الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السابع
الْفَصْلُ وَالْوَصْلُ
بَدَأَ بِالْفَصْلِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَالْوَصْلُ طَارٍ عَارِضٌ حَاصِلٌ بِزِيَادَةِ حَرْفٍ.
لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوَصْلُ بمَنزِلَةِ الْمَلَكَةِ وَالْفَصْلُ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِهَا، وَالأَعْدَامُ إِنَّمَا تُعْرَفُ بِمَلَكَاتِهَا = جَرَتْ عَادَةُ عُلَمَاءِ الْمَعَانِيْ بِتَقْدِيْمِ تَعْرِيْفِ الْوَصْلِ؛ فَقَالُوْا:«الْوَصْلُ: عَطْفُ بَعْضِ الْجُمَلِ عَلَى بَعْضٍ، وَالْفَصْلُ: تَرْكُهُ» .
فَإِذَا تَوَالَتْ جُمْلَتَانِ؛ فَـ
* * *
68 - إِنْ نُزِّلَتْ تَالِيَةٌ مِنْ ثَانِيَهْ
…
كَنَفْسِهَا، أَوْ نُزِّلَتْ كَالْعَارِيَهْ
إِنْ نُزِّلَتْ تَالِيَةٌ (1) مِنْ ثَانِيَهْ (2): أَيْ نُزِّلَتِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْأُوْلَى
كَنَفْسِهَا: بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا:
(1) جز: ثالثة، تحريف.
(2)
أي: من جُملةٍ أُخرى سابقةٍ لها. والمقصودُ: (إنْ نُزِّلَت جملةٌ لاحقةٌ من سابقةٍ كنفسِها)، وفي بعض نُسخ المنظومة رواية:(إنْ نُزِّلَتْ تاليةٌ مِن ماضية)، وهذا أجودُ.
1 -
كَمَالُ الِانْقِطَاعِ (1): لِاخْتِلَافِهِمَا خَبَراً وَإِنْشَاءً، لَفْظاً وَمَعْنًى؛ بِأَنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا خَبَراً لَفْظاً وَمَعْنًى، وَالْأُخْرَى إِنْشَاءً لَفْظاً وَمَعْنًى؛ نَحْوُ:[البسيط]
وَقَالَ رَائِدُهُمْ: أَرْسُوْا نَزَاوِلُهَا
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . (2)
لَمْ يَعْطِفْ (نُزَاوِلُهَا) عَلَى (أَرْسُوْا)؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ لَفْظاً وَمَعْنًى، وَ (أَرْسُوْا) إِنْشَاءٌ لَفْظاً وَمَعْنًى. (3)
2 -
أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا كَمَالُ الِاتِّصَالِ:
1 -
لِكَوْنِ الثَّانِيَةِ مُؤَكِّدَةً؛ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ} [البقرة: 2]؛ فَـ (لَا رَيْبَ فِيْهِ) تَابِعٌ لِـ (ذَلِكَ الْكِتَابُ) فَوِزَانُهُ وِزَانُ (نَفْسُهُ) مَعَ (زَيْدٌ) فِيْ: (جَاءَنِيْ زَيْدٌ نَفْسُهُ)(4).
2 -
أَوْ لِكَوْنِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ بَدَلاً مِنَ الْأُوْلَى؛ لِأَنَّ:
(1) كمال الانقطاع (بلا إيهام). وأرادَ النّاظمُ ذِكْرَ مواضعِ الفصل، فبدأ بقولِه:(إِنْ نُزِّلَتْ تَالِيَةٌ مِنْ ثَانِيَهْ كَنَفْسِهَا) مُشيراً إلى كمال الاتّصال بين الجملتين، وسكت عن كمال الانقطاع، فاستدرك الشّارح، ولكنّ عبارتَه تُوهمُ أن مُراد النّاظم بالعبارة هو كمال الانقطاع.
(2)
وهو بتمامه:
وَقَالَ رَائِدُهُمْ: أَرْسُوْا نَزَاوِلُهَا
…
فَكُلُّ حَتْفِ امْرِئٍ يَجْرِيْ بِمِقْدَار
للأخطل في سيبويه 3/ 96، ومعاهد التّنصيص 1/ 271، وليس في ديوانه. وبلا نسبة في مفتاح العلوم ص 379، والإيضاح 3/ 105، وإيجاز الطّراز ص 246، وشرح أبيات المفصّل والمتوسّط ص 516. وبيانه: ناداهم رأسُهم: أقيموا نزاولِ الحربَ ونحاول أمرَها؛ فالبقاءُ والفناءُ بأمر الله.
(3)
وقد يكون كمال الانقطاع معَ اتّفاق الجملتين خبراً وإنشاءً، وذلك عندما لا تُوجَد بينَهما جهةٌ جامعة؛ كأن تقولَ:«زارني أحمدُ، السَّماء صافية» .
(4)
وجهُ الفصلِ هنا وفي بقيّة أقسام كمال الاتّصال هو عدمُ جوازِ عطفِ الشَّيء على نفسِه، أو الجزء على كلِّه.
