الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- قد يقعُ على كلامٍ نقلَهُ هذا الأخيرُ عن ابن الأثير مثلاً، فعندئذٍ يقولُ:«قال ابنُ الأثير ...... » ؛ مُشعِراً القارئَ أنَّه اهتدى إلى هذا الموضع ابتداءً، والَّذي ينفي ذلك أنَّ كُتبَ ابن الأثير ليست من مصادرِه أوَّلاً، وأنّه في التَّحقيق تبيَّنَ أنَّ القولَ الَّذي ساقَه العمريُّ لابن الأثير وردَ بحروفه في المطوَّل، وكان حكاهُ التَّفتازانيُّ عن ابن الأثير بتصرُّفٍ مُفرِطٍ ثانياً، وما قيلَ في المطوَّل يُقالُ في خزانة ابن حِجَّة، وفي المختصَر، وفي غيرِها، وما قيلَ في المثل السَّائر يُقالُ في أسرار البلاغة، وفي الكشّاف، وفي مقامات الحريريّ، وفي تحرير التَّحبير، وفي غيرِها.
ولكي لا نظلِمَه لا بُدَّ من الإقرارِ أنَّ هذه الجوانبَ الَّتي أشرتُ إليها ليستْ منهجاً مُطَّرِداً في تناولِه لمصادرِه، فهو في جملةِ ما نقلَه كانَ يجنَحُ إلى الوضوحِ والدِّقَّةِ، وقد يُبالِغ في ذلك؛ فيقدِّمُ لِما ينقلُ بقوله:«قال ابنُ حِجّة» ، وبعد تمام النَّقل يقولُ:«انتهى كلامُ ابنِ حِجّة بحروفِه» .
•
النَّزعة التَّعليميّة، وأظهرُ معالِمها في هذا الشَّرح:
لعلَّ السِّمَةَ الغالبةَ على أسلوب العمريِّ في الشَّرحِ النَّزعةُ التَّعليميَّةُ، وهي نزعةٌ أملَتْها رغبتُه في إقامةِ شرحٍ على أرجوزةِ مئة المعاني والبيان، يوضِّحُها غايةَ الإيضاح، وأكبرُ الظَّنِّ أنَّه أدركَ غايتَه هذه، أو كاد. ولو وقفنا على ما في الشَّرح لَرأيناهُ شَرحاً متوسِّطاً، ظهرَتْ فيه (ملامحُ المدرِّسِ) الَّذي يجنحُ إلى (الإيضاح)، و (حُسْنِ العَرْض والتَّرتيب).
أمَّا ملامحُ المدرِّسِ فقد بدَتْ في كثيرٍ من عباراتِه الَّتي دَأَبَ على مُخاطبةِ قارئه بها؛ ولاسيَّما لفظ: «اعلم» ، ونُحِسُّ أحياناً بوَقْعِ هذه النَّزعة، وذلك في نحو قوله:«فتأمَّلْ» ، و «فتدبَّرْ» ، و «لا يخفى على الفَطِن» .
ومن نزعته التعليميّة وقوفُه على أمورٍ بسيطة، كشرح كلمة واضحة المعنى؛ كقوله:«سقيماً، أي: ضعيفاً» ، أو تحديدٍ لموطن التَّمثيل في
البيت؛ كقوله مثلاً: «والشَّاهد في المصراع الأوَّل» ، أو الاستكثار من إيرادِ الأمثلة على اللَّون البلاغيّ الواحد، أو المبالغة في بيانِ عَوْد الضَّمائر كما سَلَف.
ولا يبعُدُ أيضاً أنْ يكونَ إكثارُهُ من ضمير المتكلِّمِين؛ نحو: «كما بَيَّنَّاه» ، و «لأنَّا نقولُ .. » ، و «كما قرَّرْنا» ، أو المتكلِّم؛ نحو:«قلتُ» ، و «رأيتُ» ، و «فأُورِدُها»
…
أثراً من آثارِ هذه النَّزْعة التَّعليميَّة، ومثلُ هذا الدُّنُوِّ الشَّديد من القارئِ قلَّ أنْ نجدَ له نظيراً عندَ غيرِه من الشَّارحين.
