الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حدوث الذوات
"حدوث الأجسام
"
1 -
معناه في اللغة:
سبق بيان معنى الحدوث والذوات والجسم في اللغة1. ولم يرد هذا الدليل في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
2 -
معنى هذا الدليل في اصطلاح المتكلمين:
هذا الطريق في الاستدلال هو طريق أكثر المعتزلة، ومن وافقهم من الأشعرية2، حيث إن"جمهور المتكلمين لا يعولون إلا على هذا الطريق، وذلك لأنهم يقيمون الدلالة على كون الأجسام محدثة. وحينئذ يقولون: كل جسم محدث، وكل محدث فله علة وصانع، ينتج أن كل جسم فله فاعل وصانع. ثم هذا الدليل إنما يتم إذا قلنا: وذلك الفاعل إن كان محدثاً لزم التسلسل أو الدور، وإن كان قديماً فهو واجب الوجود لذاته، وهو المطلوب.. وأما الكلام في قولنا: كل محدث فلابد له من فاعل، وصانع، فموضعه ههنا وهو أن يقال: كل محَدث فهو ممكن الوجود لذاته، وكل ما كان ممكن الوجود لذاته، فله فاعل وصانع، ينتج أن كل محدث فله فاعل. وفي هذا الطريق يستدل بحدوث الأجسام على كونها ممكنة الوجود، ثم يستدل بإمكانها هذا، على افتقارهما إلى الفاعل"3.
وقد استدلوا على حدوث الأجسام بحدوث الأعراض4. يقول الباقلاني في شرح ذلك: "جميع العالم العلوي، والسفلي، لا يخرج عن هذين الجنسين، أعني الجواهر والأعراض، وهو محدث بأسره؛ والدليل على حدثه ما قدمناه من إثبات الأعراض. والأعراض حوادث؛
1 - انظر: البحث288، 303، 249.
2 -
انظر: درء التعارض5/292.
3 -
المطالب العالية 1/200، وانظر: معالم أصول الدين ص34، شرح الأصول الخمسة ص94 - 95.
4 -
انظر: التمهيد ص44، الإنصاف ص17، درء التعارض3/72.
والدليل على حدوثها بطلان الحركة عند مجيء السكون؛ لأنها لولم تبطل عند مجيء السكون، لكانا موجودين في الجسم معاً، ولوجب لذلك أن يكون متحركاً ساكناً معاً؛ وذلك مما يعلم فساده ضرورة. والدليل على حدوث الأجسام أنها لم تسبق الحوادث، ولم توجد قبلها؛ وما لم يسبق المحدث محدث كهو؛ إذ كان لا يخلو أن يكون موجوداً معه أو بعده؛ وكلا الأمرين يوجب حدوثه. والدليل على أن الجسم لا يجوز أن يسبق الحوادث أنا نعلم باضطرار أنه متى كان موجوداً فلا يخلو أن يكون متماس الأبعاض مجتمعاً، أو متبايناً مفترقاً؛ لأنه ليس بين أن تكون أجزاؤه متماسة، أو متباينة منزلة ثالثة؛ فوجب ألا يصح أن يسبق الحوادث؛ وما لم يسبق الحوادث، فواجب كونه محدثاً؛ إذ كان لا بد أن يكون إنما وجد مع وجودها، أو بعدها؛ فأي الأمرين ثبت، وجب به القضاء على حدوث الأجسام"1.
3 -
مناقشة الدليل:
هذا الدليل باطل من عدة أوجه:
أولاً: أنهم يقولون إن الإيمان بالرب موقوف على هذا الدليل، مع أنه لم يستدل به أحد من الصحابة والتابعين، ولا من أئمة المسلمين، فلو كانت معرفة الرب عز وجل والإيمان به موقوفة عليه، للزم أنهم كانوا غير عارفين بالله، ولا مؤمنين به، وهذا من أعظم الكفر باتفاق المسلمين2.
