الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأما قيام مذجح بأمر الأسود العنسيّ
واسمه عيهلة بن كعب بن عوف العنسيّ، بالنون وعنس بطن مذحج، وكان يلقب ذا الخمار لأنه كان معتمدا متخمرا أبدا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع لباذان حين أسلم وأسلم أهل اليمن عمل اليمن جميعه وأمره على جميع مخالفيه، فلم يزل عاملا عليه حتى مات. فلما مات باذان فرق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمراءه في اليمن، فاستعمل عمرو بن حزم على نجران، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران وزبيد، وعامر بن شهر على همدان، وعلي صنعاء شهر بن باذان، وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة، وعلى مأرب أبا موسى، وعلى الجند يعلي بن أمية، وكان معاذ معلما ينتقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت، واستعمل على أعمال حضرموت زياد ابن لبيد الأنصاري، وعلي السكاسك والسكون عكاشة بن ثور، وعلي بني معاوية بن كندة عبد اللَّه أو المهاجر، فاشتكى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلم يذهب حتى وجهه أبو بكر، فمات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهؤلاء عمالة على اليمن وحضرموت وكان أول من اعترض الأسود الكاذب شهر وفيروز وداذويه وكان الأسود العنسيّ لما عاد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع وتمص [
…
] من السفر غير مرض موته بلاغه ذلك، بلغه النبوة، وكان مشعبذا يريهم الأعاجيب، فاتبعه مذحج، وكانت ردة الأسود أول ردة في الإسلام على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وغزا نجران فأخرج عنها عمرو بن حزم وخالد بن سعيد، ووثب قيس بن عبد يغوث، ابن مكشوح على فروة بن مسيك، وهو على مراد، فأجلاه ونزل منزله، وسار الأسود عن نجران إلى صنعاء، وخرج إليه شهر بن باذان فلقيه، فقتل شهر لخمس وعشرين ليلة من خروج الأسود، وخرج معاذ هاربا حتى لحق بأبي موسي وهو بمأرب فلحقا بحضرموت، ولحق بفروة من قم على إسلامه من مذجح.
واستب للأسود ملك اليمن، ولحق أمراء اليمن إلى الطاهر بن أبي هالة إلا عمرا وخالدا، فإنّهما رجعا إلى المدينة، والطاهر بجبال عك وجبال صنعاء، وغلب الأسود على ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والإحساء إلى عدن واستطار أمره كالحريق، وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهرا سوى الركبان، واستغلظ أمره، وكان خليفته في مذجح عمرو بن
معديكرب، وكان خليفته على جنده قيس بن عبد يغوث، وأمر الأنباء إلى فيروز وداذويه.
وكان الأسود تزوج امرأة شهر بن باذان بعد قتله، وهي ابنة عم فيروز وخاف من بحضرموت من المسلمين أن يبعث إليهم جيشا، أو يظهر بها كذاب مثل الأسود، فتزوج معاذ إلى السكون، فعطفوا عليه. وجاء إليهم وإلي من باليمن من المسلمين كتب النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بقتال الأسود، فقام معاذ في ذلك وقويت نفوس المسلمين، وكان الّذي قدم بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم وبر بن يحنس الأزدي قال حنش الديلميّ: فجاءتنا كتب النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بقتاله إما مصادقة أو غيلة، بعثني إليه وإلى فيروز وداذويه، وأن نكاتب من عنده دين. فعلمنا في ذلك، فرأينا أمرا كثيفا، وكان قد تغير لقيس بن عبد يغوث، فقلنا: إن قيسا يخاف على دمه فهو لأول دعوة، فدعوناه وأبلغناه عن النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما نزلنا عليه من السماء، فأجبنا وكاتبنا الناس. فأخبره الشيطان شيئا من ذلك، فدعا قيسا فأخبره أن شيطانه يأمره بقتله لميله إلى عدوه، فخلف قيس: لأنت أعظم في نفسي من أن أحدث نفسي بذلك. ثم أتانا فقال: يا جنش ويا فيروز ويا داذويه، فأخبرنا بقول الأسود فبينا نحن معه يحدثنا إذا أرسل إلينا الأسود فتهددنا، واعتذرنا إليه ونجونا منه ولم نكد وهو مرتاب بنا ونحن نحذره فبينا نحن على ذلك إذا جاءتنا كتب عامر بن شهر وذي زود وذي مران وذي الكلاع وذي ظليم يبذلون لنا النصر، فكاتبناهم وأمرناهم أن لا يفعلوا شيئا حتى نبرم أمرنا أيضا إلى نجران فأجابوه، وبلغ ذلك الأسود وأحسن بالهلاك قال:
فدخلت على آزار، وهي امرأته التي تزوجها بعد قتل شهر بن باذان، فدعوتها إلى ما نحن عليه وذكرتها قتل زوجها شهر وإهلاك عشيرتها وفضيحة النساء.
