الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التسلسل
1 -
معنى التسلسل في اللغة:
التسلسل مصدر من الفعل تسلسل، يقول الجوهري:"وتسلسل الماء في الحلق جرى، وسَلْسَلتُه أنا صببته فيه، وماء سَلْسَلٌ وسَلْسال: سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه.. ويقال معنى يتسَلْسل أنه إذا جرى، أو ضربته الريح، يصير كالسلسلة"1.
وقال ابن فارس: "قال بعض أهل اللغة: السَّلسلة اتصال الشيء بالشيء، وبذلك سميت سلسلة الحديد"2. فالسلسلة سميت بذلك لأنها ممتدة في اتصال3.
وفي العين: "وبرق ذو سلاسل، ورمل مثله، وهو تسلسله الذي يرى في التوائه"4.
ويظهر مما سبق أن معنى التسلسل في اللغة يعني التتابع والاتصال والامتداد.
1 - الصحاح 5/1731 - 1732، وانظر: العين 7/193، معجم مقاييس اللغة 3/60، لسان العرب 11/343 - 344.
2 -
معجم مقاييس اللغة 3/60، وانظر: الصحاح 5/1732، لسان العرب 11/343 - 344.
3 -
انظر: معجم مقاييس اللغة 3/60، لسان العرب11/345.
4 -
العين 7/194.
2 -
معنى التسلسل في الاصطلاح:
لفظ التسلسل من الألفاظ الاصطلاحية التي لم ترد في القرآن الكريم أو السنة النبوية، إذ ورد فيهما لفظ السلسلة والسلاسل فقط، قال - تعالى -:{إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر - 71]، وقال - سبحانه -:{سَلاسِلاْ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} [الإنسان - 4] وقال - تعالى -: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة - 32] .ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل" 1، والسلاسل جمع سلسلة، والسلسة سبق بيان معناها في اللغة، وهو المراد في القرآن والسنة.
ولفظ التسلسل من الألفاظ المجملة، التي أحدثها المتكلمون ويراد به عند الإطلاق:"ترتيب أمور غير متناهية"2، مع أن معناه اللغوي لا يدل على عدم الانتهاء، بل ما ورد من الأمثلة في اللغة هو مما ينتهي.
ويختلف أهل السنة، والمتكلمون، والفلاسفة، في نظرتهم إلى أنواع التسلسل وما يجوز منه وما يمتنع، فعند التقييد ينقسم لفظ التسلسل إلى ثلاثة أنواع: واجب وممتنع وممكن، وتفصيلها كما يلي:
النوع الأول: التسلسل الممتنع، وهو التسلسل في المؤثرات، والفاعلين، والعلل، "بأن يكون للفاعل فاعل، وللفاعل فاعل إلى ما لا نهاية له"3، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، ومنه التسلسل في تمام كون المؤثر مؤثراً؛ كأن يقال الحادث لابد له من سبب حادث، وذلك السبب لابد له من سبب حادث4.
النوع الثاني: التسلسل الممكن وهو التسلسل في المفعولات، والآثار المتعاقبة، "بأن يكون الحادث الثاني موقوفاً على حادث قبله، وذلك الحادث موقوف على حادث قبل
1 - أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الأسارى في السلاسل 2/361، ح 3010.
2 -
التعريفات للجرجاني ص84، وانظر: العين والأثر لعبد الباقي الحنبلي ص51، توضيح المقاصد لابن عيسى1/370.
3 -
درء التعارض 1/321.
4 -
انظر: المرجع السابق 2/282 - 283، 1/321 - 322، 9/228، الصفدية 1/49 - 53، مجموعة الرسائل 5/341 - 342، بدائع الفوائد 4/127.
ذلك وهلم جرا"1. وهو التسلسل في الحوادث، وقد وقع فيه خلاف، والناس فيه على ثلاثة أقوال:
الأول: قيل يجوز مطلقاً، وهذا قول أئمة السنة والحديث، وأساطين الفلاسفة، لكن المسلمين، وسائر أهل الملل، وجمهور العقلاء من جميع الطوائف يقولون أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن، بينما قالت الفلاسفة بقدم العالم.
الثاني: أنه لا يجوز لا في الماضي ولا في المستقبل. وهو قول الجهم بن صفوان، وأبي الهذيل العلاف.
الثالث: أنه يجوز في المستقبل دون الماضي، وهو قول أكثر أتباع جهم، وأبي الهذيل، من الجهمية والمعتزلة والأشعرية والكرامية ومن وافقهم2.
وقد منع المتكلمون التسلسل في المفعولات من طرف الأزل، وقالوا باستحالته، وقد اعتقدوا أن القول بجوازه يفضي إلى القول بقدم العالم. وقد اعتُرض عليهم في قولهم بجواز دوام الحوادث في المستقبل دون الماضي، بأنه لا دليل لهم على التفريق بينهما3.
وأما الفلاسفة فقالوا بجواز تسلسل المفعولات، بل قال بعضهم إن ذلك واجب؛ وأخذوا من ذلك دليلاً للقول بقدم العالم، ولم يفرقوا بين الآحاد والنوع.