الْأُوْلَى: غَيْرُ وَافِيَةٍ بِتَمَامِ الْمُرَادِ، أَوْ كَغَيْرِ الْوَافِيَةِ، حَيْثُ يَكُوْنُ فِي الْوَفَاءِ قُصُوْرٌ مَّا أَوْ خَفَاءٌ، بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ؛ فَإِنَّهَا وَافِيَةٌ كَمَالَ الْوَفَاءِ، وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي اعْتِنَاءً بِشَأْنِهِ- أَيْ شَأْنِ الْمُرَادِ - لِنُكْتَةٍ؛ كَكَوْنِهِ مَطْلُوْباً فِيْ نَفْسِهِ؛ نَحْوُ:{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشّعراء: 132 - 134]؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّنْبِيْهُ عَلَى نِعَمِ اللهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِيَ - أَعْنِيْ: (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ) - أَوْفَى بِتَأْدِيَةِ الْمُرَادِ الَّذِيْ هُوَ التَّنْبِيْهُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى نِعَمِ اللهِ بِالتَّفْصِيْلِ مِنْ غَيْرِ إِحَالَةٍ عَلَى عِلْمِ الْمُخَاطَبِيْنَ الْمُعَانِدِيْنَ، فَوِزَانُهُ وِزَانُ (وَجْهُهُ) فِيْ:(أَعْجَبَنِيْ زَيْدٌ وَجْهُهُ)؛ لِدُخُوْلِ الثَّانِيْ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ (مَا تَعْلَمُوْنَ) يَشْمَلُ (الْأَنْعَامَ) وَغَيْرَهَا (1).
3 -
أَوْ لِكَوْنِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ بَيَاناً لَهَا - أَيْ لِلْأُوْلَى - لِخَفَائِهَا؛ نَحْوُ: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]؛ فَإِنَّ وِزَانَ (قَالَ: يَا آَدَمُ) وِزَانُ (عُمَرَ) فِيْ قَوْلِهِ: [الرّجز]
أَقْسَمَ بِاللهِ أَبُوْ حَفْصٍ عُمَرْ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (2)
(1) بدل بعض من كلّ، حيثُ الجملةُ الثّانية فصّلَت بعضَ النِّعَم التي أجملتها الأولى.
(2)
والرَّجَز بتمامه:
أقسَمَ بالله أبو حَفْصٍ عُمَرْ
…
ما إنْ بها مِنْ نَقَبٍ ولا دَبَرْ
اغفرْ له اللَّهُمَّ إنْ كانَ فَجَرْ
والنَّقَب: رقّة الأخفاف، الدَّبَر: قرحة الدّابّة، فَجَرَ: كَذَب. ومَبْعَثُ الرّجز: ما رُوي من أنّ أعرابيّاً أتى عمرَ رضي الله عنه فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنّ أهلي بعيد، وإنّي على ناقة دبراء نقباء، فاحملني. فقال عمر: كذبت، واللهِ ما بها نَقَبٌ ولا دَبَر. فانطلق الأعربيُّ فحلَّ ناقته ثم استقبل البطحاء، وجعل يُنشِد الرَّجز السَّابق، حتَّى أتاهُ عمرُ، وتبيّنَ صِدقَه، وحَمَلَه.
وهو بلا نسبة في تأويل مشكل القرآن ص 339، والحُلل في شرح الجُمل ص 133، والكشَّاف 5/ 603، والإيضاح 3/ 113، وابن عقيل 2/ 219، وشرح أبيات المفصَّل والمتوسِّط ص 310، ومعاهد التَّنصيص 1/ 279، وخزانة البغداديّ 5/ 154، وزعم ابن يعيش 3/ 71 أنّ الرّجز لرؤبة، وقلتُ: نسبته مدفوعة؛ لأنّ رؤبة مات سنةَ خمسٍ وأربعين ومئة، وعمرُ مات سنة ثلاث وعشرين! والرَّجز ليس في ديوانه، وقال البغداديّ في خزانته 5/ 156: «وهذا الرّجزُ نسبَه ابنُ حَجَر في الإصابة إلى (عبد الله بن كَيْسَبة) بفتح الكاف وسكون المثنّاة التَّحتيَة وفَتْح المهملة بعدها باء
…
».
حَيْثُ جُعِلَ الثَّانِي بَيَاناً وَتَوْضِيْحاً لِلْأَوَّلِ، فَظَاهِرٌ أَنَّ لَفْظَ (قَالَ) لَيْسَ بَيَاناً وَتَفْسِيْراً
لِلَفْظِ (وَسْوَسَ) أَيْ دُوْنَ فَاعِلِهِ، حَتَّى يَكُوْنَ هَذَا مِنْ بَابِ بَيَانِ الْفِعْلِ دُوْنَ الْجُمْلَةِ، بَلِ الْمُبَيِّنُ هُوَ مَجْمُوْعُ الْجُمْلَةِ.