فأجابت وقالت: واللَّه ما خلق اللَّه شخصا أبغض إلى منه، ما يقوم للَّه على حق ولا ينتهي عن محرم، فأعلموني أمركم أخبركم بوجه الأمر. قال: فخرجت وأخبرت فيروز وداذويه وقيسا. قال: وإذ قد جاء رجل فدعا قيسا إلى الأسود، فدخل في عشرة من مذحج وهمذان فلم يقدر على ما قتله معهم وقال له: ألم أخبرك الحق وتخبرني الكذب؟ إنه، يعني شيطانه، يقول لي: إلا تقطع من قيسي يده يقطع رقبتك. فقال قيس: إنه ليس من الحق أن أهلك وأنت رسول اللَّه فمرني بما أحببت أو اقتلني، فموته أهون من موتنا. فرق له وتركه، وخرج قيس فمر بنا وقال: اعلموا عملكم. ولم يقعد عندنا- فخرج علينا الأسود في جمع، فقمنا له وبالباب مائة ما بين بقرة وبعير، فنحرها ثم
خلاها ثم قل: أحق ما بلغني عنك يا فيروز؟ - وبوأ له لحرية- لقد هممت أن أنحرك. فقال: اخترتنا لصهرك وفضلته فلو لم تكن نبيا لما بعنا نصيبك منك بشيء فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر الدنيا والآخرة! فقال له: أقسم هذه، فقسمها، ولحق به وهو يسمع سعاية رجل بفيروز وهو يقول له: أنا قاتله غدا وأصحابه، ثم التفت فإذا فيروز فأخبره بقسمتها، ودخل الأسود ورجع فيروز فأخبرنا الخبر، فأرسلنا إلي قيس فجاءنا.
فاجتمعنا على أن أعود إلي المرأة فأخبرها بعزيمتها ونأخذ رأيها، فأتيتها فأخبرتها فقالت: هو متحرز وليس من القصر شيء إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا، فإذا أمسيتم فانقلبوا عليه فإنكم من دون الحرس وليس دون قتله شيء، وستجدون فيه سراجا وسلاحا.
فتلقاني الأسود خارجا من بعض منازله فقال: ما أدخلك علي؟ ووجأ رأسي حتى سقطت، وكان شديدا، فصاحت المرأة فأدهشته، وقالت: جاءني ابن عمي زائرا ففعلت به هذا؟ فتركني، فأتيت أصحابي فقلت: النجاء! الهرب! وأخبرتهم الخبر.
فإنا علي ذلك حياري إذ جاءنا رسولهم يقول: لا تدعن ما فارقتك منها- فعمل، فلما أخبرته قال: ننقب علي بيوت مبطنة، فدخل فاقتلع البطانة وجلس عندها كالزائر، فدخل عليها الأسود فأخذته غيره، فأخبرته برضاع وقرابة منها عنده محرم، فأخرجه، فلما أمسينا عملنا في أمرنا أعلمنا أشياعنا وعجلنا عن مراسلة الهمدانيين والحميريين فنقبنا البيت ودخلنا، وفيه سراج تحت جفنة، واتقينا بفيروز كان أشدنا، فقلت: انظر ماذا ترى، فخرج ونحن بينه وبين الحرس. فلما دنا من باب البيت سمع غطيطا شديدا والمرأة قاعدة، فلما قام على باب البيت أجلسه الشيطان وتكلم على لسانه وقال: ما لي ولك يا فيروز! فخشي إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل فأخذ برأسه فقتله ودق عنقه وضع ركبته في ظهره فدقه ثم قام ليخرج فأخذت المرأة بثوبه وهي تراه انه لم يقتله فقال: قد قتلته وأرحتك منه، وخرج فأخبرنا، فدخلنا معه، فخار كما يخور الثور، فقطعت رأسه بالشفرة، وابتدر الحرس المقصورة يقولون: ما هذا؟ فقالت المرأة: النبي يوحى إليه!
فخمدوا، وقعدنا نأتم بيننا، فيروز ودوادويه وقيس، كيف نخبر أشياعنا، فاجتمعنا على النداء.
فلما طلع الفجر نادينا بشعارنا الّذي بيننا وبين أصحابنا، ففزع المسلمون والكافرون، ثم نادينا بالأذان فقلت: أشهد ان محمد رسول اللَّه وأن عيهلة كذاب! وألقينا إليهم رأسه، وأحاط بنا أصحابه وحرسه وشنوا الغارة وأخذوا صبيانا كثيرة وانتبهوا. فنادينا أهل صنعاء من عنده منهم فأمسكه، ففعلوا. فلما خرج أصحابه فقدوا سبعين رجلا، فراسلونا وأرسلناهم على أن يتركوا لنا ما في أيديهم ونترك ما في أيدينا، ففعلنا، ولم يظفروا منا بشيء، وترددوا ما بين صنعاء ونجران. وتراجع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمالهم، وكان يصلي بنا معاذ بن جبل، وركبنا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بخبره، وذلك في حياته.
وأتاه الخبر من ليلته، وقدمت رسلنا، وقد توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأجابنا أبو بكر. قال ابن عمر: أتي الخبر من السماء إلي النبي صلى الله عليه وسلم، في ليلته التي قتل فيها، فقال: قتل العنسيّ، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين، قيل:
من قتله؟ قال: قتله فيروز.
قيل: كان أول أمر العنسيّ إلي آخره ثلاثة أشهر، وقيل قريب من أربعة أشهر، وكان قدوم البشير بقتله في آخر ربيع الأول بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أول بشارة أتت أبا بكر وهو بالمدينة.
قال فيروز: لما قتلنا الأسود عاد أمرنا كما كان وأرسلنا إلى معاذ بن جبل فصلى بنا ونحن راجون مؤمنون لم يبق شيء نكرهه إلا تلك الخيول من أصحاب الأسود فأتي موت النبي صلى الله عليه وسلم، فانتقضت الأمور واضطربت الأرض [ (1) ] .
[ (1) ](الكامل في التاريخ لابن الأثير) : 336- 341. 3