كما أن الأنبياء والمرسلين لم يأمروا أحدا بسلوك هذا السبيل، فلو كانت المعرفة موقوفة عليه، وهي واجبة، لكان واجباً، وإن كانت مستحبة، كان مستحباً، ولو كان واجباً، أو مستحباً، لشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان مشروعاً لنقلته الصحابة3.
ثانياً: أن الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات، المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها؛ على وجود الخالق سبحانه وتعالى، فحدوث الإنسان
1 - التمهيد ص44.
2 -
انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/619.
3 -
انظر: المرجع السابق نفس الجزء والصفحة.
يستدل به على المحدث، لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث له، والفرق بين الاستدلال بحدوثه، والاستدلال على حدوثه بين، والذي في القرآن هو الأول لا الثاني؛ كما قال - تعالى -:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور - 35] ، فنفس حدوث الحيوان، والنبات، والمعدن، والمطر، والسحاب، ونحو ذلك معلوم بالضرورة، بل مشهود لا يحتاج إلى دليل، وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة1.
ثالثاً: أنهم بنوا دليلهم على أن أجسام العالم محدثة، وكل محدث فله محدث، أما المقدمة الأولى فقد تبين تناقضهم فيها، وأنهم التزموا لأجلها أما جحد صفات الله، وأفعاله القائمة به، وإما جحد بعض ذلك، وأنهم اشترطوا في خلق الله - تعالى - للعالم، ما ينافي خلق العالم، فسلطوا عليهم أهل الملل، والفلاسفة جميعا2. فقد سبق خلافهم في تعريف الجسم، وفيما يتركب منه الجسم، وأنهم رتبوا عليه نفي الصفات أو بعضها عن الله - تعالى -.
رابعاً: أن المقدمة الثانية في دليلهم "وكل محدث فله محدث" أظهر وأعرف وأبْده في العقول من أن تحتاج إلى بيان، فبنوها على أن كل محدث، فهو ممكن الوجود، وأن الممكن يحتاج في وجوده إلى مؤثر موجود، وكل من هاتين المقدمتين صحيحة في نفسها، مع أن القول بافتقار المحَدث، إلى المحِدث أبين وأظهر في العقل، من القول بافتقار الممكن، إلى المؤثر الموجود، فبتقدير بيانهم للمقدمتين، يكونون قد طولوا، وداروا بالعقول، دورة تبعد على العقول معرفة الله - تعالى -، والإقرار بثبوته، وقد يحصل لها في تلك الدورة من الآفات ما يقطعها عن المقصود3.
خامساً: أن بعض الفلاسفة قد بينوا فساد هذا الدليل، ومنهم ابن رشد، يقول في نقد هذا الدليل: "وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ - وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد -، طريقة معتاصة، تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل، فضلا
1 - انظر: درء التعارض 7/219.
2 -
انظر: المرجع السابق 3/73.
3 -
انظر: المرجع السابق 3/73، 286.
عن الجمهور. ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية، ولا مفضية بيقين، إلى وجود الباري - سبحانه -"1.
وبهذا يتبين أن دليل حدوث الأجسام، الذي يعول عليه جمهور المتكلمين في إثبات وجود الله، دليل غير صحيح، وذلك بالنظر في مقدماته، فالمقدمة الأولى قد حوت مصطلحات مجملة لا يمكن تمييز الخالق فيها عن المخلوق، كما تناقضوا فيها، وقد أفضت بهم إلى لوازم فاسدة كنفي الصفات. والثانية مقدمة بديهية لا تحتاج إلى هذا التعقيد، والإطالة، كما فعلوا. وخلاصة دليلهم وهو أن المُحدَث يحتاج إلى مُحدِث أمر معروف بالضرورة، لا يحتاج إلى نظر. وقد سلكوا في إثبات ذلك طريقة لم تأت في الشرع، ومع ذلك جعلوا معرفة الرب والإيمان به موقوفة عليه!.
1 - مناهج الأدلة ص 135.