وكلا القولين باطل، وقد رد عليهم أهل السنة وبينوا أن ذلك لا يعني القول بقدم العالم، فكل ما سوى الله - تعالى - مخلوق حادث بعد أن لم يكن، وإن تسلسل في الأزل والأبد. ومن هذه الردود:
أولاً: أن هؤلاء المتكلمين، والدهرية من الفلاسفة، اشتركوا في أصل فاسد تفرعت عنه مقالاتهم؛ وهو أن تسلسل الحوادث، ودوامها، يستلزم قدم العالم، بل قدم السماوات والأفلاك، والفلاسفة الدهرية أعظم إقراراً ببطلانه من المعتزلة، فإن تسلسل الحوادث ودوامها لا يقتضي قدم أعيان شيء منها، ولا قدم السماوات، والأفلاك، ولا شيء من العالم، والفلاسفة يسلمون أن تسلسل الحوادث لا يقتضي قدم شيء من أعيانها4. فليس
1 - درء التعارض1/321.
2 -
انظر: الصفدية1/10 - 11، منهاج السنة 1/437 - 438، 2/393، درء التعارض 1/321 - 322، شرح الطحاوية 1/105.
3 -
انظر: درء التعارض 2/358 - 395، 9/186.
4 -
انظر: درء التعارض 9/147 - 148، 9/149ومابعدها، مجموعة الرسائل 5/357 - 361، شفاء العليل ص 156، شرح الطحاوية 1/103 - 108.
مع الله شيء من مفعولاته قديم معه، بل هو خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن.
ثانياً: يقال للفلاسفة: هب أن الحوادث لم تزل تحدث شيئاً بعد شيء، فمن أين لكم أن الأفلاك قديمة؟ وهلا جاز أن تكون حادثة بعد حوادث قبلها؟ بل يقال هذا يبطل قولكم، فإنها إذا كانت متسلسلة، امتنع أن تكون صادرة عن علة تامة موجبة، فإن العلة التامة لا يتأخر عنها شيء من معلولها، والحوادث متأخرة، فيمتنع صدورها عن علة تامة بوسط أو بغير وسط1.
النوع الثالث: التسلسل الواجب وهو "ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب - تعالى - في الأبد، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له، وكذلك التسلسل في أفعاله - سبحانه - من طرف الأزل، وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر"2، ولم يكن ربنا - تعالى - قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله، من الكلام والإرادة، والفعل3.
وجمهور أهل السنة يقولون لم يزل الله خالقاً فاعلاً، كما قال الإمام أحمد لم يزل الله عالماً متكلماً غفوراً، بل يقولون لم يزل يفعل إما بناء على أن الفعل قديم، وإن كان المفعول محدثاً، أو بناء على قيام الأفعال المتعاقبة بالفاعل، وإذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الأفعال المتعاقبة الدائمة، ويفعلها دائمة متعاقبة، ومن لا يقدر على الدائمة المتعاقبة، كان الأول أكمل4.
والمتكلمون من المعتزلة والأشاعرة ينفون أن تقوم صفات الأفعال بالله؛ لتعلقها بقدرته ومشيئته، وهي التي يطلقون عليها نفي حلول الحوادث، كما ينفون تسلسلها، وهذا باطل، فقولهم إن الرب في الأزل لم يكن قادراً ثم صار قادراً، ونحوه، ليس بصحيح، بل هذا فيه سلب للرب صفة الكمال، وإثبات التغير بلا سبب يقتضيه، وذلك مخالفة لصريح المعقول والمنقول5.
1 - انظر: درء التعارض 9/148.
2 -
شفاء العليل ص156، وانظر: شرح الطحاوية 1/107.
3 -
انظر: شرح الطحاوية 1/107.
4 -
انظر: درء التعارض 2/268، 220.
5 -
انظر: المرجع السابق 9/185.
والذي دفع المتكلمين إلى هذا القول؛ هو خشيتهم أن يفسد عليهم دليل حدوث العالم.
فيقال لهم: إن قدم أفعال الرب لا تستلزم قدم شيء من مفعولاته، "فليس مع الله شيء من مفعولاته قديم معه، لا بل هو خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، وإن قدر أنه لم يزل خالقاً فعالاً، وإذا قيل إن الخلق صفة كمال لقوله - تعالى -: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل - 17] أفلا أمكن أن تكون خالقيته دائمة، وكل مخلوق له محدث مسبوق بالعدم، وليس مع الله شيء قديم، وهذا أبلغ في الكمال من أن يكون معطلاً غير قادر على الفعل، ثم يصير قادراً والفعل ممكناً له بلا سبب، وأما جعل المفعول المعين مقارناً له أزلاً وأبداً، فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإن كون الفاعل مقارناً لمفعوله أزلاً وأبداً، مخالف لصريح المعقول"1.
وأما الفلاسفة فكما سبق في بيان توحيدهم أنهم ينفون عن الله كل صفة، ويثبتونه وجوداً مطلقاً، لا صفة له ولا فعل، وقد أضافوا إلى ذلك قولهم بقدم العالم، وهؤلاء هم أتباع أرسطو من المتقدمين والمتأخرين، وأما أساطين الفلاسفة قبل أرسطو فلم يحفظ عنهم القول بقدم العالم، والمنقول عنهم هو حدوث الأفلاك، ونقل أصحاب المقالات عن غير واحد من أئمتهم القول بإثبات الصفات لله، وبإثبات الأمور الاختيارية القائمة بذاته، وهذا قول من يقرب إلى صريح المعقول، وصحيح المنقول من الأوائل والأواخر منهم2.
1 - مجموعة الرسائل 5/362 وانظر: شفاء العليل ص 156.
2 -
انظر: درء التعارض 8/286.