الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفناء
1 -
معنى الفناء في اللغة:
قال الخليل: "الفَناء نقيض البقاء، والفعل فني يفنى فناء فهو فان، والفِناء سعة أمام الدار"1.
" وتفانى القوم قتلاً، أفنى بعضهم بعضاً، وتفانوا أي أفنى بعضهم بعضاً في الحرب، وفني يفنى فناء هرم وأشرف على الموت هرماً"2.
فالفناء هو الاضمحلال والتلاشي والعدم، وقد يطلق على ما تلاشت قواه وأوصافه مع بقاء عينه كما يقال شيخ فان3.
2 -
معنى الفناء في اصطلاح الصوفية:
جاء في اصطلاحات الصوفية: "الفناء بزوال الرسوم جميعاً بالكلية، في عين الذات الأحدية، مع ارتفاع الإثنينية، وهو مقام المحبوبية"4.
وفي المعجم الصوفي: "وقيل الفناء هو الغيبة عن الأشياء..وقيل الفناء أن لا ترى شيئاً إلا الله، ولا تعلم إلا الله، وتكون ناسياً لنفسك ولكل الأشياء سوى الله"5.
ويقول شيخ الإسلام رحمه الله مبيناً المعنى العام للفناء عند الصوفية: "ما يسميه بعض الصوفية الفناء، وهو استغراق القلب في الحق حتى لا يشعر بغيره"6.
1 - العين 8/376، وانظر: تهذيب اللغة 15/478، لسان العرب 15/164.
2 -
لسان العرب 15/164، وانظر: تهذيب اللغة 15/478.
3 -
انظر: مدارج السالكين 1/154.
4 -
اصطلاحات الصوفية للقاشاني ص212، وانظر: معجم الكلمات الصوفية ص191.
5 -
المعجم الصوفي ص196.
6 -
بغية المرتاد ص226.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "ولكن القوم اصطلحوا على وضع هذه اللفظة لتجريد شهود الحقيقة الكونية والغيبة عن شهود الكائنات"1. وسيأتي تفصيل أقسامه عند بيان موقف أهل السنة منه.
3 -
موقف أهل السنة من مصطلح الفناء:
لم يرد مصطلح الفناء في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد الفعل فنى في قوله - تعالى -:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن - 26] أي هالك وذاهب2. والفناء المذكور في الآية، ليس هو الفناء الذي تشير إليه الصوفية، فإن الفناء في الآية الهلاك والعدم، حيث أخبر - سبحانه - أن كل من على الأرض يعدم ويموت، ويبقى وجهه - سبحانه - 3.
كما لم يرد في كلام الصحابة والتابعين، مدح لفظ الفناء، ولا ذمه، ولا استعملوا لفظه في المعنى الذي يشير إليه الصوفية البتة، ولا ذكره مشايخ الطريق المتقدمون، ولا جعلوه غاية. فهذا اللفظ لا ينكر مطلقاً، ولا يقبل مطلقاً، بل لا بد فيه من التفصيل، وبيان صحيحه من معلوله، ووسيلته من غايته4.
والفناء مصطلح يحتمل عدة معان؛ منها ما هو صحيح، ومنها ما هو نقص، ومنها ما هو كفر.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "والمعنى الذي يسمونه الفناء ينقسم ثلاثة أقسام: فناء عن عبادة السوى، وفناء عن شهود السوى، وفناء عن وجود السوى.
فالأول: أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه. وهذا هو حقيقة التوحيد والإخلاص الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو تحقيق
1 - مدارج السالكين 1/154 - 155.
2 -
انظر: تفسير الطبري 27/134، تفسير ابن كثير 4/273.
3 -
انظر: مدارج السالكين 3/368.
4 -
انظر: المرجع السابق 3/377 - 378، بتصرف.
لا إله إلا الله. فإنه يفنى من قلبه كل تأله لغير الله، ولا يبقى في قلبه تأله لغير الله، وكل من كان أكمل في هذا التوحيد كان أفضل عند الله.
