الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصدور والفيض
1 -
معنى الصدور في اللغة:
إذا رجعنا إلى مادة صدر نجد أن الصَّدْرَ أعلى مُقَدَّمِ كل شيء وأوله، حتى إنهم ليقولون صدر النهار، والليل، وصدر الشتاء، والصيف1.
وقال الخليل: "والصَّدْرُ: الانصراف عن الورد، وعن كل أمر، ويقال صَدروا، وأصدرناهم..والمصدر أصل الكلمة الذي تصدر عنه الأفعال، وتفسيره أن المصادر كانت أول الكلام كقولك الذهاب والسمع والحفظ، وإنما صدرت الأفعال عنه، فيقال ذهب ذهاباً، وسمع سمعاً"2. والصَّدَرُ رجوع المسافر من مقصده والشاربة من الورد، يقال صدر يصدر صُدُوراً وصَدَراً3. فالصدور يعني الانصراف والرجوع.
2 -
معنى الصدور في الشرع:
لقد ورد الفعل يَصْدُرُ، والفعل يُصْدِرَ ولفظ الصدر، مفرداً وجمعاً، بإضافات متنوعة في كتاب الله - تعالى -؛ ومن ذلك قوله - تعالى -:{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} [الزلزلة - 6] وقوله - تعالى -: {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص - 23]، قال الراغب:"وإذا عدي صدر بعن اقتضى الانصراف، تقول صدرت الإبل عن الماء صدرا، وقيل الصَّدْرُ، قال: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} [الزلزلة - 6] "4. وورد في السنة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أمارات الساعة: "والرجل يَلِطُ 5 في حوضه فما يصدر حتى تقوم" 6. والصدر هنا يعني الانصراف والرجوع، فهو على معناه في اللغة.
1 - انظر: العين 7/94، الصحاح 2/709، لسان العرب 4/445.
2 -
العين 7/95 - 96، وانظر: لسان العرب 4/448، المصباح المنير 1/335، معجم مقاييس اللغة 3/337.
3 -
انظر: لسان العرب 4/448، الصحاح 2/710.
4 -
المفردات ص477.
5 -
يلط في حوضه أي يطينه ويصلحه. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 18/91.
6 -
أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة باب قرب الساعة 4/2270، ح 2954.
3 -
معنى الفيض في اللغة:
قال الخليل: "فاض الماء والدمع والمطر والخير، يفيض فيضاً، أي كثر، وفاضت عينه، تفيض فيضاً أي سالت..وفاض صدر فلان بسره، إذا امتلأ فأظهره، والحوض فائض، أي ممتلىء فيضاً، وفيضوضة..وأفاض القوم من عرفات، أي رجعوا ودفعوا، وكل دفعة إفاضة"1.
وقال ابن فارس: "الفاء والياء والضاد أصل صحيح واحد، يدل على جريان الشيء بسهولة، ثم يقاس عليه، من ذلك فاض الماء يفيض"1.
فالفيض لفظ يدل على كثرة الشيء، وجريانه بسهولة.
4 -
معنى الفيض في الشرع:
لم يرد مصطلح الفيض في كتاب الله، وورد الفعل منه، نحو قوله - تعالى -:{تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ} [المائدة - 83] أي تسيل، وقوله - تعالى -:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة - 198] قال الراغب: "أي دفعتم منها بكثرة، تشبيهاً بفيض الماء"3. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث نزول عيسى ابن مريم: "فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الحرب، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد" 4، يفيض أي يكثر. فمعنى الفيض في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هو المعنى الوارد في اللغة.
1 - العين 7/65، وانظر: الصحاح 3/1099، لسان العرب 7/210، القاموس المحيط ص839.
1 – معجم مقاييس اللغة 4/465.
3 -
المفردات ص648.
4 -
جزء من حديث أخرجه البخاري في مواضع منها كتاب الأنبياء، باب نزول عيسى بن مريم 2/490، ح 3448، ومسلم في كتاب الإيمان باب نزول عيسى بن مريم حاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم 1/135، ح 155.
5 -
معنى الصدور والفيض في اصطلاح الفلاسفة:
الصدور من مصطلحات الفلاسفة، وهو مرادف للفيض. ويعرف الصدور بأنه" فيض الكائنات على مراتب متدرجة من مبدأ واحد، ومنها يتألف العالم جميعه"1.