3 -
أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا شِبْهُ كَمَالِ الِانْقِطَاعِ: لِكَوْنِ عَطْفِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُوْلَى مُوْهِماً لِعَطْفِهَا عَلَى غَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ بِمَقْصُوْدٍ (1). مِثَالُهُ: [الكامل]
وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِيْ أَبْغِيْ بِهَا
…
بَدَلاً، أُرَاهَا فِي الضَّلَالِ تَهِيْمُ (2)
تُرِكَ الْعَطْفُ لِجُمْلَةِ (أُرَاهَا)؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى (أَبْغِيْ) فَيَكُوْنَ مَظْنُوْنُ سَلْمَى (3).
وَشُبِّهَ هَذَا بِكَمَالِ الِانْقِطَاعِ؛ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى مَانِعٍ مِنَ الْعَطْفِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَارِجِيّاً (4) - يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِنَصْبِ قَرِيْنَةٍ - لَمْ يُجْعَلْ هَذَا مِنْ كَمَالِ الِانْقِطَاعِ.
(1) أي يكونُ شبهُ كمالِ الانقطاع حين تُسبَقُ جملةٌ بجملتين، يَصِحُّ عطفُها على أُولاهما لوجودِ الجهة الجامعة، لكنْ في عطفِها فسادُ المعنى وتوهيم المخاطبِ غيرَ المقصود، وابتغاءَ تفادي توهُّم العطف على الثّانية، واحترازاً من فساد المعنى؛ يُتخلَّى عن العطفِ مُطلَقاً، ويُفصَلُ بين الجملتين.
(2)
بلا عزو في مفتاح العلوم ص 370، والإيضاح 3/ 117، وإيجاز الطراز ص 248، ومعاهد التنصيص 1/ 279.
(3)
ويصيرُ المعنى على هذا الظّنّ: وتظنُّ سلمى أنّني أبغي بها بدلاً، وأنني أراها تهيمُ في الضّلال.
(4)
ويعني: كان مانعُ الوصلِ خارجيّاً بالمعنى دون المبنى.
4 -
أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا شِبْهُ كَمَالِ الاِتِّصَالِ: كَكَوْنِ الثَّانِيَةِ جَوَاباً لِسُؤَالٍ اقْتَضَتْهُ الْأُوْلَى، فَتُنَزَّلُ الْأُوْلَى مَنْزِلَةَ السُّؤَالِ؛ لِكَوْنِهَا مُشْتَمِلَةً عَلَيْهِ وَمُقْتَضِيَةً لَهُ، فَتُفْصَلُ الثَّانِيَةُ عَنِ الْأُوْلَى كَمَا يُفْصَلُ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِاتِّصَالِ (1)، وَيُسَمَّى الْفَصْلُ لِذَلِكَ (اسْتِئْنَافاً)، وَكَذَا الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ تُسَمَّى اسْتِئْنَافاً ومُسْتَأْنَفَةً؛ نَحْوُ:[الخفيف]
قَالَ لِيْ: كَيْفَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: عَلِيْلُ
…
سَهَرٌ دَائِمٌ وَحُزْنٌ طَوِيْلُ
أَيْ: مَا بَالُكَ عَلِيْلاً؟ أَوْ مَا سَبَبُ عِلَّتِكَ؟ . وَلِلِاسْتِئْنَافِ أَقْسَامٌ تُطْلَبُ مِنَ الْمُطَوَّلَاتِ. (2)
أَوْ نُزِّلَتْ: الجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْأُوْلَى
كَالْعَارِيَهْ: بِأَنْ لَمْ يُقْصَدْ تَشْرِيْكُ الثَّانِيَةِ لِلْأُوْلَى فِيْ حُكْمِ إِعْرَابِهَا؛ نَحْوُ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 14 - 15].
لَمْ يُعْطَفُ (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) عَلَى (إِنَّا مَعَكُمْ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَلَوْ عُطِفَ عَلَيْهِ لَزِمَ تَشْرِيْكُهُ لَهُ فِيْ كَوْنِهِ مَقُوْلَ (قَالُوْا)، فيَلْزَمُ أَنْ يَكُوْنَ مَقُوْلَ قَوْلِ الْمُنَافِقِيْنَ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
أَوْ كَانَ لِلْأُوْلَى حُكْمٌ لَمْ يُقْصَدْ إِعْطَاؤُهُ لِلثَّانِيَةِ، فَالْفَصْلُ وَاجِبٌ؛ لِئَلَّا يَلْزَمَ مِنَ الْوَصْلِ التَّشْرِيْكُ فِيْ ذَلِكَ الْحُكْمِ؛ نَحْوُ:(وَإِذَا خَلَوْا .... الْآَيَةَ) لَمْ يُعْطَفْ (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) عَلَى (قَالُوْا)؛ لِئَلَّا يُشَارِكَهُ فِي الِاخْتِصَاصِ بِالظَّرْفِ الْمُتَقَدِّمِ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى
(1) وجهُ الفصلِ والمنع من الرّبط بين الجملتين في هذا الموضعِ هو وجودُ الرّابطة القويّة بينهما، فأشبهَت حالةَ كمال الاتّصال، وعُومِلَت معاملتَها.
(2)
انظر: دلائل الإعجاز ص 222 - 248، والمطوّل ص 448 - 449، ومِن أسرار الجُمل الاستئنافيّة ص 55 - 222.