والثاني أن يفنى عن شهود ما سوى الله، وهذا الذي يسميه كثير من الصوفية حال الاصطلام والفناء والجمع ونحو ذلك، وهذا فيه فضيلة من جهة إقبال القلب على الله، وفيه نقص من جهة عدم شهوده للأمر على ما هو عليه، فإنه إذا شهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه المعبود لا إله إلا هو، الذي أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأمر بطاعته، وطاعة رسله، ونهى عن معصيته، ومعصية رسله، فشهد حقائق أسمائه وصفاته وأحكامه خلقاً وأمراً، كان أتم معرفة وشهوداً وإيماناً وتحقيقاً، من أن يفنى بشهود معنى عن شهود معنى آخر، وشهود التفرقة في الجمع، والكثرة في الوحدة، وهو الشهود الصحيح المطابق، لكن إذا كان قد ورد على الإنسان ما يعجز معه عن شهود هذا وهذا كان معذوراً للعجز، لا محموداً على النقص والجهل.
والثالث الفناء عن وجود السوى، وهو قول الملاحدة أهل الوحدة، كصاحب الفصوص وأتباعه الذين يقولون وجود الخالق هو وجود المخلوق، وما ثم غير ولا سوى في نفس الأمر، فهؤلاء قولهم أعظم كفراً من قول اليهود والنصارى وعباد الأصنام"1.
والمعنى الأول للفناء مطلوب. أما الفناء بالمعنى الثاني فهو الذي يظنه الصوفية غاية السالكين، مع أنه ليس غاية محمودة بل هو فناء الناقصين2، وهو الفناء في شهود الربوبية، وهؤلاء"ليس مرادهم فناء وجود ما سوى الله في الخارج، بل فناؤه عن شهودهم وحسهم، فحقيقته غيبة أحدهم عن سوى مشهوده، بل غيبته أيضا عن شهوده ونفسه، لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبموجوده عن وجوده، وبمحبوبه عن حبه،
1 - مجموع الفتاوى2/268 - 270، وانظر: مدارج السالكين1/154 - 155، 3/378 - 380.
2 -
انظر: مدارج السالكين1/149، 155.
وبمشهوده عن شهوده، وقد يسمى حال مثل هذا سكراً واصطلاماً ومحواً وجمعاً1، وقد يفرقون بين معاني هذا الأسماء"2.
أما الفناء بالمعنى الثالث فهو فناء أهل الوحدة، وقولهم فيه كفر محض.
ويعرض للسالك على درب الفناء معاطب، ومهالك؛ منها أنه إذا اقتحم عقبة الفناء ظن أن صاحبها قد سقط عنه الأمر، لتشويشه على الفناء، ونقضه له، والفناء عنده غاية العارفين، ونهاية التوحيد، فيرى ترك كل ما أبطله وأزاله من أمر ونهي أو غيرهما، ويصرح بعضهم بأنه إنما يسقط الأمر والنهي عمن شهد الإرادة. ولم يعلم هذا المغرور أن غاية ما معه الفناء في توحيد أهل الشرك الذي أقروا به ولم يكونوا به مسلمين ألبتة، كما قال - تعالى -:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان - 25] ، ومن كان هذا التوحيد والفناء غاية توحيده، انسلخ من دين الله، ومن جميع رسله وكتبه3.
4 -
المصطلحات التي تدخل تحت لفظ الفناء:
يستخدم الصوفية مصطلحات أخرى للتعبير عن معنى الفناء، كلفظ المحو والجمع والاصطلام والسكر، وهذه المصطلحات تشترك معاً في غيبة المتصف بها عن شهود ما سوى الله، وقد يفرق بعض الصوفية بينها من حيث السبب الباعث لغيبة الشخص عن ما سوى الله، ومن حيث درجة هذه الغيبة، وحال المتصف بها.