ويطلق الفيض في اصطلاح الفلاسفة على فعل فاعل يفعل دائماً لا لعوض، ولا لغرض، وذلك الفاعل لا يكون إلا دائم الوجود، لأن دوام صدور الفعل عنه، تابع لدوام وجوده، وهو المبدأ الفياض، والواجب الوجود، الذي يفيض عنه كل شيء، فيضاً ضرورياً معقولاً2.
يقول ابن سينا: "وهو عقل محض يعقل ذاته، فيجب أن يعقل أنه يلزم وجود الكل عنه، لأنه لا يعقل ذاته إلا عقلاً محضاً، ومبدأً أولَ، وإنما يعقل وجود الكل عنه على أنه مبدؤه. وليس في ذاته مانع، أو كاره، لصدور الكل عنه، وذاته عالمة بأن كماله، وعلوه، بحيث يفيض عنه الخير"3، وقال:"وهو فاعل الكل، بمعنى أنه الموجود الذي يفيض عنه كل وجود، فيضاً تاماً مبايناًلذاته"4.
فنظرية الصدور والفيض تقابل الخلق، فهم يفسرون وجود العالم والكون عن طريق الصدور والفيض لا عن طريق الخلق.
6 -
الرد على الفلاسفة:
إن مصطلح الصدور والفيض، الذي يستعمله الفلاسفة، ينطوي على عدة عقائد فاسدة، وقد تحدثوا عنه في مقام كلامهم عن صدور الكثير من الواحد، حيث إن الفلاسفة قالوا: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وهذا بناء على المعنى الذي يريدونه بلفظ الواحد، المطلق على الله عز وجل، وهم يريدون بلفظ الصدور نفي الخلق، وجعل العالم لازم لذات الرب
1 - المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية ص105 - 106.
2 -
انظر: المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا 2/172، المعجم الفلسفي لمراد وهبة ص516.
3 -
النجاة 2/133.
4 -
المرجع السابق 2/134.
أزلاً وأبداً، لذا رد عليهم أهل السنة، وبينوا الباطل الذي يعنونه بهذا المصطلح، ومن وجوه الرد عليهم:
أولاً: أن معنى الصدور والفيض عند الفلاسفة، معنى مبتدع، ليس وارداً في لغة العرب، ولا في كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو اصطلاح اصطلحوا عليه.
ثانياً: معنى الواحد عندهم قد سبق بيانه1؛ وهو أن الله وجود مطلق لا صفة له، وقولهم إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، إنما يتم إذا أثبت موجوداً مجرداً لا صفة له، ولا نعت، وإلا فإذا كان الخالق موصوفاً بصفات متنوعة كالعلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، والرحمة، وبأفعال متنوعة كالخلق، والاستواء، ونحو ذلك، لم يكن واحداً عندهم بل كان مركباً وجسماً، وحينئذ فيقال لهم هذا الذي تسمونه واحداً لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو أمر يقدر في الأذهان، لا يوجد في الأعيان، وهو نظير الواحد البسيط الذي يقولون بتركب الأنواع منه، فإن هذا الواحد الذي يثبتونه في الكليات، ويقولون إنه منه تتركب الأنواع الموجودة، هو نظير الواحد الذي يثبتونه في الإلهيات ويقولون هو مبدأ الوجود، وكلاهما لا حقيقة له في الخارج وإنما هو يقدره الذهن، كما يقدر الكليات المجردة، ومتى بطل واحدهم هذا، بطل توحيدهم، فبطل نفيهم للصفات، وبطل قولهم الواحد لا يصدر عنه إلا واحد2.
ثالثاً: إذا تبين أن هذا الواحد ليس له حقيقة في الخارج، قيل لمن قال الواحد لا يصدر عنه إلا واحد؛ ما معنى الصدور؟ أنت لا تعني به حدوثه عنه، ولا فعله له بمشيئته وقدرته، فعلاً يسبق به الفاعل مفعوله، وإنما تعني به لزومه له ووجوبه به، ونحن لا نتصور في الموجودات شيئاً صدر عنه وحده شيء منفصل عنه، كان لازماً له قبل هذا الوجه، بل ما لزمه وحده كان صفة له، فإذا لم يتصور هذا الصدور، ولا يعلم صدق هذا السلب في صورة معينة من صور هذه القضية الكلية، فمن أين تعلم هذه القضية الكلية؟ وإذا استدلوا على ذلك بالنار التي لا يصدر عنها إلا الإحراق، وبسائر الأجسام البسيطة كالماء، أو بالشمس التي يصدر
1 - انظر: البحث ص28 - 31.
2 -
انظر: درء التعارض 8/247 - 248.