وأمَّا الرَّغبةُ في الإيضاحِ فإنَّها سِمةٌ اطَّرَدَتْ في الشَّرحِ، سواءٌ في العِبارة، أم في طريقة العَرْض، فالعمريُّ كانَ يسعى إلى توضيحِ ما في المتن، وشَرْحِ ما غَمُضَ أو ما هو دونَه، فبيَّنَ مضمونَ كلامِ النَّاظمِ، وعرضَ لِما حواهُ من قواعدَ ومسائل، مُدعِّماً إيَّاه بالأمثلة الوافرة، كلُّ ذلك بعباراتٍ أقرب ما تكونُ إلى الجَلاء والسُّهولة، لا تعقيدَ فيها ولا التواء.
ولعلَّ رغبتَه هذه هي الَّتي جعلَتْهُ يُمهِّدُ لكُلِّ مبحثٍ يريدُ شرحَه بجسورٍ سلَفَ بيانُها، فالقارئُ ينتقِلُ من مبحثٍ إلى آخرَ، مشدودَ الذِّهنِ إلى النَّصِّ، وأظنُّ شرحَ العمريِّ أكثرَ شروحِ مئة المعاني أُلفةً في هذا الباب.
وهذه الرّغبةُ نفسُها هي الَّتي دفَعتْه في غير موضعٍ إلى إجمالِ ما سَبَق، ولَمِّ ما تفرَّق، ومَلءِ شَرحِه بالتَّعليلات، بعضُها يتَّصلُ بتوجيه عبارةِ المتنِ، وبعضُها يتَّصلُ بتوجيه كلامِه هو، وما تبقَّى فتعليلاتٌ قَصَدَ بها التَّفسيرَ وإظهارَ العِلَلِ الَّتي استوجبَتْ وُقوعَ الأحكامِ، وهي كثيرةٌ لا يكادُ يخلو منها موضعٌ من الشَّرح.
ولعلَّها هي الَّتي جعلتْهُ أيضاً يلتفِتُ إلى بعضِ الأشعارِ الَّتي استَشهدَ بها، فيُتبِعُها أحياناً بِحَلِّ ألفاظِها، أو إجمالِ مَعانيها.
وكذا دفعَتْه إلى الجنوح عن الاستطرادات والتَّنبيهات، فكانَ قريباً من
المتن، شديدَ الالتصاقِ به أحياناً، إلى الحَدِّ الَّذي يجعلُه يلجأ إلى الأُسلوب الوَصفيِّ؛ مُتَّكئاً على نحو:«ذكَرَ» ، و «قدَّمَ» ، و «ثُمَّ ذكَرَ» ، «ثُمَّ بيَّنَ» ، والغريبُ أنَّه - على رغبته في التَّوضيح - لم ينأَ بنفسه عن أساليب المنطق في الشَّرح، ولعلَّ عُذرَه في ذلك أنَّه كانَ كثيرَ المتابعةِ للتّفتازانيّ.
وهذا كلُّه يُشيرُ بوضوحٍ إلى أنَّ العمريَّ أرادَ لشرحِه هذا أنْ يكونَ سهلَ المأخذِ، يأنسُ إليه القارئ.
وأمَّا حُسْنُ العَرضِ فقد ظهرَتْ أُولى ملامحِه في تقطيعِ المتنِ إلى كلمةٍ كلمة غالباً، أو إلى عبارات قصيرة جدّاً أحياناً، أو إلى فِقَرٍ يحسُنُ التَّوقُّفُ عندَ كُلٍّ منها نادراً، والعمريُّ يُمثِّلُ في هذا البابِ مذهباً مُبالَغاً فيه إذا ما قيسَ بصنيع شُرَّاحِ الأرجوزةِ الآخرين، فبعضُهم يُجمِلُ الكلامَ ولاسيَّما مَن شرحَ بالقول؛ كالشّنقيطيّ، وبعضُهم يتوسَّطُ في تجزئة المتن؛ كالغزّيّ.
ولم يقفِ العمريُّ عندَ هذا الحَدِّ، وكأنَّه أدركَ أنَّ تقسيمَ البابِ إلى فِقَرٍ تُفرَدُ، ثُمَّ تُشرَحُ منهجٌ غايتُه تقسيمُ النَّصِّ إلى ما يُمكن أنْ نُسمِّيَه أفكارَه الرَّئيسة، على وجه التَّقريب، للتَّخفيف على القارئِ، وعدَمِ الرّغبة في الإجمالِ والتَّطويل.