يقول شيخ الإسلام مبيناً تقارب هذه الألفاظ: ".. أن يفنى عن شهود ما سوى الله وهذا الذي يسميه كثير من الصوفية حال الاصطلام والفناء والجمع ونحو ذلك"4. وقال عن السكر: "وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفناء، ونحو ذلك من الأمور
1 - سيأتي التعريف بهذه المصطلحات في الفقرة التالية.
2 -
مدارج السالكين 1/155.
3 -
انظر: المرجع السابق 1/160.
4 -
مجموع الفتاوى 2/370، وانظر المرجع نفسه10/594.
التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها، فإنه إذا لم يكن السبب محظوراً لم يكن السكران مذموماً بل معذوراً"1، وفيما يلي بيان هذه المصطلحات عند الصوفية باختصار:
1 -
الجمع:
وأما الجمع فهو "شهود الأشياء بالله والتبري من الحول والقوة إلا بالله، وجمع الجمعالاستهلاك بالكلية والفناء عما سوى الله وهو المرتبة الأحدية "2.
2 -
المحو:
والمحو هو "فناء وجود العبد في ذات الحق"3. و"محو الجمع والمحو الحقيقي فناء الكثرة في الوحدة"4. والمحو "رفع أوصاف العادة بحيث يغيب العبد عندها عن عقله، وتحصل منه أفعال وأقوال لا مدخل لعقله فيها؛ كالسكر من الخمر"5.
3 -
الاصطلام:
والاصطلام هو "نعت وله يرد على القلب تحت سلطانه "6. وقيل هو" الوله الغالب على القلب، وهو غلبات الحق الذي يجعل كلية العبد مغلوبة له بامتحان اللطف في نفي إرادته"7.
4 -
السكر:
أما تعريف السكر: فهو "غيبة بوارد قوي"8. وهو يعطي الطرب والإلتذاذ9.
وفي اصطلاحات الصوفية قال عن السكر: "ودرجته في النهايات الاصطلام بين سطوة الفناء واستقراره، وبداية البقاء بعده واستهلاكه"10.
1 - مجموع الفتاوى 11/10.
2 -
التعريفات ص105، وانظر: اصطلاحات ابن عربي ص287.
3 -
التوقيف ص 641.
4 -
اصطلاحات الصوفية ص90، وانظر: التعريفات ص258.
5 -
التعريفات ص258.
6 -
اصطلاحات ابن عربي ص 292، وانظر: اصطلاحات الصوفية ص15، التوقيف ص68.
7 -
المعجم الصوفي 24.
8 -
اصطلاحات ابن عربي ص288.
9 -
انظر: التعريفات ص159.
10 -
اصطلاحات الصوفية ص207.
5 -
الصعق:
والصعق هو"الفناء في الحق بالتجلي الذاتي"1.
وقالوا: "الصعق الغشية أو الذهاب أو الفناء، وذلك من مطالعة أنوار الحقائق، فالصعق دهشة، وسكر ناتج من تجلي أسرار الله على قلب العبد الصادق، وذلك في حال المشاهدة"2.
6 -
المشاهدة:
والمشاهدة "شهود الذات، بارتفاع الحجاب مطلقاً..ودرجتها شهود الحق ذاته بذاته، لفناء العبد بكليته في عين الجمع"3.
ومن خلال التعريف بهذه المصطلحات يتضح التقارب والاشتراك بينها في المعنى، والحكم على المتصف بها كما سبق في لفظ الفناء بمعناه عند الصوفية، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:"فالأحوال التي يعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك، إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض، فهي مع نقص صاحبها - لضعف تمييزه - لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقاً، ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقاً، وعظم هذا المقام، فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية قدراً وشرعاً، وغلط في خلق الله وفي أمره، حيث ظن أن وجود هذا؛ لا وجود له، وحيث ظن أنه ممدوح، ولا مدح في عدم التمييز: العقل والمعرفة"4.
1 - معجم الكلمات الصوفية ص49.
2 -
معجم ألفاظ الصوفية للدكتور الشرقاوي ص190.
3 -
معجم الكلمات الصوفية ص184 - 185.
4 -
مجموع الفتاوى 3/117.