عنها الشعاع، لم يكن شيء من هذه المعينات داخلاً في قضيتهم الكلية، فإن الإحراق لا يصدر عن النار وحدها، بل لا بد من محل قابل للإحراق، ثم إن الإحراق له موانع تمنعه فهو موقوف على ثبوت شروط وانتفاء موانع، غير النار، فلم يصر صادراً عن النار بالمعنى الذي أرادوه بالحجة، وهو لزومه لذات النار بحيث لا ينفك عنها، وإنما يعقل هذا اللزوم في صفات الملزوم كاستدارة الشمس والضوء القائم بها ونحو ذلك، فإن هذا لازم لا يفارق ذاتها، بخلاف الضوء القائم بما يقابلها من الأجسام، وهو الشعاع المنعكس على الأجسام المسطحة كالأرض، والقائمة كأشخاص الجبال، والحيوان، فإن هذا ليس لازماً لذات الشمس، بل هو موقوف على وجود هذه الحال التي يقوم بها هذا العرض، وهو أيضاً ممنوع عنها بالحجب كالسحاب الكثيف، والكسوف وغير ذلك، فهذا بيان أن ما قدروه من الواحد ومن الصدور عنه أمر لا يعقل في الخارج أصلاً، فضلاً عن أن يكون قضية كلية عامة1.
رابعاً: أن صدور المختلفات عن ما لا يصدر عنه إلا واحد، بلا واسطة، جمع بين النقيضين، وقول متناقض. وأما الصدور بواسطة، فتلك الواسطة يجب أن لا تكون إلا واحداً عن واحد، إذا قدر أن الأول واحد بسيط، لا يصدر عنه إلا واحد، وإلا كان قولاً متناقضاً، فإنه إذا صدر عنه ما فيه كثرة، فقد صدر عنه أكثر من واحد. وإن لم يكن في الصادر كثرة، وجب أن لا يصدر عن الصادر الأول إلا واحد، وهلم جرا وهذا خلاف المشهود2.
خامساً: أن هذا الصدور، والتولد، والمعلولية، التي يدعونها في العقول، والنفوس، والأفلاك، حيث يقولون إنها جواهر قائمة بأنفسها، صدرت عن جوهر واحد بسيط، فهذا أبطل قول قيل في الصدور والتولد، لأن فيه صدور جواهر، عن جوهر واحد، وهذا لا يعقل. وفيه صدوره عنه من غير جزء منفصل من الأصل، وهذا لا يعقل. وهم غاية ما عندهم أن يشبهوا هذا بحدوث بعض الأعراض، كالشعاع عن الشمس، وحركة الخاتم عن حركة اليد، وهذا تمثيل باطل، لأن تلك ليست علة فاعلة، وإنما هي شرط فقط، والصادر هناك لم يكن
1 - انظر: شرح العقيدة الأصفهانية ص52 - 53، منهاج السنة 1/402 - 403.
2 -
انظر: درء التعارض 8/267.
عن أصل واحد، بل عن أصلين، والصادر عرض لا جوهر قائم بنفسه، فتبين أن ما ذكره هؤلاء من الصدور والتولد العقلي باطل1.
سادساً: أن قولهم مبني على أصول فاسدة كثيرة:
الأول: إنه لا سبب للحوادث إلا الحركة الفلكية وهذا من أبطل الأصول.
الثاني: إثبات العقول والنفوس التي يقولون بها وهو باطل.
الثالث: إثبات كون الفيض يحصل من النفس الفلكية. فإنهم لو سلم لهم ما يذكرونه من أصولهم، فعندهم أن ما يفيض على النفوس، إنما هو من العقل الفعال، المدبر لكل ما تحت فلك القمر، ومنه تفيض العلوم عندهم على نفوس البشر الأنبياء وغيرهم، والعقل الفعال لا يتمثل فيه شيء من الجزئيات المتغيرة، بل إنما فيه أمر كلي، لكنه بزعمهم دائم الفيض، فإذا استعدت النفس لأن يفيض عليها منه شيء فاض، وذلك الفيض لا يكون بجزئي، فإنه لا جزئي فيه، فكيف يقولون هنا إن الفيض على النفوس هو من النفس الفلكية؟ 2.
فتبين أن قولهم بالصدور والفيض يعني القول بقدم العقول والنفوس وقدم العالم، ونفي أن يكون الله خالقاً مبدعاً لما سواه.
1 - انظر: مجموع الفتاوى 17/289 - 290.
2 -
انظر: الرد على المنطقيين ص476.