وله في هذا الباب مسالكُ؛ أظهرُها:
- ذِكْرُ الأقسام الرَّئيسة لمضمون الفَنِّ قبلَ الشُّروعِ في شَرحِه، ولاسيَّما إنْ كانَ الفنُّ كثيرَ التَّفريعات والتَّمثيلات؛ من ذلك ما تراه في أوَّلِ علم المعاني؛ إذْ حصَرَ أبوابَه الثَّمانية، وبيَّنَ دورَ كُلٍّ منها، ولا يُمكِنُ أنْ نُقلِّلَ من فائدةِ هذا التَّحديدِ قبلَ الشُّروعِ في عِلمٍ يزيدُ على مئةٍ وعشرينَ صفحةً، وكذا في أوَّلِ علم البيان؛ إذ يقولُ:«فانحصرَ المقصودُ من عِلم البيان في: التَّشبيه، والمَجاز، والكِناية» ، وقد لا يكتفي بذلك، بل ينصُّ
في أوَّل البابِ على بيان أقسامه؛ كقوله في بدايةِ بابِ القَصْر: «وهو أربعةُ الطُّرُقِ؛ كما سيأتي» ، وكذا في أوَّل باب الإيجاز والإطناب، وكذا ذِكْرُ أركانِ التّشبيه في أوَّل بابه، وغير ذلك.
- والمسلَكُ الثَّاني من مسالك التَّقسيم في الشَّرح ما نجدُه عندَ العمريِّ مِن مَيْلٍ إلى تعدادِ الوجوه، وذِكْرِ الصُّوَر والأقسام والأصناف، بعضُها يشيرُ إلى ما في المتن، وبعضُها يشيرُ إلى ما في كلام الشَّارحِ نفسِه، وهو على الحالَين كانَ يرمي إلى إيضاحِ الكلام وترتيب أجزائِه.
وهذه الصُّورة مستفيضةٌ تشيرُ على نحْوٍ ما إلى النَّزعة التَّعليميّة الّتي نلمسُها في مواطنَ كثيرةٍ من هذا الشَّرح، وهي في حقيقتِها من مظاهرِ حُسْنِ العَرضِ؛ فكثيراً ما نقفُ على عباراتٍ له؛ من نحو:«فيه مذهبان» ، و «وأقسامُ الحقيقة العقليّة
…
أربعة»، و «الأوَّل .. ، والثَّاني
…
»، و «وأقسام المجاز العقليّ أربعة» ، و «مُفتقِرٌ إلى أمرين: أحدُهما
…
، والثّاني .. »، و «فالأوَّلُ ضَرْبان .. » ، و «وهو ثلاثةُ أضرب» ، «وهو أربعة أقسام» ، و «وأيضاً تقسيمٌ آخرُ للاستعارةِ باعتبارِ .. » ، ولعلَّ من الأمثلة الواضحة على ولَعِه بتعدادِ الصُّوَر والأقسام والتَّفريعات كلامَه على ردّ العجز على الصّدر.
- والطَّريقةُ الثَّالثةُ من طرائق التَّقسيم في هذا الشَّرح هي تقسيمُ المبحث الواحدِ، وتخصيصُه بعناوين فرعيّة، كصنيع العمريّ في الكلام على أنواع التَّشبيه، إذ أثبتَ له عنوانات؛ مثل:«التَّشبيه باعتبار طرفيه أربعةُ أقسام» ، و «باعتبار وجهه ثلاثة أقسام» ، و «وباعتبار أداته نوعان» ، «وباعتبار الغرض قسمان» .
وكأنّي - بعد ما سلَف - أراه يعمَدُ إلى تقسيم ما يريدُ شرحَه مِن هذا المتن إلى جُزئيّاتِه الّتي ينحصِرُ فيها، مُبتدِئاً بما هو عامٌّ أو كُلِّيّ، مُنتقِلاً إلى الأخصِّ فالأخصِّ؛ حتّى ينتهيَ إلى صورةٍ لا تفريعَ بعدَها، وهي