال: قلت: وما هو؟ قال:
جاء قوم من أهل حلب وبذلوا للأمير مالا كثيرا وسألوه أن يمكنهم من فتح الحجرة [النبويّة] وإخراج أبي بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- منها، فأجابهم إلى ذلك، قال: فاهتممت لذلك هما، ولم ألبث أن جاء رسول الأمير يدعوني إليه فأجبته، فقال لي: يدق عليك الليلة أقوام المسجد، فافتح لهم، ومكنهم مما أرادوا ولا تعارضهم، ولا تعترض عليهم، فقلت سمعا وطاعة، وخرجت ولم [أر النوم] اجتمع [وجلست] خلف الحجرة أبكي لا ترقأ لي دمعة، ولا يشعر أحد بما بي، حتى إذا صليت العشاء الآخرة، وخرج الناس من المسجد وغلقنا الأبواب، فلم أنشب أن دق الباب الّذي حدا باب الأمير، ففتحت الباب، فدخل أربعون رجلا أعدهم واحدا بعد واحد، ومعهم المساحي، والمكاتل، والشموع، [وأرادوا] الهدم، وقصدوا الحجرة.
قال: فو اللَّه ما وصلوا المنبر حتى ابتلعتهم الأرض جميعهم، ما كان بينهم من آلات وغير ذلك، ولم يبق لهم أثر، قال: فاستبطأ الأمير خبرهم، فدعاني وقال: ألم يأتك القوم؟ قلت: بلى، ولكن اتفق لهم ما هو كيت وكيت، فقال: انظر ما تقول، قلت: لا هو ذلك، قلت: وانظر هل ترى فيهم باقية أو لهم أثر، فقال لي: هذا موضع الحديث، إن ظهر عنك كان يقطع رأسك. ثم خرجت عنه. انتهى.
وقال الحافظ جمال الدين أبو عبد اللَّه محمد بن أبي جعفر أحمد بن خلف ابن عيسى المرقى الخزرجي الدميني في (تاريخ المدينة) : وصل السلطان الملك
العادل نور الدين محمود بن زنكي في صفر في سنة سبع وخمسين وخمسمائة إلى المدينة بسبب رؤيا رآها، ذكرها بعض الناس ومعه الفقيه علم الدين يعقوب ابن أبى بكر المحترق أبوه ليلة حريق المسجد عن من حدثه عن أكابر من أدرك، أن السلطان محمود المذكور أتى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات في ليلة واحدة وهو يقول له في كل واحدة منها: يا محمود أنقذنى من هذين، شخصين أشقرين تجاهه فاستحضر وزيره قبل الصبح فذكر له ذلك، فقال له: هذا أمر حدث في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ليس له غيرك، فتجهز، وخرج علي عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من رجل وغير ذلك حتى دخل المدينة على غفلة من أهلها، والوزير معه، وزار وجلس في المسجد لا يرى ما يصنع فقال له الوزير: أتعرف الشخصين إذا رأيتهما؟ قال: نعم.
فطلب الناس عامة للصدقة، وفرق عليهم ذهبا كثيرا وفضة، وقال: لا يبقين أحد بالمدينة إلا جاء، فلم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس في الناحية التي تلى قبلة حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد، عند دار عمر بن الخطاب- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه- التي تعرف اليوم بدار العشرة- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهم- فطلبهما للصدقة، فامتنعا وقالا: نحن على كفاية، ما نقبل شيئا.
فجد في طلبهما، فجيء بهما فلما رآهما قال الوزير: هم هذان، فسألهما عن حالهما، وما جاء بهما،
فقالا: جئنا لمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
أصدقاني،
وتكرر السؤال حتى أفضى إلى معاقبتهما، أقرا أنهما من النصارى، وأنهما وصلا لكي ينقلا من في هذه الحجرة المقدسة باتفاق من ملوكهم، ووجدهما قد حفرا نفقا من تحت حائط المسجد القبلي، وهما قاصدان إلى جهة الحجرة الشريفة، ويجعلان التراب في بئر عندهما في البيت الّذي هم فيه، هكذا حدثني عن من حدثه.
فضرب أعناقهما عند الشباك الّذي في شرقيّ حجرة النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد، ثم أحرقا بالنار آخر النهار، وركب متوجها إلى الشام، فصاح به من كان نازلا خارج السور واستعانوا، فطلبوا أن يبني عليهم سورا يحفظ أبناءهم وماشيتهم، فأمر ببناء هذا السور الموجود اليوم، فبني في سنة ثمان وخمسين، وكتب اسمه على باب البقيع، فهو باق إلى اليوم، انتهى.
وفي سنة سبع عشرة وسبعمائة جهز الملك ابن صاحب عراقي والعجم عسكرا مع الشريف خميصة بن أبي نمر الحسني، أمير مكة، وقد عزل ولحق به،
فأركبه وجهزه ليأخذ له مكة مع ملوك مصر مع الحجاز، وأوعز إليه أن يخرج أبا بكر وعمر- رضي اللَّه تبارك وتعالى عنهما- من قبريهما، فصار معه القيطة والمعمارية والآلات، حتى توسط أرض نجد، بلغ الأمير محمد بن معنى خبره، فركب إليه جمع موفور وطرقه ليلا، فاستباح عسكر حرابنده عن آخرهم وفي خميصة وفي طائفة من أصحابه إلى الحجاز، فغنم الأمير محمد جميع ما كان معه، ومضى إلى الشام وكتب إلى نائب الشام يخبره، ثم قدم عليه فحمله إلى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بقلعة الجبل من ديار مصر، فخلع عليه، وولاه إمارة العريف بالشام، بعد أن كان ساخطا عليه.
وتم هذا الكتاب البديع المنال، البعيد المثال، بتمام هذا الجزء [الرابع عشر] وهو المسمى:
إمتاع الأسماع بما للرسول صلى الله عليه وسلم من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع